دارِيُوس
اسم أُطلق في سجل الكتاب المقدس على ثلاثة ملوك كان احدهم ماديا والآخران فارسيين. ويرى البعض انه من المحتمل ان كلمة «داريوس» استُخدمت، على الاقل في حالة داريوس المادي، كلقب او اسم حمله الملك عند اعتلاء العرش، وليس كاسم شخصي.
١- داريوس المادي، وهو الذي خلف الملك الكلداني بيلشاصر عقب اخضاع بابل على يد قوات كورش الفارسي، وقد كان عمره آنذاك نحو ٦٢ سنة. (دا ٥:٣٠، ٣١) ويُذكر ايضا انه ‹ابن احشويروش، من نسل الماديين›. — دا ٩:١.
زاول داريوس مهامه الادارية، فعيّن ١٢٠ مرزبانا ليخدموا في كل انحاء المملكة، بالاضافة الى تعيينه ثلاثة وزراء كانت لديهم سلطة على المرازبة باعتبارهم مسؤولين عن الاهتمام بمصالح الملك. ويرجح ان الهدف الرئيسي من هذا الترتيب كان يتعلق بتدبير وإدارة الاموال، اذ ان جمع الايرادات والجزية الى الخزائن الملكية كان احد اهم واجبات المرازبة. (قارن عز ٤:١٣.) كان دانيال احد هؤلاء الوزراء الثلاثة المعينين، وقد اثبت تفوقه على الوزيرين الآخرين والمرازبة حتى ان داريوس ازمع على تعيينه كبيرا للوزراء. فتواطأ الوزيران الآخران مع المرازبة بسبب الشعور بالحسد كما يتضح، وربما ايضا بسبب الاستياء من استقامة دانيال التي كانت ستقف دون شك عائقا في طريق فسادهم وكسبهم المال بطريقة غير مشروعة، ونصبوا شركا لدانيال تحت ستار القانون. فمثلوا مجتمعين امام الملك وطلبوا منه ان يوقّع على قانون بدا كما لو ان هيئة الرسميين الحكوميين الرفيعي المستوى اجمعت عليه بكاملها (غير ان دانيال لم يُذكر). وكان هذا القانون سيمنع طيلة ٣٠ يوما ان تُطلب «طلبة من اله او انسان» غير داريوس. واقتُرح ان يُعاقب منتهك القانون بإلقائه في جب الاسود. لقد اوحى كل ما في هذا المرسوم بأنه سيعزز المركز الجديد لداريوس — الذي كان اجنبيا — كملك على المملكة، وبأنه تعبير عن ولاء وتأييد الرسميين الحكوميين الداعين الى تطبيقه. — دا ٦:١-٣، ٦-٨.
وقّع داريوس المرسوم، وسرعان ما واجه النتيجة التي كان ينبغي ان تكشف له الهدف وراءه. فقد أُلقي دانيال في جب الاسود باعتباره اول منتهك للقانون (قارن اع ٥:٢٩) لأنه استمر يصلي الى يهوه اللّٰه، وذلك رغم الجهود الدؤوبة التي بذلها داريوس ليتحايل بطريقة ما على هذا التشريع الذي لا يتغير. لكن داريوس عبّر عن ثقة بقدرة اله دانيال على حمايته. وبعدما امضى ليلة لم يذق فيها الطعام او النوم، هرع الى جب الاسود وفرح لدى رؤيته دانيال حيا لم يُصب بأي اذى. عندئذ، لم يكتفِ بإلقاء المشتكين على دانيال وعائلاتهم في جب الاسود كجزاء عادل، بل اصدر ايضا بلاغا في كل انحاء المملكة امر فيه ‹الناس في كل سلطان مملكته، بأن يرتعدوا ويخافوا قدام اله دانيال›. — دا ٦:٩-٢٧.
تُظهر السجلات التاريخية انه كان يجري تأليه وعبادة ملوك بلاد ما بين النهرين منذ الازمنة القديمة. ويرى معلقون كثيرون ان القيود التي فرضها مرسوم داريوس على تقديم ‹الطلبات› لم تشمل جميع انواع الطلبات، بل تلك التي من طبيعة دينية فقط. ووجود ‹جب للاسود› في بابل ينسجم مع شهادة الكتابات القديمة التي تُظهر انه كثيرا ما امتلك الحكام الشرقيون حظائر للحيوانات الوحشية. تعلق كتب سونسينو للكتاب المقدس (دانيال، عزرا ونحميا، ص ٤٩) على هذا الموضوع قائلة: «عُرف الفرس بأنهم ورثوا عن الملوك الاشوريين عادة الاحتفاظ بهذه الحيوانات في الحدائق التي لهم». — تحرير أ. كوهِن، لندن، ١٩٥١.
بعد الاصحاح ٦ من دانيال، لا يرد اسم داريوس مجددا إلا عند ذكر احداث جرت في «السنة الاولى» لحكمه. ففي تلك السنة «ميّز» دانيال ان خراب يهوذا سيدوم ٧٠ سنة ونال الكشف المتعلق بالاسابيع الـ ٧٠ النبوية وبمجيء المسيا. (دا ٩:١، ٢، ٢٤-٢٧) والملاك الذي منح دانيال الرؤيا، التي تصف مساعي «ملك الشمال» و «ملك الجنوب»، اوضح ايضا انه خدم في وقت سابق كملاك مقوٍّ وكحصن خلال السنة الاولى لداريوس المادي. (دا ١١:١، ٦) وقد اعتقد المعلقون عموما ان الملاك قدّم هذه الخدمة لداريوس، ولكن من المرجح اكثر كما يبدو انها قُدمت لميخائيل الذي يُذكر في العدد السابق (دا ١٠:٢١) انه كان يناضل مع هذا الرسول الملائكي بالذات. وهكذا، تعاونت الملائكة وتضافرت على النضال ضد ‹رئيس فارس› الابليسي الذي سعى الى الحؤول دون اتمام مقاصد يهوه. — دا ١٠:١٣، ١٤.
تحديد هوية داريوس المادي: لم يُعثر حتى الآن على اية اشارة الى «داريوس المادي» خارج الكتاب المقدس، كما لا يأتي على ذكره المؤرخون الدنيويون القدماء الذين سبقوا يوسيفوس (مؤرخ يهودي في القرن الاول بم). لذلك اتخذ نقاد كثيرون هذا الامر اساسا او ذريعة للقول ان داريوس المادي كان شخصية خيالية.
يقول بعض العلماء ان كورش نصّب ابنه قمبيز (الثاني) ‹ملكا على بابل› بُعيد اخضاع هذه المدينة. وفي حين ان قمبيز كما يتضح مثّل اباه سنويا في الاحتفال «بالسنة الجديدة» في بابل، يبدو انه كان يقيم باقي الوقت في سيپار. وتشير الابحاث المؤسسة على دراسة النصوص المسمارية انه لم يتخذ كما يتضح لقب «ملك بابل» حتى الاول من نيسان القمري سنة ٥٣٠ قم، حين جُعل شريكا في الحكم مع كورش الذي كان يشرع آنذاك في القيام بالحملة التي اودت بحياته. والمحاولة الرامية الى الربط بين داريوس وقمبيز الثاني ابن كورش لا تنسجم مع كون داريوس «ابن اثنتين وستين سنة» عند سقوط بابل. — دا ٥:٣١.
والرأي القائل ان داريوس ربما يكون اسما آخر لكورش نفسه لا ينسجم مع كون داريوس «ماديا» وأيضا «من نسل الماديين»، عبارة تشير الى ان اباه احشويروش هو مادي. فكورش يدعى بشكل واضح ‹فارسيا›؛ ومع ان امه ربما كانت مادية كما يدّعي بعض المؤرخين، فإن اباه بحسب اسطوانة كورش هو قمبيز الاول الذي كان رجلا فارسيا. — دا ٩:١؛ ٦:٢٨.
يقرن آخرون داريوس بشخص يُزعم انه «خال» كورش، وهو الذي يدعوه المؤرخ اليوناني زينوفون «سياكسار، ابن أستياجِس». ويروي زينوفون ان سياكسار هذا خلف الملك المادي أستياجِس على عرشه، لكنه في وقت لاحق اعطى ابنته وكل بلاد مادي الى ابن اخته كورش. (كيروبيديا، ١، ٥، ٢؛ ٨، ٥، ١٩) غير ان روايتي كل من هيرودوتس وكتسياس (مؤرخان يونانيان عاصرا زينوفون فترة من الوقت) تناقضان تلك التي لزينوفون، حتى ان هيرودوتس يقول ان أستياجِس مات دون بنين. كما تُظهر تواريخ نبونيد ان كورش فاز بالملك على الماديين بأسر أستياجِس. علاوة على ذلك، ان تحديد هوية داريوس بأنه سياكسار الثاني تتطلب الافتراض ان أستياجِس كان معروفا ايضا بالاسم احشويروش، اذ ان داريوس المادي كان ‹ابن احشويروش›. (دا ٩:١) وهكذا لا يوجد ما يثبت هذا الرأي.
مَن هو حقا داريوس المادي؟
يحبذ عدد من المراجع في الآونة الاخيرة تحديد هوية داريوس بأنه جوبارو (الذي يُعتقد عموما انه جوبرياس المذكور في كيروبيديا لزينوفون) الذي اصبح حاكما على بابل بعد فتح هذه المدينة على يد الماديين والفرس. وتزود هذه المراجع من حيث الاساس الادلة التالية:
يذكر النص المسماري القديم المعروف بتواريخ نبونيد، عند الحديث عن سقوط بابل، ان أُجبارو «والي ڠوتيوم وقائد جيش كورش دخل بابل من دون معركة». وعقب التحدث عن دخول كورش المدينة بعد ١٧ يوما، يذكر النقش ان جوبارو «الحاكم عنده، عيّن حكاما (معاونين) في بابل». (نصوص الشرق الادنى القديمة، تحرير ج. پريتشارد، ١٩٧٤، ص ٣٠٦؛ قارن داريوس المادي، بقلم ج. ك. ويتكوم، ١٩٥٩، ص ١٧.) لاحظ ان هنالك اختلافا بين الاسمين «أُجبارو» و «جوبارو». ففي حين انهما يبدوان متشابهين، تُظهر طريقة الكتابة المسمارية ان الرمز الكتابي للمقطع اللفظي الاول في اسم أُجبارو مختلف تماما عن ذاك الذي في اسم جوبارو. وتذكر تواريخ نبونيد ان أُجبارو والي ڠوتيوم مات بعد اسابيع قليلة من فتح بابل، فيما تُظهر نصوص مسمارية اخرى ان جوبارو بقي حيا وشغل منصب حاكم طوال ١٤ سنة لا على مدينة بابل فحسب، بل على كامل منطقة بلاد بابل (بابلونية) وعلى «المنطقة ما وراء النهر» التي ضمت ارام وفينيقية وفلسطين نزولا الى الحدود المصرية. وهكذا كان جوبارو حاكما على كامل منطقة الهلال الخصيب التي هي من حيث الاساس نفس المنطقة التي شملتها الامبراطورية البابلية. ومن الجدير بالذكر ان السجل يتحدث عن داريوس المادي بأنه «مُلك على مملكة الكلدانيين» (دا ٥:٣١؛ ٩:١) ولا يصفه بأنه «ملك فارس»، التعبير الذي يُشار به عادة الى الملك كورش. (دا ١٠:١؛ عز ١:١، ٢؛ ٣:٧؛ ٤:٣) اذا، يبدو على الاقل ان المنطقة التي حكمها جوبارو هي ذات المنطقة التي حكمها داريوس.
بما ان جوبارو لا يُدعى ألبتة «داريوس»، يُعتقد ان هذه الكلمة كانت لقبه او الاسم الذي حمله عند اعتلاء العرش. يذكر و. ف. ألبرايت: «من المحتمل جدا في نظري ان جوبرياس [جوبارو] تقلد المنصب الملكي واتخذ الاسم ‹داريوس›، الذي ربما هو لقب ملكي ايراني قديم، اثناء غياب كورش في حملة في الشرق». (مجلة مطبوعات الكتاب المقدس، ١٩٢١، المجلد ٤٠، ص ١١٢، الحاشية ١٩) وردا على الاعتراض القائل ان الالواح المسمارية لا تتحدث مطلقا عن جوبارو بصفته «ملكا»، يشير الذين يؤيدون تحديد هوية جوبارو بأنه الملك داريوس الى ان لقب ملك لم يُطلق ايضا على بيلشاصر في الالواح المسمارية، مع ان الوثيقة المسمارية المعروفة بـ «رواية نبونيد» تذكر بوضوح ان نبونيد «اوكل الملك» الى ابنه.
وفي هذا الصدد يشير البروفسور ويتكوم الى انه بحسب تواريخ نبونيد، قام جوبارو بصفته حاكم منطقة عند كورش «بتعيين . . . (حكام مناطق) في بابل»، تماما كما تذكر دانيال ٦:١، ٢ ان داريوس ‹اقام على المملكة مئة وعشرين مرزبانا›. بناء على ذلك، يرى ويتكوم ان جوبارو، بصفته حاكما على سائر الحكام، كان يُدعى ملكا من قبل الحكام الخاضعين له. (داريوس المادي، ص ٣١-٣٣) كما يقول أ. ت. اولمستيد مشيرا الى المنطقة الشاسعة التي سيطر عليها جوبارو (جوبرياس): «لقد حكم جوبرياس [جوبارو] كملك مستقل تقريبا على كل هذا الامتداد الفسيح من الاراضي الخصبة». — تاريخ الامبراطورية الفارسية، ١٩٤٨، ص ٥٦.
انسجاما مع ما ذُكر آنفا، يرجح بعض العلماء ان داريوس المادي كان في الواقع نائب ملك حكم على مملكة الكلدانيين، انما كان تابعا لكورش الملك الاسمى للامبراطورية الفارسية. يقول أ. ت. اولمستيد: «في تعاملات كورش مع رعاياه البابليين، كان هو ‹ملك بابل، ملك البلاد›. وإذ اكد بذلك ان سلالة الملوك القديمة لم تنقطع، اشبع غرورهم وكسب ولاءهم . . . لكن جوبرياس المرزبان هو الذي مثّل السلطة الملكية بعد رحيل الملك». (تاريخ الامبراطورية الفارسية، ص ٧١) والذين يرون ان داريوس المذكور في الكتاب المقدس كان فعلا نائبا للملك يشيرون الى التعابير التي تذكر انه «اخذ المملكة» وأنه «مُلك على مملكة الكلدانيين» كدليل على تبعيته لملك اسمى. — دا ٥:٣١؛ ٩:١؛ قارن ٧:٢٧ حيث يعطي «العلي» يهوه اللّٰه المملكة ‹لقدوسيه›.
مع ان المعلومات المتوفرة عن جوبارو تشبه من نواح عديدة كما يبدو تلك المتعلقة بداريوس، ومع ان داريوس ربما كان نائب ملك خاضعا لكورش، لا يمكن الجزم بأنهما الشخص نفسه. فالسجلات التاريخية لا تخبرنا شيئا عن قومية جوبارو او نسبه يمكن ان يُستدل من خلاله انه كان ‹ماديا› و ‹ابن احشويروش›. كما لا تُظهر انه كان يتمتع بسلطة ملكية تخوله ان يصدر بلاغا او قانونا كذاك الموصوف في دانيال ٦:٦-٩. علاوة على ذلك، يشير سجل الكتاب المقدس على ما يبدو الى ان حكم داريوس على بابل لم يدم طويلا وأن كورش تولى الملك عليها من بعده، مع انه يُحتمل انهما حكما معا وأن دانيال ذكر بشكل خصوصي السنة التي برز فيها داريوس في بابل. (دا ٦:٢٨؛ ٩:١؛ ٢ اخ ٣٦:٢٠-٢٣) اما جوبارو فظل يشغل مركزه طيلة ١٤ عاما.
لمَ هويته التاريخية غير اكيدة؟
لا تتوقف صحة رواية الكتاب المقدس دون شك على تأكيد المصادر الدنيوية لها. والحالات الكثيرة التي رفض فيها النقاد في ما مضى شخصيات او احداثا مسجلة في الكتاب المقدس على انها ‹غير تاريخية›، ثم تبرهن في النهاية بشكل لا يمكن انكاره انها حقيقية، ينبغي ان تقي تلميذ كلمة اللّٰه من اقامة وزن كبير للنقد السلبي. (انظر «بِيلْشاصَّر»؛ «سَرْجُون».) كما ان مئات آلاف الالواح المسمارية التي نُبشت في الشرق الاوسط لم تقدّم حتى الآن سوى تاريخ ناقص جدا فيه الكثير من الثغرات والفراغات. اما بالنسبة الى المصادر الاخرى، كالمؤرخين الدنيويين القدماء — الذين بقيت نسخ من كتاباتهم حتى يومنا هذا (مع انها غير كاملة في الغالب) — فكانوا قليلي العدد ويونانيين في معظمهم، كما فصل بينهم وبين الحوادث المسجلة في سفر دانيال قرن او اثنان او اكثر.
ولكن ثمة سبب اقوى لنقص المعلومات المتعلقة بداريوس في السجلات البابلية يزوده سفر دانيال نفسه. فالسفر يُظهر ان داريوس قلّد دانيال منصبا حكوميا رفيعا، الامر الذي جعل الكره ينمو في قلب الوزيرين الآخرين. وحين اخفقت المكيدة التي حيكت ضد دانيال، وأعدم داريوس المشتكين عليه مع عائلاتهم، ثار على الارجح عداء الرسميين الباقين. ولا بد ان بلاغ داريوس، الذي امر فيه الناس في كل المملكة ‹ان يخافوا قدام اله دانيال›، سبب استياء وامتعاضا شديدين بين رجال الدين البابليين ذوي النفوذ. وبما ان الكتّاب كانوا يعملون قطعا تحت اشراف الاشخاص المذكورين آنفا، فليس غريبا مطلقا ان تكون السجلات قد عُدلت لاحقا وحُذفت الادلة المتعلقة بداريوس. فمن المعروف ان امورا مماثلة كانت تجري في تلك الازمنة.
اذًا، لا بد ان يُمنح الحكم الثنائي لمادي وفارس الذي يذكره الكتاب المقدس الاهمية التي يستحقها. (دا ٥:٢٨؛ ٨:٣، ٤، ٢٠) فمع ان التاريخ الدنيوي يمنح كورش والفرس المكانة البارزة، يُظهر سجل الكتاب المقدس ان الماديين استمروا بشكل واضح يتشاركون في الحكم مع الفرس، وأن القوانين ظلت تُعتبر قوانين «الماديين والفرس». (دا ٦:٨؛ اس ١:١٩) كما ان الماديين لعبوا دورا رئيسيا في الاطاحة ببابل. (اش ١٣:١٧-١٩) لاحظ ايضا ان ارميا (٥١:١١) انبأ ان «ملوك الماديين» سيكونون بين مهاجمي بابل. ومن المرجح جدا ان داريوس كان احد هؤلاء الملوك.
٢- داريوس هستاسپس، ويُدعى ايضا داريوس الكبير او داريوس الاول (فارسي). يُعتبر داريوس هذا احد ابرز حكام الامبراطورية الفارسية. وهو يصف نفسه انه «ابن هستاسپس، اخميني، فارسي، ابن فارسي، آري، من النسل الآري». (تاريخ الامبراطورية الفارسية، ص ١٢٢، ١٢٣) وهكذا يكون قد ادعى انه متحدر من سلالة ملكية ومن نفس السلف الذي تحدر منه كورش الكبير، مع ان فرع عائلته مختلف عن فرع عائلة كورش.
عقب موت قمبيز الثاني اثناء عودته من مصر سنة ٥٢٢ قم، تقلد العرش الفارسي فترة قصيرة اخوه برديا (او ربما مجوسي يُدعى ڠوماتا). لكن داريوس قتله بمساعدة ستة من الاشراف في فارس وأخذ الملك لنفسه. والرواية التي يقصها داريوس حول هذه الحادثة مدونة بثلاث لغات في النقش الضخم الذي نحته في بهيستون على جروف شديدة الانحدار كانت تشرف على السهل الذي تمر فيه الطريق الرئيسية للقوافل الممتدة من بغداد الى طهران. وبحسب هذا النقش اغتصب ڠوماتا العرش مدعيا انه اخو قمبيز، هذا الاخ الذي كان قد قُتل. وفي حين يعتبر معظم العلماء العصريين هذه الرواية (التي تزخر بتأكيدات من داريوس انها «حقيقة وليست اكاذيب») واقعية من حيث الاساس، يعتقد البعض ان داريوس كان «كذابا كبيرا» وأن الادلة تشير الى كونه المغتصب الفعلي للعرش. على اية حال، واجه داريوس لدى توليه الملك امبراطورية في حالة ثورة، ويُعتقد انه امضى السنتين التاليتين يقمع العناصر المتمردة في كل انحاء الامبراطورية. وقد اخضع داريوس مصر من جديد نحو سنة ٥١٩-٥١٨ قم، بعد ان كانت قد تحررت من النير الفارسي. ثم وسّع حدود امبراطوريته شرقا الى الهند وغربا الى تراقيا ومقدونية. وعُرف ايضا بأنه اعاد تنظيم البنية الادارية بشكل فعال في ارجاء الامبراطورية وبأنه وضع مجموعة شرائع دُعيت قانون الانظمة الجيدة. كما اعاد فتح القناة التي تصل نهر النيل في مصر بالبحر الاحمر.
برز ذكر داريوس هستاسپس في سجل الكتاب المقدس في ما يتعلق بإعادة بناء الهيكل في اورشليم بشكل خصوصي. فقد وُضعت اساسات الهيكل سنة ٥٣٦ قم، لكن عمل اعادة البناء حُظر سنة ٥٢٢ قم و «بقي متوقفا الى السنة الثانية من ملك داريوس» (٥٢٠ قم). (عز ٤:٤، ٥، ٢٤) وفي هذه السنة، حث النبيان حجاي وزكريا اليهود على استئناف البناء، فبوشر العمل مجددا. (عز ٥:١، ٢؛ حج ١:١، ١٤، ١٥؛ زك ١:١) وقد ادى ذلك الى قيام تتناي، الوالي الذي كان يمثّل مصالح الامبراطورية غرب الفرات، والرسميين الآخرين بالاستعلام عن الامر وإرسال رسالة الى الملك الفارسي داريوس. فأحاطوه علما في الرسالة بعمل البناء وبادعاء اليهود ان العمل الذي يقومون به شرعي، وطلبوا منه اجراء استقصاء في السجلات الملكية لمعرفة ما اذا كان هنالك دليل خطي يثبت ادعاءهم هذا. (عز ٥:٣-١٧) ولا بد ان كلمات اليهود التي ابرزت الفرق بين نبوخذنصر الكلداني الذي دمر الهيكل وكورش الفارسي الذي اجاز اعادة بنائه كان لها وقع جيد ومؤات على داريوس. فكان هذا الملك قد سبق وقمع، في سنوات حكمه الاولى، ثورتين قام بهما متمردان اتخذ كل منهما الاسم نبوخذنصر (يدعوهما المؤرخون نبوخذنصر الثالث ونبوخذنصر الرابع)، متمردان ادعيا انهما ابنا نبونيد وسعيا الى جعل بابل مستقلة عن الامبراطورية الفارسية.
اسفر البحث الرسمي في بيت السجلات في احمثا، عاصمة مادي القديمة، عن ايجاد وثيقة كورش. فأصدر داريوس اوامر للوالي تتناي بألا يتدخل هو والرسميون الآخرون في عمل الهيكل، وأن تُعطى ايضا نفقة البناء «من الخزانة الملكية، من ضريبة عبر النهر»، فضلا عن تزويد اليهود بالحيوانات والحاجيات اللازمة لتقديم القرابين. وأي شخص يخالف امر الملك كان سيُعلق على خشبة و «يتحول بيته الى مرحاض». — عز ٦:١-١٢.
نتيجة لهذا التعاون من قبل الرسميين والتشجيع المستمر الذي استُمد من كلام الانبياء (زك ٧:١؛ ٨:١-٩، ٢٠-٢٣)، أُكمل عمل بناء الهيكل بنجاح «في اليوم الثالث من الشهر القمري اذار، في السنة السادسة من ملك داريوس». (عز ٦:١٣-١٥؛ في ٦ آذار سنة ٥١٥ قم) وبما ان نقوش داريوس تُظهر انه كان متعبدا مخلصا لأهورا مزدا، يتضح ان ما فعله — رغم انه ساهم في اتمام قصد يهوه اللّٰه وتم دون شك بتوجيه منه — كان من حيث الاساس بدافع الاحترام للشرائع المادية الفارسية التي لا تُنقض، كما كان منسجما مع سياسة التسامح التي اتبعتها حكومته والتي تتضمن بعض نقوشه ادلة عليها.
الحملات اللاحقة في اليونان: بحلول القرن التالي، ثارت مدن يونانية كثيرة في أيونيا على الهيمنة الفارسية. ومع ان هذه الثورات قُمعت، صمم داريوس على معاقبة اثينا وإريتريا لتقديمهما العون للمدن المتمردة. فاجتاح الفرس اليونان، لكن جيوش داريوس مُنيت بالهزيمة في معركة ماراثون سنة ٤٩٠ قم. ورغم ان داريوس اجرى بعناية الاستعدادات اللازمة ليقوم بحملة اخرى على اليونان، لم يتمكن من تنفيذها قبل موته سنة ٤٨٦ قم. وقد خلفه ابنه احشويروش.
٣- تتحدث نحميا ١٢:٢٢ عن تسجيل الرؤوس اللاويين لبيوت الآباء «في ايام ألياشيب ويوياداع ويوحانان ويدوع . . . الى ملك داريوس الفارسي». وبما ان ألياشيب كان رئيس كهنة حين عاد نحميا الى اورشليم (نح ٣:١) ويوياداع كان لديه ابن متزوج بحلول الوقت الذي زار فيه نحميا هذه المدينة مرة ثانية (بعد السنة الـ ٣٢ لأرتحشستا [٤٤٣ قم]؛ نح ١٣:٢٨)، فمن المرجح ان «داريوس» المذكور آنفا هو داريوس أوخس (يُدعى ايضا نوثوس) الذي حكم من سنة ٤٢٣ الى سنة ٤٠٥ قم.
وقد وُجدت رسالة بين برديات إليفانتين يُعتقد ان تاريخها يعود الى السنوات الاخيرة من القرن الخامس قم، وهي تشير الى «يوحانان» بصفته رئيس كهنة في اورشليم في تلك الفترة.