الفصل ٤
الارتداد العظيم يتطور
«رب واحد ايمان واحد.» (افسس ٤:٥) عندما كتب الرسول بولس تحت الوحي هذه الكلمات (نحو السنة ٦٠-٦١ بم)، لم يكن هنالك سوى ايمان مسيحي واحد. ولكننا نرى اليوم وفرة من المِلَل، الطوائف، والعبادات التي تدَّعي انها مسيحية، على الرغم من انها تعلِّم عقائد متناقضة وتتمسك بمقاييس سلوك مختلفة. ويا للفرق الشاسع بينها وبين الجماعة المسيحية المتَّحدة الواحدة التي بدأت في يوم الخمسين سنة ٣٣ بم! فكيف حدثت هذه الانقسامات؟ من اجل الجواب، يجب ان نعود الى القرن الاول لعصرنا الميلادي.
من البداية، حاول الخصم، الشيطان، إسكات شهادة الشهود المسيحيين ليهوه بجلبه عليهم اضطهادا من الذين هم خارج الجماعة. (١ بطرس ٥:٨) اولا اتى ذلك من اليهود ثم من الامبراطورية الرومانية للامم. واحتمل المسيحيون الاولون بنجاح كل انواع المقاومة. (قارنوا رؤيا ١:٩؛ ٢:٣، ١٩.) لكنَّ الخصم لم يستسلم. فإذا كان لا يستطيع إسكاتهم بالضغط من الذين هم في الخارج، فلِمَ لا يُفسدهم من الداخل؟ وبينما كانت الجماعة المسيحية لا تزال في طفولتها، جرى تهديد وجودها من قبل عدو داخلي — الارتداد.a
إلا ان الارتداد لم يدخل خلسة الى الجماعة دون اعلان. فبصفته رأس الجماعة، كان المسيح على يقين من ان أتباعه جرى تحذيرهم مسبقا. — كولوسي ١:١٨.
«سيكون فيكم . . . معلِّمون كذبة»
«احترزوا،» حذَّر يسوع، «من الانبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان.» (متى ٧:١٥) عرف يسوع ان الشيطان سيحاول ان يقسِّم ويفسد أتباعه. ولذلك منذ وقت باكر في خدمته، حذَّرهم من المعلِّمين الكذبة.
فمن اين كان سيأتي هؤلاء المعلِّمون الكذبة؟ «منكم انتم،» قال الرسول بولس نحو السنة ٥٦ بم، عندما كان يتكلم الى نظار افسس. نعم، من داخل الجماعة، كان «سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم.» (اعمال ٢٠:٢٩، ٣٠) ان مرتدّين انانيين كهؤلاء لن يكتفوا بصنع تلاميذ لهم؛ فهم سيسعون الى ان «يجتذبوا التلاميذ،» اي تلاميذ المسيح.
والرسول بطرس (نحو السنة ٦٤ بم) سبق وأنبأ ايضا بفساد داخلي حتى انه وصف الطريقة التي سيعمل بها مثل هؤلاء المرتدّين: «سيكون فيكم . . . معلِّمون كذبة الذين يدسّون بدع هلاك . . . في الطمع يتَّجرون بكم بأقوال مصنَّعة.» (٢ بطرس ٢:١، ٣) وكالجواسيس او الخوَنة في معسكر للعدو، فان المعلِّمين الكذبة، على الرغم من انهم يقومون من داخل الجماعة، كانوا سيسرِّبون افكارهم المفسِدة بطريقة سرية او خداعة.
ان هذه التحذيرات من يسوع ورسله لم تكن باطلة. فالمقاومة الداخلية كانت لها بدايات صغيرة، لكنها ظهرت في وقت باكر في الجماعة المسيحية.
«الآن يعمل»
في اقل من ٢٠ سنة بعد موت يسوع، اشار الرسول بولس الى ان جهود الشيطان ليسبِّب انقساما ويحوِّل الناس عن الايمان الحقيقي كانت ‹الآن تعمل.› (٢ تسالونيكي ٢:٧) وباكرا نحو السنة ٤٩ بم، في رسالة أُرسلت الى الجماعات، ذكرت الهيئة الحاكمة: «قد سمعنا ان اناسا خارجين من عندنا ازعجوكم بأقوال مقلِّبين انفسكم. . . . الذين نحن لم نأمرهم.» (اعمال ١٥:٢٤) وهكذا فان البعض داخل الجماعة كانوا يجاهرون بوجهة نظرهم المعارِضة — وفي هذه الحالة كما يتضح في مسألة ما اذا كان يلزم المسيحيين الامميين ان يختتنوا ويحفظوا الناموس الموسوي. — اعمال ١٥:١، ٥.
واذ كان القرن الاول يتقدم، انتشر التفكير المقسِّم كآكلة. (قارنوا ٢ تيموثاوس ٢:١٧.) وبحلول السنة ٥١ بم تقريبا، كان البعض في تسالونيكي يتنبأون خطأ بأن «حضور» الرب يسوع انما هو وشيك. (٢ تسالونيكي ٢:١، ٢، عج) وبحلول السنة ٥٥ بم تقريبا، كان البعض في كورنثوس يرفضون التعليم المسيحي الواضح المتعلق بقيامة الاموات. (١ كورنثوس ١٥:١٢) ونحو السنة ٦٥ بم، قال آخرون ان القيامة قد سبقت وحصلت، بكونها من نوع مجازي يختبره المسيحيون الاحياء. — ٢ تيموثاوس ٢:١٦-١٨.
ليست هنالك سجلات موحى بها في ما يتعلق بما حصل داخل الجماعة المسيحية خلال الـ ٣٠ سنة التالية. ولكن في الوقت الذي كتب فيه الرسول يوحنا رسائله (نحو السنة ٩٨ بم)، كان هنالك «اضداد للمسيح كثيرون» — اشخاص كانوا ينكرون ان «يسوع هو المسيح» وأن يسوع هو ابن اللّٰه الذي جاء «في الجسد.» — ١ يوحنا ٢:١٨، ٢٢؛ ٤:٢، ٣.
ولأكثر من ٦٠ سنة، كان الرسل قد ‹عملوا كرادع،› ساعين الى كبح تيار الارتداد. (٢ تسالونيكي ٢:٧، عج؛ قارنوا ٢ يوحنا ٩، ١٠.) ولكن اذ كانت الجماعة المسيحية على وشك دخول القرن الثاني، مات الرسول الاخير الباقي حيا، يوحنا، نحو السنة ١٠٠ بم. والارتداد الذي كان قد ابتدأ ببطء يدخل خلسة الى الجماعة صار الآن مستعدا للاندفاع دون رادع، بتأثيرات تنظيمية وعقائدية مدمِّرة واسعة الانتشار.
رجال الدين وعامة الشعب
«انتم جميعا اخوة،» قال يسوع لتلاميذه. «قائدكم واحد، المسيح.» (متى ٢٣:٨، ١٠، عج) لذلك لم يكن هنالك صف رجال دين داخل الجماعات المسيحية للقرن الاول. فكإخوة للمسيح ممسوحين بالروح، كان لدى كل المسيحيين الاولين توقُّع الصيرورة كهنة سماويين مع المسيح. (١ بطرس ١:٣، ٤؛ ٢:٥، ٩) وبالنسبة الى التنظيم، كانت تشرف على كل جماعة هيئة من النظار، او الشيوخ الروحيين.b وكل الشيوخ كانت لديهم سلطة متساوية، ولم يُفوَّض الى ايّ منهم ان «يسود» على الرعية التي بينهم. (اعمال ٢٠:١٧؛ فيلبي ١:١؛ ١ بطرس ٥:٢، ٣) ولكن، اذ ظهر الارتداد للعيان، ابتدأت الامور تتغير — بسرعة.
وبين الانحرافات الابكر كان الفصل بين التعبيرين «ناظر» (باليونانية، اپيسكوپوس) و «شيخ» (باليونانية، پرسبيتيروس)، بحيث لم يعودا يُستعملان للاشارة الى مركز المسؤولية عينه. وفقط بعد عقد او نحو ذلك من موت الرسول يوحنا، كتب إغناطيوس، «اسقف» انطاكية، في رسالته الى اهل سميرنا: «لازموا الاسقف [الناظر] ملازمةَ المسيح أباه، واتبعوا لفيفَ هيئة المشايخ [presbytery] اتِّباعكم الرسل.» وهكذا ايَّد إغناطيوس ان تكون كل جماعة تحت اشراف اسقف،c او ناظر، واحد، كان يجب الاعتراف به بصفته مميَّزا عن، ويملك سلطة اعظم من، لفيف المَشْيخة.
ولكن، كيف حدث هذا الفصل؟ ان اوغسطس نياندر، في كتابه تاريخ الدين المسيحي والكنيسة، خلال القرون الثلاثة الاولى، يوضح ما حصل: «في القرن الثاني . . .، لا بد انه تشكَّل المنصب الثابت لرئيس المشايخ، الذي له أُعطي الاسم [اپيسكوپوس]، نظرا الى حيازته بشكل خصوصي الاشراف على كل شيء، وكان بذلك مميَّزا عن باقي المشايخ.»
وهكذا وُضع الاساس لكي يظهر تدريجيا صف رجال دين. وبعد قرن تقريبا، صار كبريانوس، «اسقف» قرطاجة، افريقيا الشمالية، مدافعا قويا عن سلطة الاساقفة — كفريق منفصل عن المشايخ (الذين عُرفوا في ما بعد بالكهنةd)، الشمامسة، وعامة الشعب. لكنه لم يؤيد حيازة اسقف واحد السلطة العليا على الآخرين.e
واذ صعد الاساقفة والمشايخ سلَّم السلطة التسلسلية، تركوا في اسفله باقي المؤمنين في الجماعة. فأدى هذا الى فصل بين رجال الدين (الذين يأخذون القيادة) وعامة الشعب (هيئة المؤمنين المذعنة). تشرح دائرة معارف مكلنتوك وسترونڠ: «من زمن كبريانوس [الذي مات نحو السنة ٢٥٨ بم]، ابي نظام السلطة التسلسلية، صار التمييز بين رجال الدين وعامة الشعب بارزا، وسرعان ما اعتُرف بذلك في كل مكان. وفي الواقع، من القرن الثالث فصاعدا، صار التعبير clerus . . . ينطبق بشكل حصري تقريبا على الكهنوت لتمييزه من عامة الشعب. واذ تطورت السلطة التسلسلية الرومانية، لم يعد صف رجال الدين مجرد رتبة مميَّزة . . . بل صار يُعترَف به ايضا بصفته الكهنوت الوحيد.»
وهكذا، في غضون ١٥٠ سنة او نحو ذلك بعد موت آخر الرسل، دخل تغييران تنظيميان مهمان الى الجماعة: اولا، الفصل بين الاسقف والمشايخ، اذ يشغل الاسقف المركز الاعلى في سلَّم السلطة التسلسلية؛ وثانيا، الفصل بين رجال الدين وعامة الشعب. وبدلا من كل المؤمنين المولودين من الروح الذين يشكِّلون ‹كهنوتا ملوكيا،› صار صف رجال الدين الآن «يُعترَف به . . . بصفته الكهنوت الوحيد.»f — ١ بطرس ٢:٩.
ان تغييرات كهذه وسمت انحرافا عن طريقة الاسفار المقدسة لتوجيه الجماعات في ايام الرسل. إلا ان التغييرات التنظيمية لم تكن النتائج الوحيدة للارتداد.
التعاليم الوثنية تتسلَّل
ان تعاليم المسيح النقية هي مادة مدوَّنة — فهي محفوظة في الاسفار المقدسة. مثلا، علَّم يسوع بوضوح ان يهوه هو «الاله الحقيقي الوحيد» وأن النفس البشرية تموت. (يوحنا ١٧:٣، عج؛ متى ١٠:٢٨) ولكن، بموت الرسل وضعف البنية التنظيمية، أُفسدت مثل هذه التعاليم الواضحة اذ تسلَّلت العقائد الوثنية الى المسيحية. فكيف امكن حدوث شيء كهذا؟
احد العوامل الرئيسية كان التأثير الماكر للفلسفة اليونانية. توضح دائرة المعارف البريطانية الجديدة: «من اواسط القرن الـ ٢ للميلاد ابتدأ المسيحيون الذين تدرَّبوا بعض الشيء في الفلسفة اليونانية يشعرون بالحاجة الى التعبير عن ايمانهم بتعابيرها، من اجل اشباع رغباتهم العقلية الخاصة وبغية هداية الوثنيين المثقفين على السواء.» وعندما صار الاشخاص ذوو العقول الفلسفية مسيحيين، لم يلزم وقت طويل لتصير الفلسفة اليونانية و «المسيحية» مترابطتين على نحو لا ينفصل.
ونتيجة لهذا الاتحاد، تسلَّلت العقائد الوثنية كالثالوث وخلود النفس الى المسيحية المفسَدة. لكنَّ هذه التعاليم تعود الى ابعد من الفلاسفة اليونان. فاليونان اكتسبوها في الواقع من ثقافات اقدم، لأن هنالك دليلا على مثل هذه التعاليم في الاديان المصرية والبابلية القديمة.
واذ استمرت العقائد الوثنية في التسلُّل الى المسيحية، جرى تشويه او هجر تعاليم اخرى للاسفار المقدسة ايضا.
رجاء الملكوت يتلاشى
كان تلاميذ يسوع مدركين جيدا انه يجب عليهم ان يبقوا متيقظين لـ «حضور» يسوع الموعود به ومجيء ملكوته. ومع الوقت جرى الادراك ان هذا الملكوت سيحكم على الارض لفترة الف سنة ويحوِّلها الى فردوس. (متى ٢٤:٣، عج؛ ٢ تيموثاوس ٤:١٨؛ رؤيا ٢٠:٤، ٦) ونصح كتبة الكتاب المقدس المسيحيون شهود القرن الاول ان يبقوا صاحين روحيا وأن يبقوا منفصلين عن العالم. (يعقوب ١:٢٧؛ ٤:٤؛ ٥:٧، ٨؛ ١ بطرس ٤:٧) ولكن عندما مات الرسل، تلاشى التوقُّع المسيحي لحضور المسيح ومجيء ملكوته. ولماذا؟
احد العوامل كان التلوُّث الروحي الذي سببته عقيدة خلود النفس اليونانية. واذ ترسَّخت بين المسيحيين، جرى هجر الرجاء الالفي تدريجيا. ولماذا؟ يوضح القاموس الاممي الجديد للاهوت العهد الجديد: «دخلت عقيدة خلود النفس لتحل محل الأُخرويات [التعليم عن «الامور الاخيرة»] التي للعهد الجديد مع رجائها بقيامة الموتى والخليقة الجديدة (رؤيا ٢١ وما يليه)، بحيث تنال النفس الدينونة بعد الموت وتبلغ الفردوس الذي يُعتقد الآن انه أُخروي.» وبكلمات اخرى، اعتقد المسيحيون المرتدّون ان النفس تبقى حية بعد موت الجسد وأن بركات حكم المسيح الالفي يجب اذًا ان ترتبط بالحيز الروحي. وهكذا حوَّلوا الفردوس من الارض الى السماء، التي اعتقدوا ان النفس الخالصة تبلغها عند الموت. اذًا، لم تكن هنالك حاجة الى التيقُّظ لحضور المسيح ومجيء ملكوته، لأنه عند الموت رجوا كلهم ان ينضموا الى المسيح في السماء.g
ولكن هنالك في الواقع عامل آخر جعل التيقُّظ لمجيء ملكوت المسيح يبدو تافها. توضح دائرة المعارف البريطانية الجديدة: «ان التأخر [الظاهري] لپاروسيا ادى الى إضعاف التوقُّع الوشيك في الكنيسة الباكرة. وفي عملية ‹نقض الأُخرويات› [إضعاف التعليم عن «الامور الاخيرة»] هذه، حلَّت الكنيسة المؤسسة اكثر فأكثر محل ملكوت اللّٰه المتوقَّع. وتشكُّل الكنيسة الكاثوليكية كمؤسسة ذات سلطة تسلسلية متعلق مباشرة بانخفاض التوقُّع الوشيك.» (الحروف المائلة لنا.) لذلك لم تتحوَّل بركات الحكم الالفي من الارض الى السماء فحسب لكنَّ الملكوت نُقل من السماء الى الارض. وهذا «النقل» اكمله أوغسطين الذي من هيپّو (٣٥٤-٤٣٠ بم). ففي مؤلَّفه الشهير مدينة اللّٰه، ذكر: «ان الكنيسة الآن ايضا هي ملكوت المسيح، وملكوت السماء.»
وفي هذه الاثناء، في السنة ٣١٣ بم تقريبا، خلال حكم الامبراطور الروماني قسطنطين، مُنح اعتراف شرعي للمسيحية، التي صار معظمها بحلول ذلك الوقت مرتدا في تفكيره. وكان القادة الدينيون مستعدين ليعملوا في خدمة الدولة، وفي البداية كانت الدولة تضبط الشؤون الدينية. (قبل مضي وقت طويل، صار الدين يضبط شؤون الدولة.) وهكذا ابتدأ العالم المسيحي،h الذي بمرور الوقت صار جزء منه (الدين الكاثوليكي) دينَ الدولة الرسمي في روما. والآن، لم يكن «الملكوت» في العالم فقط بل كان جزءا من العالم. فيا للاختلاف عن الملكوت الذي كرز به المسيح! — يوحنا ١٨:٣٦.
الاصلاح — عودة الى العبادة الحقة؟
مِثل الزوان المزدهر بين الحنطة المخنوقة، سيطرت كنيسة روما، تحت سلطة حاكمها البابوي، على الشؤون العالمية طوال قرون. (متى ١٣:٢٤-٣٠، ٣٧-٤٣) واذ صارت اكثر فأكثر جزءا من العالم، ابتعدت الكنيسة على نحو متزايد عن مسيحية القرن الاول. وعلى مر القرون دعت فرق «هرطوقية» الى اصلاحات داخل الكنيسة، لكنَّ الكنيسة استمرت في اساءة استعمال السلطة وتجميع الثروة. ثم، في القرن الـ ١٦، بدأ فجأة الاصلاح الپروتستانتي، ثورة دينية، بكل قوته.
والمصلِحون مثل مارتن لوثر (١٤٨٣-١٥٤٦)، اولريخ زْوينڠلي (١٤٨٤-١٥٣١)، وجون كالڤن (١٥٠٩-١٥٦٤) هاجموا الكنيسة في قضايا مختلفة: لوثر في بيع صكوك الغفران، زْوينڠلي في عزوبة رجال الدين وعبادة مريم، وكالڤن في حاجة الكنيسة الى العودة الى مبادئ المسيحية الاصلية. فماذا انجزت مثل هذه الجهود؟
من غير ريب، انجز الاصلاح بعض الامور الجيدة، والابرز ترجمة الكتاب المقدس بلغات عامة الشعب. والموقف الحر للاصلاح ادى الى بحث موضوعي اكثر في الكتاب المقدس وفهم متزايد للغات الكتاب المقدس. لكنَّ الاصلاح لم يسمْ عودةً الى العبادة والعقيدة الحقيقيتين.i ولِمَ لا؟
كانت آثار الارتداد قد تسلَّلت عميقا، الى اساسات العالم المسيحي عينها. وهكذا، على الرغم من ان فِرقا پروتستانتية مختلفة تحررت من السلطة البابوية لروما، فقد ابقت بعض الاخطاء الاساسية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، الاوجه التي نتجت من هجر المسيحية الحقة. مثلا، مع ان الحكم في الكنائس الپروتستانتية اختلف الى حد ما، إلا ان الانقسام الاساسي للكنيسة الى صف رجال الدين المسيطِر وصف عامة الشعب الخاضع جرى استبقاؤه. واستُبقيت ايضا عقائد غير مؤسسة على الكتاب المقدس كالثالوث، خلود النفس، والعذاب الابدي بعد الموت. وكالكنيسة الرومانية، استمرت الكنائس الپروتستانتية في ان تكون جزءا من العالم، اذ كانت لها الى حد بعيد علاقة بالانظمة السياسية وطبقات النخبة الحاكمة.
وفي تلك الاثناء، ما القول في التوقُّع المسيحي — التيقُّظ لحضور يسوع ومجيء ملكوته؟ طوال قرون بعد الاصلاح، كانت الكنائس — الكاثوليكية والپروتستانتية على السواء — مرتبطة بشدة بالسلطة الدنيوية وميَّالة الى تأجيل توقُّعات مجيء ملكوت المسيح.
تحريضات على التيقُّظ
ولكن، في القرن الـ ١٩، ادى الجو الديني الى تحريضات على التيقُّظ المسيحي. ونتيجة للبحث في الكتاب المقدس من جهة بعض رجال الدين وعلماء الكتاب المقدس، أُعيد درس تعاليم كخلود النفس، العذاب الابدي بعد الموت، القضاء والقدر، والثالوث. وبالاضافة الى ذلك، كان بعض تلاميذ الكتاب المقدس يفحصون بدقة نبوات الكتاب المقدس المتعلقة بالايام الاخيرة. ونتيجة لذلك، ابتدأت فِرق مختلفة من الاشخاص تفكِّر بجدية في رجوع الرب الموعود به. — متى ٢٤:٣.
ففي الولايات المتحدة، تنبَّأ وليم ميلر عن رجوع المسيح بشكل منظور في السنة ١٨٤٣ او ١٨٤٤. واللاهوتي الالماني ج. أ. بنڠِل عيَّن التاريخ لسنة ١٨٣٦؛ والايرڤينڠيون في انكلترا تطلَّعوا اولا الى السنة ١٨٣٥، ثم ١٨٣٨، ١٨٦٤، و ١٨٦٦. وكان هنالك فريق مينّوني في روسيا تطلَّع اولا الى السنة ١٨٨٩، ثم الى السنة ١٨٩١.
ان مثل هذه الجهود للبقاء متيقِّظين عملت على تنبيه كثيرين الى توقُّع رجوع ربنا. ولكنَّ هذه الجهود في التيقُّظ المسيحي انتهت الى خيبة امل. ولماذا؟ لأنهم غالبا ما اعتمدوا اكثر من اللازم على البشر وليس الى حد كافٍ على الاسفار المقدسة. وبعد عقود قليلة، تلاشى معظم هذه الفرق من الوجود.
وفي هذه الاثناء، خلال هذه الفترة كان لتطورات اخرى تأثير في الآمال والتوقعات البشرية.
عصر «التنوير» والتصنيع
في السنة ١٨٤٨ اصدر كارل ماركس وفريدريك انجلز البيان الشيوعي. وبدلا من تأييد الدين، الذي دعاه ماركس «افيون الشعب،» ايَّدا الالحاد. وبينما كانا ظاهريا ضد كل دين، عزَّزا في الواقع دين او عبادة الدولة وقادتها.
وبعد نحو عقد، في السنة ١٨٥٩، جرى اصدار اصل الانواع لتشارلز داروين؛ وقد اثَّر عميقا في التفكير العلمي والديني في ذلك الوقت. ونظريات التطور ادَّت الى تحدٍّ لصدق رواية الخلق في الكتاب المقدس ودخول الخطية من خلال عصيان الزوجين البشريين الاولين. (تكوين، الاصحاحات ١-٣) ونتيجة لذلك، جرى تقويض ايمان كثيرين بالكتاب المقدس.
وفي هذه الاثناء، كانت الثورة الصناعية تمضي قُدُما وتكسب زخما. وتحوَّل التشديد من الزراعة الى الصناعة والصناعة الآلية. وتطوُّر القاطرة البخارية (باكرا في القرن الـ ١٩) ادى الى توسيع السكك الحديدية في كل انحاء البلاد. والنصف الاخير من القرن الـ ١٩ شهد اختراع التلفون (١٨٧٦)، الفونوڠراف (١٨٧٧)، الضوء الكهربائي (١٨٧٨-١٨٧٩)، وكذلك استعمال اللينوتَيْپ في انتاج سطور من الحروف المطبعية للطباعة (١٨٨٤).
كان الجنس البشري يدخل مرحلة اعظم تطور للنقل والاتصال السريع في التاريخ. وعلى الرغم من ان هذه الفوائد كانت ستُستخدم لتقدُّم الاهداف التجارية والسياسية، كانت ستتوافر ايضا للحقل الديني. وهكذا أُعدَّ المسرح لمبادرة متواضعة من قبل فريق صغير من تلاميذ الكتاب المقدس الذين كانت ستصير لهم تأثيرات عالمية.
[الحواشي]
a في الاسفار اليونانية المسيحية، ان الاسم «ارتداد» (باليونانية، أپوستاسيا) له معنى «الهجر، التخلِّي عن او التمرد.» (اعمال ٢١:٢١، حاشية عج) وهو يشير هناك بشكل رئيسي الى نقض ولاء ديني؛ انسحاب من او تخلٍّ عن العبادة الحقة.
b في الاسفار المقدسة يشير التعبيران «ناظر» و «شيخ،» الى المركز نفسه. (اعمال ٢٠:١٧، ٢٨؛ تيطس ١:٥، ٧) فالكلمة «شيخ» تدل على صفات النضج التي للشخص المعيَّن على هذا النحو، و «ناظر» على المسؤولية الملازمة للتعيين — السهر على مصالح الاشخاص الذين في عهدته.
c تُشتق الكلمة الانكليزية bishop (اسقف) من التعبير اليوناني اپيسكوپوس (ناظر) كما يلي: من bisshop الانكليزية المتوسطة، من bisceop الانكليزية العتيقة، من biscopus اللاتينية العامية، تهجية مختلفة لـ episcopus اللاتينية المتأخرة، من اپيسكوپوس اليونانية.
d تُشتق الكلمة الانكليزية priest (كاهن) من پرسبيتيروس (شيخ) كما يلي: من st(e) pre الانكليزية المتوسطة، من prēost الانكليزية العتيقة، من prester اللاتينية العامية، اختصار من presbyter اللاتينية المتأخرة، من پرسبيتيروس اليونانية.
e على مرّ الوقت جرى الاعتقاد ان اسقف روما، الذي يدَّعي انه خليفة بطرس، هو الاسقف الاسمى والبابا. — انظروا Mankind’s Search for God (بحث الجنس البشري عن اللّٰه)، اصدار جمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس في نيويورك، ١٩٩٠، الصفحات ٢٧٠-٢٧٢.
f على نحو مثير للاهتمام، يلاحظ الدكتور نياندر: «لقد استُنبط الاستنتاج الخاطئ انه كما كان هنالك في العهد القديم كهنوت منظور مقترن بصف معيَّن من الرجال، يجب ان يكون هنالك ايضا الامر عينه في [العهد] الجديد . . . والمقارنة الخاطئة للكهنوت المسيحي باليهودي عزَّزت من جديد تقدُّم الاسقفية على منصب المشايخ.» — تاريخ الدين المسيحي والكنيسة، ترجمة هنري جون روز، الطبعة الثانية، نيويورك، ١٨٤٨، ص ١١١.
g تفترض هذه الفكرة على نحو خاطئ انه عند الموت يذهب كل المسيحيين الى السماء. لكنَّ الكتاب المقدس يعلِّم ان ٠٠٠,١٤٤ شخص فقط مدعوون ليحكموا مع المسيح في السماء. (رؤيا ٧:٤-٨؛ ٢٠:٤-٦) وآخرون لا يُعدّون يمكن ان يحصلوا على رجاء الحياة الابدية على ارض فردوسية تحت سلطة ملكوت المسيح. — متى ٦:١٠؛ رؤيا ٧:٩، ١٥.
h كما هو مستعمَل في هذه المطبوعة، يشير التعبير «العالم المسيحي» الى المسيحية المزعومة، بالتباين مع مسيحية الكتاب المقدس الحقيقية.
i من اجل مناقشة اكمل للاصلاح وما انجزه، انظروا الفصل ١٣، «الاصلاح — البحث اتخذ اتجاها جديدا،» في كتاب بحث الجنس البشري عن اللّٰه.
[النبذة في الصفحة ٣٣]
بينما كانت لا تزال في طفولتها، جرى تهديد الجماعة المسيحية من الارتداد
[النبذة في الصفحة ٣٤]
المقاومة الداخلية كانت لها بدايات صغيرة
[النبذة في الصفحة ٣٧]
لم يحوِّل المرتدّون بركات الحكم الالفي من الارض الى السماء فحسب لكنهم نقلوا الملكوت من السماء الى الارض
[الاطار/الصورة في الصفحة ٣٦]
افلاطون و «المسيحية»
لم تكن لدى الفيلسوف اليوناني افلاطون (وُلد نحو السنة ٤٢٨ قم) اية طريقة ليعرف ان تعاليمه ستجد اخيرا طريقها الى المسيحية المرتدة. واسهامات افلاطون الرئيسية في «المسيحية» كانت بخصوص تعليمَي الثالوث وخلود النفس.
واراء افلاطون في اللّٰه والطبيعة اثَّرت في عقيدة ثالوث العالم المسيحي. يوضح «القاموس الجديد العالمي»: «الثالوث الافلاطوني، وهو بحد ذاته مجرد اعادة ترتيب لثواليث اقدم يعود تاريخها الى شعوب ابكر، يبدو انه الثالوث الفلسفي المعقول للرموز التي انشأت الثلاثة الاقانيم او الاشخاص الالهيين الذين تعلِّم بهم الكنائس المسيحية. . . . ان تصور هذا الفيلسوف اليوناني للثالوث الالهي . . . يمكن ايجاده في كل الاديان [الوثنية] القديمة.» — المجلد ٢، الصفحة ١٤٦٧.
وفي ما يتعلق بعقيدة خلود النفس، تقول «دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة»: «ان المفهوم المسيحي للنفس الروحية المخلوقة من اللّٰه والمنفوخة في الجسد عند الحبل لجعل الانسان وحدة كاملة حية هو ثمرة تطور طويل في الفلسفة المسيحية. وفقط مع اوريجينس [مات نحو ٢٥٤ بم] في الشرق والقديس أوغسطين [مات ٤٣٠ بم] في الغرب تأسست النفس كجوهر روحي ومفهوم فلسفي تشكَّل من طبيعتها. . . . وعقيدته [أوغسطين] . . . كانت مدينة كثيرا (بما في ذلك بعض النقائص) للافلاطونية المحدثة.» — المجلد ١٣، الصفحتان ٤٥٢، ٤٥٤.
[الصورة في الصفحة ٣٥]
كبريانوس، «اسقف» قرطاجة، رأى الاساقفة بصفتهم صفا منفصلا عن المشايخ، الشمامسة، وعامة الشعب
[الصورة في الصفحة ٣٩]
«ان الكنيسة الآن ايضا هي ملكوت المسيح، وملكوت السماء» (أوغسطين الذي من هيپّو)
[الصور في الصفحة ٣٨]
مصلِحون هاجموا الكنيسة في قضايا مختلفة
مارتن لوثر
جون كالڤن
اولريخ زْوينڠلي
[الصور في الصفحة ٤١]
«البيان الشيوعي» لكارل ماركس عزَّز في الواقع عبادة الدولة. «اصل الانواع» لتشارلز داروين اثَّر عميقا في التفكير العلمي والديني في ذلك الوقت
[الصورة في الصفحة ٤٠]
القاطرة البخارية
[الصورة في الصفحة ٤٠]
الضوء الكهربائي
[الصورة في الصفحة ٤٠]
اول تلفون
[الصورة في الصفحة ٤٠]
اللينوتَيْپ الباكر
[الصورة في الصفحة ٤٠]
الفونوڠراف