الفصل ٢٦
«لَنْ تُفْقَدَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مِنْكُمْ»
تَحَطُّمُ ٱلسَّفِينَةِ بِبُولُسَ وَإِعْرَابُهُ عَنِ ٱلْإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ
مُؤَسَّسٌ عَلَى ٱلْأَعْمَال ٢٧:١–٢٨:١٠
١، ٢ صِفُوا رِحْلَةَ بُولُسَ، وَٱذْكُرُوا أُمُورًا رُبَّمَا شَغَلَتْ بَالَهُ.
«إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ»! كَلِمَاتٌ تَفَوَّهَ بِهَا ٱلْحَاكِمُ ٱلرُّومَانِيُّ فِسْتُوسُ جَاعِلًا مُسْتَقْبَلَ بُولُسَ فِي مَهَبِّ ٱلرِّيحِ. كَلِمَاتٌ مَصِيرِيَّةٌ سَكَنَتْ فِكْرَ ٱلرَّسُولِ وَٱسْتَوْطَنَتْ فِيهِ. كَلِمَاتٌ أَيْقَظَتْ فِي بُولُسَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنَ ٱلْأَسْرِ ذِكْرَيَاتِ ٱلسَّفَرِ ٱلْجَمِيلَةَ: ذِكْرَيَاتِ ٱلْهَوَاءِ ٱلْعَلِيلِ وَٱلْأُفُقِ ٱلْمَدِيدِ. (اع ٢٥:١٢) لٰكِنَّ هٰذَا ٱلرَّجُلَ ٱلْكَثِيرَ ٱلتَّرْحَالِ لَمْ يَذُقْ حُلْوَ ٱلسَّفَرِ فَحَسْبُ، بَلْ مُرَّهُ أَيْضًا. فَمَاذَا يَنْتَظِرُهُ ٱلْآنَ يَا تُرَى؟
٢ سَبَقَ لِلرَّسُولِ أَنْ مَرَّ تَكْرَارًا «بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْبَحْرِ»، إِذْ تَحَطَّمَتْ بِهِ ٱلسَّفِينَةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَضَى لَيْلَةً وَنَهَارًا فِي عُرْضِ ٱلْبَحْرِ. (٢ كو ١١:٢٥، ٢٦) وَلٰكِنْ ثَمَّةَ مَا يَزِيدُ ٱلْوَضْعَ سُوءًا هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ. فَهُوَ لَا يُسَافِرُ رَجُلًا حُرًّا فِي رِحْلَةٍ إِرْسَالِيَّةٍ، بَلْ سَجِينًا أَمَامَهُ أَكْثَرُ مِنْ ٠٠٠,٣ كلم مِنْ قَيْصَرِيَّةَ إِلَى رُومَا. فَهَلْ يُنْهِي رِحْلَتَهُ سَلِيمًا مُعَافًى، أَمْ إِنَّهُ ذَاهِبٌ إِلَى ٱلْمَوْتِ بِرِجْلَيْهِ؟ فَلَا نَنْسَ أَنَّ أَعْظَمَ حَاكِمٍ بَشَرِيٍّ فِي عَالَمِ ٱلشَّيْطَانِ آنَذَاكَ هُوَ ٱلْقَاضِي ٱلَّذِي سَيُحَاكِمُهُ.
٣ عَلَامَ صَمَّمَ بُولُسُ، وَمَاذَا نُنَاقِشُ فِي هٰذَا ٱلْفَصْلِ؟
٣ اَلْمَخَاطِرُ ٱلَّتِي تَتَهَدَّدُ ٱلرَّسُولَ كَثِيرَةٌ. وَلٰكِنْ بَعْدَمَا تَعَرَّفْنَا إِلَى شَخْصِيَّتِهِ عَنْ كَثَبٍ، هَلْ نَظُنُّ لَحْظَةً أَنَّهُ سَيَقَعُ فَرِيسَةَ ٱلْيَأْسِ؟ لَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ سَيُوَاجِهُ مَصَاعِبَ جَمَّةً، لٰكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا هِيَ بِٱلتَّحْدِيدِ. فَهَلْ مِنْ نَفْعٍ أَنْ يَسْمَحَ لِهُمُومٍ خَارِجَةٍ عَنْ سَيْطَرَتِهِ أَنْ تَخْنُقَ فَرَحَهُ فِي ٱلْخِدْمَةِ؟! (مت ٦:٢٧، ٣٤) كَمَا أَدْرَكَ بُولُسُ يَقِينًا أَنَّ ٱلْمَشِيئَةَ ٱلْإِلٰهِيَّةَ تَقْضِي بِأَنْ يَسْتَغِلَّ كُلَّ فُرْصَةٍ لِلْكِرَازَةِ، حَتَّى لِلْحُكَّامِ. (اع ٩:١٥) لِذٰلِكَ صَمَّمَ أَنْ يُتِمَّ هٰذَا ٱلتَّفْوِيضَ كَامِلًا مَهْمَا كَانَتِ ٱلظُّرُوفُ. وَمَا ٱلْقَوْلُ فِينَا؟ أَوَلَمْ نَعْقِدِ ٱلْعَزْمَ نَحْنُ أَيْضًا عَلَى إِتْمَامِ تَفْوِيضِنَا؟! لِنُرَافِقْ بُولُسَ إِذًا فِي هٰذِهِ ٱلرِّحْلَةِ ٱلتَّارِيخِيَّةِ وَنَتَفَحَّصِ ٱلْفَوَائِدَ ٱلْعَمَلِيَّةَ ٱلَّتِي نَسْتَمِدُّهَا مِنْ مِثَالِهِ.
«اَلرِّيَاحُ كَانَتْ مُضَادَّةً» (اعمال ٢٧:١-٧أ)
٤ مَا نَوْعُ ٱلسَّفِينَةِ ٱلَّتِي رَكِبَهَا بُولُسُ، وَمَنْ رَافَقَهُ؟
٤ عُهِدَ بِبُولُسَ وَسُجَنَاءَ آخَرِينَ إِلَى ضَابِطٍ رُومَانِيٍّ ٱسْمُهُ يُولِيُوسُ. فَقَرَّرَ هٰذَا ٱلْأَخِيرُ أَنْ يُسَافِرُوا عَلَى مَتْنِ سَفِينَةٍ تِجَارِيَّةٍ رَسَتْ فِي قَيْصَرِيَّةَ. اِنْطَلَقَتْ هٰذِهِ ٱلسَّفِينَةُ فِي ٱلْأَصْلِ مِنْ أَدَرْمِتِيُنَ، مِينَاءٍ عَلَى سَاحِلِ آسِيَا ٱلصُّغْرَى ٱلْغَرْبِيِّ يَقَعُ قُبَالَةَ مَدِينَةِ مِيتِيلِينِي عَلَى جَزِيرَةِ لَسْبُوس. وَكَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّرِ أَنْ تُبْحِرَ مِنْ قَيْصَرِيَّةَ شَمَالًا ثُمَّ غَرْبًا وَتَتَوَقَّفَ بَيْنَ ٱلْحِينِ وَٱلْآخَرِ لِإِنْزَالِ ٱلْبَضَائِعِ وَتَحْمِيلِهَا. وَلَمْ تَكُنْ سُفُنٌ كَهٰذِهِ مُصَمَّمَةً لِتَوْفِيرِ ٱلرَّاحَةِ لِلرُّكَّابِ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ إِذَا كَانَ ٱلرُّكَّابُ مَسَاجِينَ. (اُنْظُرِ ٱلْإِطَارَ «اَلْمِلَاحَةُ وَٱلطُّرُقُ ٱلتِّجَارِيَّةُ».) وَلٰكِنْ لِحُسْنِ ٱلتَّوْفِيقِ، لَمْ يُسَافِرِ ٱلرَّسُولُ وَحْدَهُ مَعَ مَجْمُوعَةٍ مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ. فَقَدْ رَافَقَهُ عَلَى ٱلْأَقَلِّ مَسِيحِيَّانِ آخَرَانِ هُمَا أَرِسْتَرْخُسُ وَلُوقَا ٱلَّذِي دَوَّنَ تَفَاصِيلَ ٱلرِّحْلَةِ. وَلَا نَعْرِفُ هَلْ تَوَجَّبَ عَلَى رَفِيقَيْهِ ٱلْوَلِيَّيْنِ أَنْ يَدْفَعَا لِقَاءَ رُكُوبِهِمَا ٱلسَّفِينَةَ، أَمْ إِنَّهُمَا ٱعْتُبِرَا بِمَثَابَةِ خَادِمَيْنِ لِلرَّسُولِ. — اع ٢٧:١، ٢.
٥ مَنْ قَابَلَ بُولُسُ فِي صَيْدُونَ، وَأَيُّ دَرْسٍ نَسْتَمِدُّهُ؟
٥ قَطَعَتِ ٱلسَّفِينَةُ نَحْوَ ١١٠ كلم شَمَالًا وَرَسَتْ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي فِي صَيْدُونَ عَلَى ٱلسَّاحِلِ ٱلسُّورِيِّ. وَعَلَى مَا يَبْدُو، خَصَّ يُولِيُوسُ ٱلرَّسُولَ بِمُعَامَلَةٍ مُمَيَّزَةٍ، رُبَّمَا لِأَنَّهُ مُوَاطِنٌ رُومَانِيٌّ لَمْ تَثْبُتْ إِدَانَتُهُ بَعْدُ. (اع ٢٢:٢٧، ٢٨؛ ٢٦:٣١، ٣٢) فَأَذِنَ لَهُ بِٱلنُّزُولِ إِلَى ٱلشَّطِّ وَمُقَابَلَةِ رُفَقَائِهِ ٱلْمَسِيحِيِّينَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ فَرِحُوا كَثِيرًا لِٱعْتِنَائِهِمْ بِهِ بَعْدَ سَجْنِهِ ٱلطَّوِيلِ. فَهَلْ تَخْطُرُ فِي بَالِكَ فُرَصٌ مُمَاثِلَةٌ تُتِيحُ لَكَ أَنْ تُظْهِرَ ٱلضِّيَافَةَ وَٱلْمَحَبَّةَ أَنْتَ أَيْضًا وَتَسْتَمِدَّ ٱلتَّشْجِيعَ بِٱلْمُقَابِلِ؟ — اع ٢٧:٣.
٦-٨ كَيْفَ كَانَتْ رِحْلَةُ بُولُسَ مِنْ صَيْدُونَ إِلَى كِنِيدُسَ، وَأَيَّةُ فُرَصٍ ٱغْتَنَمَهَا لِتَقْدِيمِ ٱلشَّهَادَةِ؟
٦ أَقْلَعَتِ ٱلسَّفِينَةُ مِنْ صَيْدُونَ، ثُمَّ أَبْحَرَتْ شَمَالًا بِٱلْقُرْبِ مِنْ طَرْسُوسَ (مَسْقَطِ رَأْسِ ٱلرَّسُولِ بُولُسَ) مُتَجَاوِزَةً وِلَايَةَ كِيلِيكِيَةَ. وَفِي حِينِ لَا يَذْكُرُ لُوقَا وَقْفَةً أُخْرَى، يُعْلِمُنَا بِتَفْصِيلٍ لَا يُبَشِّرُ بِٱلْخَيْرِ، قَائِلًا إِنَّ «ٱلرِّيَاحَ كَانَتْ مُضَادَّةً». (اع ٢٧:٤، ٥) مَعَ ذٰلِكَ، لَا بُدَّ أَنَّ بُولُسَ ٱقْتَنَصَ كُلَّ فُرْصَةٍ سَانِحَةٍ لِيُبَشِّرَ. فَشَهِدَ عَلَى ٱلْأَرْجَحِ لِسَائِرِ ٱلسُّجَنَاءِ وَٱلرُّكَّابِ، بِمَنْ فِيهِمْ طَاقِمُ ٱلسَّفِينَةِ وَٱلْجُنُودُ، فَضْلًا عَنْ كُلِّ مَنِ ٱلْتَقَاهُمْ فِي ٱلْمَرَافِئِ حَيْثُ رَسَتِ ٱلسَّفِينَةُ. فَهَلْ نَغْتَنِمُ بِدَوْرِنَا كُلَّ فُرْصَةٍ مُؤَاتِيَةٍ لِتَقْدِيمِ ٱلشَّهَادَةِ؟
٧ بَعْدَئِذٍ وَصَلَتِ ٱلسَّفِينَةُ إِلَى مَرْفَإِ مِيرَةَ عَلَى سَاحِلِ آسِيَا ٱلصُّغْرَى ٱلْجَنُوبِيِّ. وَهُنَاكَ ٱنْتَقَلَ بُولُسُ وَٱلْآخَرُونَ إِلَى سَفِينَةٍ ثَانِيَةٍ تَحْمِلُهُمْ إِلَى وُجْهَتِهِمِ ٱلْأَخِيرَةِ: رُومَا. (اع ٢٧:٦) فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ، كَانَتْ رُومَا تَسْتَوْرِدُ ٱلْحُبُوبَ مِنْ مِصْرَ، وَقَدِ ٱعْتَادَتِ ٱلسُّفُنُ ٱلْمِصْرِيَّةُ ٱلْمُحَمَّلَةُ ٱلْوُقُوفَ فِي مِيرَةَ. فَوَجَدَ يُولِيُوسُ إِحْدَاهَا وَأَمَرَ ٱلْجُنُودَ وَٱلسُّجَنَاءَ بِٱلصُّعُودِ إِلَيْهَا. وَلَا بُدَّ أَنَّ هٰذِهِ ٱلسَّفِينَةَ كَانَتْ أَكْبَرَ بِكَثِيرٍ مِنْ سَابِقَتِهَا. فَقَدْ نَقَلَتْ حُمُولَةً ثَمِينَةً مِنَ ٱلْحِنْطَةِ فَضْلًا عَنْ ٢٧٦ رَاكِبًا، بِمَنْ فِيهِمِ ٱلطَّاقِمُ وَٱلْجُنُودُ وَٱلسُّجَنَاءُ وَعَلَى ٱلْأَرْجَحِ مُسَافِرُونَ آخَرُونَ مُتَّجِهُونَ إِلَى رُومَا. وَهٰكَذَا ٱتَّسَعَتْ مُقَاطَعَةُ بُولُسَ ٱلَّذِي ٱسْتَفَادَ دُونَ شَكٍّ مِنَ ٱلظَّرْفِ ٱلْمُسْتَجِدِّ.
٨ أَمَّا ٱلْمَحَطَّةُ ٱلتَّالِيَةُ فَكَانَتْ كِنِيدُسَ ٱلْوَاقِعَةَ فِي ٱلطَّرَفِ ٱلْجَنُوبِيِّ ٱلْغَرْبِيِّ مِنْ آسِيَا ٱلصُّغْرَى. يَرْوِي لُوقَا: «أَبْحَرْنَا بِبُطْءٍ عِدَّةَ أَيَّامٍ وَأَتَيْنَا بِصُعُوبَةٍ إِلَى كِنِيدُسَ». (اع ٢٧:٧أ) مِنَ ٱلْوَاضِحِ أَنَّ ٱلْأَحْوَالَ سَاءَتْ جِدًّا مِنْ حَوْلِهِمْ. فَلَوْ كَانَتِ ٱلرِّيَاحُ مُؤَاتِيَةً، لَتَمَكَّنَتِ ٱلسَّفِينَةُ مِنْ قَطْعِ هٰذِهِ ٱلْمَسَافَةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ تَقْرِيبًا. (اُنْظُرِ ٱلْإِطَارَ «اَلرِّيَاحُ ٱلْمُضَادَّةُ فِي ٱلْمُتَوَسِّطِ») فَهَلْ تَتَخَيَّلُ وَضْعَ ٱلرُّكَّابِ فِيمَا رَاحَتِ ٱلسَّفِينَةُ تُصَارِعُ ٱلرِّيحَ ٱلْهَوْجَاءَ وَٱلْأَمْوَاجَ ٱلْعَاتِيَةَ؟
«اَلْعَاصِفَةُ ٱلْهَوْجَاءُ تَتَقَاذَفُنَا بِعُنْفٍ» (اعمال ٢٧:٧ب-٢٦)
٩، ١٠ أَيُّ صُعُوبَاتٍ وَاجَهَتْهَا ٱلسَّفِينَةُ قُرْبَ كِرِيتَ؟
٩ عَزَمَ قُبْطَانُ ٱلسَّفِينَةِ أَنْ يُتَابِعُوا ٱلْإِبْحَارَ غَرْبًا مِنْ كِنِيدُسَ. لٰكِنَّ ٱلشَّاهِدَ ٱلْعِيَانِ لُوقَا يُخْبِرُ أَنَّ ‹ٱلرِّيحَ لَمْ تُمَكِّنْهُمْ مِنَ ٱلتَّقَدُّمِ›. (اعمال ٢٧:٧ب) فَعِنْدَمَا ٱبْتَعَدَتِ ٱلسَّفِينَةُ عَنِ ٱلْبَرِّ، لَمْ يَعُدِ ٱلتَّيَّارُ ٱلسَّاحِلِيُّ يُسَاعِدُهَا عَلَى ٱلتَّحَرُّكِ قُدُمًا. ثُمَّ هَبَّتْ رِيَاحٌ مُعَاكِسَةٌ قَوِيَّةٌ مِنَ ٱلشَّمَالِ ٱلْغَرْبِيِّ وَسَاقَتْهَا جَنُوبًا، رُبَّمَا دَافِعَةً إِيَّاهَا بِسُرْعَةٍ فَائِقَةٍ. إِذَّاكَ ٱحْتَمَتِ ٱلسَّفِينَةُ بِجَزِيرَةِ كِرِيتَ مِثْلَمَا ٱحْتَمَتِ ٱلسَّفِينَةُ ٱلسَّابِقَةُ بِقُبْرُصَ لَمَّا أَبْحَرَتْ بِمُحَاذَاةِ شَوَاطِئِهَا. وَمَا إِنِ ٱجْتَازُوا رَأْسَ سَلْمُونِي ٱلْوَاقِعَ شَرْقِيَّ كِرِيتَ، حَتَّى ٱنْفَرَجَ ٱلْوَضْعُ قَلِيلًا. فَقَدْ بَلَغَتِ ٱلسَّفِينَةُ جَانِبَ ٱلْجَزِيرَةِ ٱلْجَنُوبِيَّ ٱلْمَحْجُوبَ مِنَ ٱلرِّيحِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ٱلرُّكَّابَ تَنَفَّسُوا ٱلصُّعَدَاءَ عِنْدَئِذٍ. إِلَّا أَنَّ ٱرْتِيَاحَهُمْ مَا كَانَ لِيَدُومَ طَوِيلًا. فَٱلْبَحَّارَةُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَجَاهُلَ دُنُوِّ فَصْلِ ٱلشِّتَاءِ وَسَفِينَتُهُمْ تُوَاصِلُ ٱلْإِبْحَارَ. وَخَوْفُهُمْ هٰذَا لَمْ يَكُنْ عَبَثًا.
١٠ يَرْوِي لُوقَا بِدِقَّةٍ مَا حَدَثَ تَالِيًا. يَقُولُ: «سِرْنَا بِمُحَاذَاةِ [كِرِيتَ] بِصُعُوبَةٍ وَأَتَيْنَا إِلَى مَكَانٍ يُدْعَى ٱلْمَوَانِيَ ٱلْحَسَنَةَ». لَاحِظْ أَنَّهُمُ ٱسْتَصْعَبُوا ٱلسَّيْطَرَةَ عَلَى ٱلسَّفِينَةِ حَتَّى وَهُمْ مُحْتَمُونَ بِٱلْجَزِيرَةِ. لٰكِنَّهُمْ وَجَدُوا أَخِيرًا مَرْسًى آمِنًا فِي خَلِيجٍ صَغِيرٍ يَقَعُ عَلَى مَا يُظَنُّ عِنْدَ أَقْصَى نُقْطَةٍ جَنُوبِيَّةٍ فِي كِرِيتَ. وَيُخْبِرُ لُوقَا أَنَّهُمْ بَقُوا هُنَاكَ ‹وَقْتًا طَوِيلًا›. لٰكِنَّ ٱلْوَقْتَ لَمْ يَكُنْ فِي صَالِحِهِمْ. فَٱلْإِبْحَارُ يَزْدَادُ خُطُورَةً فِي شَهْرَيْ أَيْلُولَ وَتِشْرِينَ ٱلْأَوَّلِ (سِبْتَمْبِر وَأُكْتُوبِر). — اع ٢٧:٨، ٩.
١١ بِمَ نَصَحَ بُولُسُ رُكَّابَ ٱلسَّفِينَةِ، وَلٰكِنْ أَيَّ قَرَارٍ ٱتَّخَذُوا؟
١١ لَعَلَّ بَعْضَ ٱلرُّكَّابِ عِنْدَئِذٍ طَلَبُوا نَصِيحَةَ بُولُسَ بِحُكْمِ أَسْفَارِهِ ٱلْكَثِيرَةِ فِي ٱلْمُتَوَسِّطِ. فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يُكْمِلُوا ٱلرِّحْلَةَ وَإِلَّا يُكَابِدُونَ «ضَرَرًا وَخَسَارَةً كَثِيرَةً»، بِمَا فِيهَا خَسَائِرُ مُحْتَمَلَةٌ فِي ٱلْأَرْوَاحِ. غَيْرَ أَنَّ ٱلرُّبَّانَ وَصَاحِبَ ٱلسَّفِينَةِ رَغِبَا فِي مُوَاصَلَةِ ٱلتَّقَدُّمِ، فَأَقْنَعَا يُولِيُوسَ بِفِكْرَتِهِمَا. فَرُبَّمَا شَعَرَا بِٱلْحَاجَةِ إِلَى إِيجَادِ مَكَانٍ أَكْثَرَ أَمْنًا بِأَسْرَعِ وَقْتٍ مُمْكِنٍ. ثُمَّ ٱرْتَأَتِ ٱلْأَكْثَرِيَّةُ أَنْ يُحَاوِلُوا بُلُوغَ فِينِكْسَ، مَرْفَإٍ كِرِيتِيٍّ غَرْبِيَّ ٱلْمَوَانِي ٱلْحَسَنَةِ. فَلَعَلَّ مِينَاءَهُ كَانَ أَكْبَرَ وَأَنْسَبَ لِقَضَاءِ ٱلشِّتَاءِ. لِذٰلِكَ عِنْدَمَا هَبَّتْ رِيحٌ جَنُوبِيَّةٌ خَفِيفَةٌ بَدَتْ مُنَاسِبَةً لِلْإِبْحَارِ، أَقْلَعَتِ ٱلسَّفِينَةُ وَتَابَعَتِ ٱلرِّحْلَةَ. — اع ٢٧:١٠-١٣.
١٢ أَيُّ مَخَاطِرَ وَاجَهَتْهَا ٱلسَّفِينَةُ بَعْدَ مُغَادَرَةِ كِرِيتَ، وَكَيْفَ حَاوَلَ ٱلطَّاقِمُ تَفَادِيَ ٱلْكَارِثَةِ؟
١٢ بَعْدَئِذٍ رَاحَ ٱلْوَضْعُ يَتَدَهْوَرُ، إِذْ هَبَّتْ مِنَ ٱلشَّمَالِ ٱلشَّرْقِيِّ «رِيحٌ عَاصِفَةٌ». فَٱحْتَمَوْا مُدَّةً مِنَ ٱلْوَقْتِ «بِجَزِيرَةٍ صَغِيرَةٍ تُدْعَى كَوْدَةَ» تَبْعُدُ ٦٥ كلم تَقْرِيبًا عَنِ ٱلْمَوَانِي ٱلْحَسَنَةِ. مَعَ ذٰلِكَ، ظَلَّتِ ٱلسَّفِينَةُ فِي خَطَرِ ٱلِٱنْقِيَادِ جَنُوبًا وَٱلتَّحَطُّمِ عَلَى ٱلسِّيرْتِسِ، ضِفَافٍ رَمْلِيَّةٍ بِٱلْقُرْبِ مِنَ ٱلسَّاحِلِ ٱلْإِفْرِيقِيِّ. فَمَا عَسَى ٱلْبَحَّارَةُ ٱلْمَرْعُوبُونَ أَنْ يَفْعَلُوا لِتَجَنُّبِ هٰذِهِ ٱلْعَاقِبَةِ ٱلْوَخِيمَةِ؟ بِدَايَةً، سَحَبُوا ٱلْقَارِبَ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلسَّفِينَةُ تَجُرُّهُ. وَقَدِ ٱسْتَلْزَمَ ذٰلِكَ جُهْدًا جَهِيدًا لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوًّا بِٱلْمِيَاهِ عَلَى أَغْلَبِ ٱلظَّنِّ. ثُمَّ بَذَلُوا أَقْصَى طَاقَتِهِمْ لِيَحْزِمُوا ٱلْمَرْكَبَ ٱلْكَبِيرَ مِنْ أَسْفَلِهِ. فَمَرَّرُوا حِبَالًا أَوْ سَلَاسِلَ مِنْ تَحْتِهِ لِيُثَبِّتُوا أَلْوَاحَهُ فِي مَكَانِهَا. وَأَنْزَلُوا جِهَازَ ٱلْقُلُوعِ، أَيِ ٱلشِّرَاعَ ٱلرَّئِيسِيَّ، مُجَاهِدِينَ لِلسَّيْرِ بِعَكْسِ مَجْرَى ٱلرِّيحِ لِٱجْتِيَازِ ٱلْعَاصِفَةِ. وَٱلْآنَ، تَخَيَّلِ ٱلرُّعْبَ ٱلَّذِي ٱسْتَأْثَرَ بِنُفُوسِ ٱلْمُسَافِرِينَ حِينَ لَمْ تَفِ كُلُّ هٰذِهِ ٱلتَّدَابِيرِ بِٱلْغَرَضِ وَظَلَّتِ ‹ٱلْعَاصِفَةُ ٱلْهَوْجَاءُ تَتَقَاذَفُهُمْ بِعُنْفٍ›. حَتَّى إِنَّهُمْ أَلْقَوْا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ عُدَّةَ صَوَارِي ٱلْمَرْكَبِ، عَلَى ٱلْأَرْجَحِ بِهَدَفِ تَعْوِيمِهِ. — اع ٢٧:١٤-١٩.
١٣ كَيْفَ كَانَتِ ٱلْأَوْضَاعُ عَلَى مَتْنِ ٱلسَّفِينَةِ أَثْنَاءَ ٱلْعَاصِفَةِ؟
١٣ فِي هٰذِهِ ٱللَّحَظَاتِ ٱلْعَصِيبَةِ كَانَ ٱلرُّعْبُ هُوَ سَيِّدَ ٱلْمَوْقِفِ. أَمَّا ٱلْمَسِيحِيُّونَ فَلَمْ تَتَزَعْزَعْ ثِقَتُهُمْ بِٱلنَّجَاةِ. فَٱلرَّبُّ طَمْأَنَ بُولُسَ أَنَّهُ سَيَشْهَدُ لَهُ فِي رُومَا؛ وَهٰذَا مَا سَيُؤَكِّدُهُ لَهُ مُجَدَّدًا أَحَدُ ٱلْمَلَائِكَةِ. (اع ١٩:٢١؛ ٢٣:١١) مَعَ ذٰلِكَ، تَوَاصَلَتِ ٱلْعَاصِفَةُ ٱلْعَاتِيَةُ لَيْلَ نَهَارَ عَلَى مَدَى أُسْبُوعَيْنِ. وَنَتِيجَةَ ٱلْمَطَرِ ٱلْغَزِيرِ وَٱلْغُيُومِ ٱلْكَثِيفَةِ ٱلَّتِي حَجَبَتِ ٱلشَّمْسَ وَٱلنُّجُومَ، عَجِزَ ٱلرُّبَّانُ عَنْ تَحْدِيدِ مَوْقِعِ ٱلسَّفِينَةِ وَمَسَارِهَا. حَتَّى إِنَّ أَحَدًا مِنَ ٱلرُّكَّابِ لَمْ يَتَنَاوَلِ ٱلطَّعَامَ. فَمِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِمِ ٱلْقَابِلِيَّةُ لِلْأَكْلِ فِي ظِلِّ ٱلْمَطَرِ وَٱلْبَرْدِ وَدُوَارِ ٱلْبَحْرِ وَٱلْخَوْفِ؟!
١٤، ١٥ (أ) لِمَ أَتَى بُولُسُ عَلَى ذِكْرِ تَنْبِيهِهِ ٱلسَّابِقِ خِلَالَ حَدِيثِهِ مَعَ رُكَّابِ ٱلسَّفِينَةِ؟ (ب) مَاذَا نَتَعَلَّمُ مِنَ ٱلرِّسَالَةِ ٱلْمُشَجِّعَةِ ٱلَّتِي نَقَلَهَا بُولُسُ؟
١٤ إِزَاءَ هٰذَا ٱلْوَضْعِ، هَلْ بَقِيَ ٱلرَّسُولُ مَكْتُوفَ ٱلْيَدَيْنِ؟ تُخْبِرُ ٱلرِّوَايَةُ أَنَّهُ وَقَفَ وَذَكَّرَ ٱلْمَوْجُودِينَ بِتَنْبِيهِهِ ٱلسَّابِقِ. وَبِفِعْلِهِ ذٰلِكَ، لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يُعَاتِبَهُمْ قَائِلًا لَهُمْ مَا مَعْنَاهُ: ‹أَمَا حَذَّرْتُكُمْ؟!›. بَلْ أَرَادَ أَنْ يَلْفِتَ ٱلِٱنْتِبَاهَ أَنَّ ٱلْأَحْدَاثَ ٱلْأَخِيرَةَ أَثْبَتَتْ مِصْدَاقِيَّةَ أَقْوَالِهِ. ثُمَّ حَثَّهُمْ: «اَلْآنَ أَدْعُوكُمْ أَنْ تَطِيبَ أَنْفُسُكُمْ، لِأَنَّهُ لَنْ تُفْقَدَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مِنْكُمْ، مَا خَلَا ٱلْمَرْكَبَ». (اع ٢٧:٢١، ٢٢) وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَلَامَ ٱلرَّسُولِ هٰذَا رَدَّ ٱلطُّمَأْنِينَةَ إِلَى قُلُوبِ سَامِعِيهِ. حَتَّى بُولُسُ سُرَّ دُونَ شَكٍّ لِأَنَّ يَهْوَهَ أَوْكَلَ إِلَيْهِ نَقْلَ هٰذِهِ ٱلرِّسَالَةِ ٱلْمُشَجِّعَةِ. وَمَاذَا عَنَّا؟ أَيُّ دَرْسٍ نَسْتَمِدُّهُ؟ مِنَ ٱلضَّرُورِيِّ أَنْ نُبْقِيَ فِي بَالِنَا أَنَّ يَهْوَهَ يَهْتَمُّ بِحَيَاةِ ٱلنَّاسِ جَمِيعًا. فَكُلُّ شَخْصٍ غَالٍ فِي عَيْنَيْهِ. ذَكَرَ بُطْرُسُ: «يَهْوَهُ . . . لَا يَرْغَبُ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدٌ، بَلْ أَنْ يَبْلُغَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ». (٢ بط ٣:٩) كَمْ مُلِحٌّ إِذًا أَنْ نَبْذُلَ قُصَارَى جُهْدِنَا لِنُعْلِنَ رِسَالَةَ ٱلرَّجَاءِ لِأَكْبَرِ عَدَدٍ مُمْكِنٍ! فَحَيَاةُ ٱلنَّاسِ فِي خَطَرٍ دَاهِمٍ!
١٥ مِنَ ٱلْمُرَجَّحِ أَنَّ بُولُسَ كَلَّمَ كَثِيرِينَ عَلَى ٱلْمَرْكَبِ عَنْ «رَجَاءِ ٱلْوَعْدِ ٱلَّذِي صَنَعَهُ ٱللّٰهُ». (اع ٢٦:٦؛ كو ١:٥) وَلٰكِنْ بَعْدَمَا أَحْدَقَ بِهِمْ خَطَرُ تَحَطُّمِ ٱلسَّفِينَةِ، أَصْبَحَ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَمْنَحَهُمْ رَجَاءً آخَرَ مُتَمَثِّلًا بِنَجَاتِهِمِ ٱلْوَشِيكَةِ مِنْ هٰذَا ٱلْوَضْعِ ٱلْمَأْسَاوِيِّ. ذَكَرَ: «وَقَفَ بِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ مَلَاكٌ . . . قَائِلًا: ‹لَا تَخَفْ يَا بُولُسُ. فَلَا بُدَّ لَكَ أَنْ تَقِفَ أَمَامَ قَيْصَرَ، وَهَا إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ وَهَبَكَ جَمِيعَ ٱلْمُبْحِرِينَ مَعَكَ›. لِذٰلِكَ فَلْتَطِبْ أَنْفُسُكُمْ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ؛ لِأَنِّي أُومِنُ بِٱللّٰهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ تَمَامًا كَمَا قِيلَ لِي. إِنَّمَا لَا بُدَّ أَنْ نَقَعَ عَلَى شَاطِئِ إِحْدَى ٱلْجُزُرِ». — اع ٢٧:٢٣-٢٦.
«اَلْجَمِيعُ وَصَلُوا إِلَى ٱلْبَرِّ سَالِمِينَ» (اعمال ٢٧:٢٧-٤٤)
١٦، ١٧ (أ) أَيُّ فُرْصَةٍ ٱغْتَنَمَهَا بُولُسُ لِيُصَلِّيَ، وَبِأَيِّ نَتِيجَةٍ؟ (ب) كَيْفَ تَحَقَّقَ تَحْذِيرُ بُولُسَ؟
١٦ بَعْدَ أُسْبُوعَيْنِ مُرَوِّعَيْنِ دَفَعَتِ ٱلرِّيَاحُ خِلَالَهُمَا ٱلسَّفِينَةَ ٨٧٠ كلم تَقْرِيبًا، أَحَسَّ ٱلْبَحَّارَةُ أَنَّ تَغَيُّرًا قَدْ طَرَأَ. فَلَعَلَّهُمْ سَمِعُوا صَوْتَ أَمْوَاجٍ مُتَكَسِّرَةٍ. فَرَمَوُا ٱلْمَرَاسِيَ مِنَ ٱلْمُؤَخَّرِ لِيَتَفَادَوُا ٱنْجِرَافَ ٱلسَّفِينَةِ بَعِيدًا وَلِيُوَجِّهُوا مُقَدَّمَهَا نَحْوَ ٱلْيَابِسَةِ فِي حَالِ أُتِيحَ لَهُمْ سَحْبُهَا إِلَى ٱلشَّاطِئِ. بَعْدَئِذٍ حَاوَلُوا أَنْ يَنْزِلُوا مِنَ ٱلْمَرْكَبِ، غَيْرَ أَنَّ ٱلْجُنُودَ مَنَعُوهُمْ. فَقَدْ قَالَ بُولُسُ لِلضَّابِطِ وَٱلْجُنُودِ: «إِنْ لَمْ يَبْقَ هٰؤُلَاءِ فِي ٱلْمَرْكَبِ، فَلَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَخْلُصُوا». وَإِذْ صَارَتْ حَرَكَةُ ٱلسَّفِينَةِ أَكْثَرَ ثَبَاتًا، شَجَّعَ ٱلرَّسُولُ ٱلْجَمِيعَ أَنْ يَأْكُلُوا، مُؤَكِّدًا مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ نَجَاتَهُمْ مَضْمُونَةٌ. وَبَعْدَ ذٰلِكَ «أَخَذَ رَغِيفًا، وَشَكَرَ ٱللّٰهَ أَمَامَ ٱلْجَمِيعِ، وَكَسَرَهُ، وَٱبْتَدَأَ يَأْكُلُ». (اع ٢٧:٣١، ٣٥) وَهٰكَذَا رَسَمَ بُولُسُ مِثَالًا لِلُوقَا وَلِأَرِسْتَرْخُسَ وَلِكُلِّ ٱلْمَسِيحِيِّينَ ٱلْعَصْرِيِّينَ. فَٱسْأَلْ نَفْسَكَ: ‹هَلْ أُمِدُّ ٱلْآخَرِينَ بِٱلتَّشْجِيعِ وَٱلتَّعْزِيَةِ حِينَ أُصَلِّي عَلَانِيَةً؟›.
١٧ بَعْدَ صَلَاةِ بُولُسَ، «طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ جَمِيعًا وَتَنَاوَلُوا هُمْ أَيْضًا طَعَامًا». (اع ٢٧:٣٦) ثُمَّ خَفَّفُوا عَنِ ٱلْمَرْكَبِ بِإِلْقَاءِ شِحْنَةِ ٱلْحِنْطَةِ حَتَّى يَطْفُوَ بِشَكْلٍ أَفْضَلَ فِيمَا يَدْنُو مِنَ ٱلشَّاطِئِ. وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ، ٱتَّخَذَ ٱلْبَحَّارَةُ خُطُوَاتٍ تُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيكَ ٱلسَّفِينَةِ حِينَ يَدْفَعُونَهَا إِلَى ٱلشَّطِّ. فَقَطَعُوا ٱلْمَرَاسِيَ وَحَلُّوا رُبُطَ ٱلْمِجْذَافَيْنِ أَيِ ٱلدَّفَّةِ عِنْدَ ٱلْمُؤَخَّرِ وَرَفَعُوا شِرَاعًا أَمَامِيًّا صَغِيرًا. إِلَّا أَنَّ ٱلْمُقَدَّمَ عَلِقَ بِحَاجِزٍ رَمْلِيٍّ. وَأَمَّا ٱلْمُؤَخَّرُ فَرَاحَ يَتَحَطَّمُ بِفِعْلِ ٱلْأَمْوَاجِ ٱلْمُتَلَاطِمَةِ. إِذَّاكَ هَمَّ بَعْضُ ٱلْجُنُودِ بِقَتْلِ ٱلسُّجَنَاءِ لِئَلَّا يَهْرُبُوا. غَيْرَ أَنَّ يُولِيُوسَ مَنَعَهُمْ، آمِرًا ٱلْجَمِيعَ أَنْ يَسْبَحُوا أَوْ يَعُومُوا حَتَّى يَبْلُغُوا ٱلشَّطَّ. وَهٰكَذَا تَحَقَّقَتْ كَلِمَاتُ بُولُسَ إِذْ نَجَا ٱلرُّكَّابُ جَمِيعًا، ٢٧٦ نَفْسًا. تَقُولُ ٱلرِّوَايَةُ: «اَلْجَمِيعُ وَصَلُوا إِلَى ٱلْبَرِّ سَالِمِينَ». لٰكِنَّ ٱلسُّؤَالَ ٱلْبَدِيهِيَّ هُنَا: أَيْنَ هُمُ ٱلْآنَ؟ — اع ٢٧:٤٤.
أَظْهَرُوا لَنَا «لُطْفًا إِنْسَانِيًّا غَيْرَ عَادِيٍّ» (اعمال ٢٨:١-١٠)
١٨-٢٠ كَيْفَ أَظْهَرَ أَهْلُ مَالِطَةَ «لُطْفًا إِنْسَانِيًّا غَيْرَ عَادِيٍّ»، وَأَيَّ عَجِيبَةٍ صَنَعَ بُولُسُ بِمَعُونَةِ ٱللّٰهِ؟
١٨ تَبَيَّنَ أَنَّ ٱلسَّفِينَةَ تَحَطَّمَتْ بِهِمْ عَلَى جَزِيرَةِ مَالِطَةَ ٱلْوَاقِعَةِ جَنُوبَ صِقِلِّيَة. (اُنْظُرِ ٱلْإِطَارَ «أَيْنَ تَحَطَّمَتِ ٱلسَّفِينَةُ بِبُولُسَ؟».) وَهُنَاكَ أَظْهَرَ لَهُمْ أَهْلُ ٱلْجَزِيرَةِ «لُطْفًا إِنْسَانِيًّا غَيْرَ عَادِيٍّ». (اع ٢٨:٢) فَقَدْ أَضْرَمُوا نَارًا لِهٰؤُلَاءِ ٱلْغُرَبَاءِ ٱلَّذِينَ بَلَغُوا شَوَاطِئَهُمْ مَبْلُولِينَ يَرْتَعِشُونَ مِنَ ٱلْبَرْدِ وَٱلْمَطَرِ. وَإِذْ كَانُوا يَسْتَدْفِئُونَ، حَدَثَتْ عَجِيبَةٌ فَاجَأَتِ ٱلْجَمِيعَ.
١٩ فَفِيمَا سَاعَدَ ٱلرَّسُولُ بِجَمْعِ ٱلْعِيدَانِ وَوَضْعِهَا عَلَى ٱلنَّارِ، خَرَجَتْ حَيَّةٌ سَامَّةٌ بِسَبَبِ ٱلْحَرَارَةِ وَلَدَغَتْهُ نَاشِبَةً فِي يَدِهِ. فَظَنَّ إِذَّاكَ أَهْلُ مَالِطَةَ أَنَّ «ٱلْآلِهَةَ» تُعَاقِبُ بُولُسَ.a
٢٠ كَمَا تَوَقَّعَ هٰؤُلَاءِ أَنْ «يَتَوَرَّمَ مِنَ ٱلِٱلْتِهَابِ». وَٱلْكَلِمَةُ ٱلْأَصْلِيَّةُ ٱلْمُسْتَعْمَلَةُ هُنَا هِيَ «مُصْطَلَحٌ طِبِّيٌّ»، عَلَى حَدِّ قَوْلِ أَحَدِ ٱلْمَرَاجِعِ. وَلَا غَرَابَةَ أَنْ يَخْطُرَ تَعْبِيرٌ كَهٰذَا فِي بَالِ «لُوقَا ٱلطَّبِيبِ ٱلْحَبِيبِ». (اع ٢٨:٦؛ كو ٤:١٤) لٰكِنَّ ٱلْمُهِمَّ فِي ٱلْمَوْضُوعِ أَنَّ بُولُسَ نَفَضَ ٱلْحَيَوَانَ ٱلسَّامَّ عَنْ يَدِهِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ أَيُّ ضَرَرٍ.
٢١ (أ) اُذْكُرُوا مِثَالَيْنِ يُبْرِزَانِ دِقَّةَ لُوقَا فِي هٰذَا ٱلْجُزْءِ مِنْ سِفْرِ ٱلْأَعْمَالِ. (ب) أَيَّ عَجَائِبَ صَنَعَ بُولُسُ، وَكَيْفَ أَثَّرَتْ فِي أَهْلِ مَالِطَةَ؟
٢١ وَفِي تِلْكَ ٱلْمِنْطَقَةِ، أَقَامَ رَجُلٌ ثَرِيٌّ يَمْلِكُ أَرَاضِيَ شَاسِعَةً يُدْعَى بُوبْلِيُوسَ. وَلَعَلَّهُ كَانَ أَعْلَى ضَابِطٍ رُومَانِيٍّ فِي ٱلْجَزِيرَةِ. يُقَدِّمُهُ لَنَا لُوقَا بِوَصْفِهِ «رَئِيسَ ٱلْجَزِيرَةِ»، مُسْتَخْدِمًا لَقَبًا يَظْهَرُ أَيْضًا فِي نَقْشَيْنِ عُثِرَ عَلَيْهِمَا فِي مَالِطَةَ. فَٱسْتَضَافَ ٱلرَّجُلُ بُولُسَ وَمَنْ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَلٰكِنْ صَدَفَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَرِيضًا. وَمَرَّةً جَدِيدَةً، يَتَوَخَّى لُوقَا ٱلدِّقَّةَ فِي وَصْفِ إِحْدَى ٱلْحَالَاتِ ٱلطِّبِّيَّةِ. فَقَدْ ذَكَرَ بِٱلتَّحْدِيدِ أَنَّ ٱلرَّجُلَ «كَانَ مُضْطَجِعًا يُعَانِي حُمَّى وَزُحَارًا». ثُمَّ يُخْبِرُنَا أَنَّ بُولُسَ صَلَّى وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ فَشَفَاهُ. فَتَرَكَتْ هٰذِهِ ٱلْعَجِيبَةُ أَبْلَغَ ٱلْأَثَرِ فِي أَهْلِ ٱلْجَزِيرَةِ ٱلَّذِينَ جَلَبُوا مَرْضَاهُمْ وَحَمَلُوا عَطَايَا لِسَدِّ حَاجَاتِ بُولُسَ وَمَنْ مَعَهُ. — اع ٢٨:٧-١٠.
٢٢ (أ) كَيْفَ أَشَادَ بْرُوفِسُورٌ بِرِوَايَةِ لُوقَا عَنِ ٱلرِّحْلَةِ إِلَى رُومَا؟ (ب) مَاذَا نُنَاقِشُ فِي ٱلْفَصْلِ ٱلتَّالِي؟
٢٢ إِنَّ ٱلْأَعْدَادَ ٱلَّتِي تَنَاوَلْنَاهَا فِي هٰذَا ٱلْفَصْلِ زَاخِرَةٌ بِٱلْمَعْلُومَاتِ ٱلدَّقِيقَةِ. يُعَلِّقُ بْرُوفِسُورٌ قَائِلًا: «تَبْرُزُ رِوَايَةُ لُوقَا . . . بِٱعْتِبَارِهَا أَحَدَ أَهَمِّ ٱلْمَقَاطِعِ ٱلْوَصْفِيَّةِ ٱلنَّابِضَةِ بِٱلْحَيَاةِ فِي كَامِلِ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ. فَهِيَ تَذْكُرُ تَفَاصِيلَ دَقِيقَةً لِلْغَايَةِ عَنْ فَنِّ ٱلْمِلَاحَةِ فِي ٱلْقَرْنِ ٱلْأَوَّلِ، وَتُصَوِّرُ ٱلْأَحْوَالَ شَرْقِيَّ ٱلْمُتَوَسِّطِ تَصْوِيرًا حَيًّا لِدَرَجَةِ أَنَّ أَشَدَّ ٱلْمُشَكِّكِينَ يُسَلِّمُونَ بِأَنَّهَا تَسْتَنِدُ عَلَى ٱلْأَرْجَحِ عَلَى يَوْمِيَّاتٍ مُدَوَّنَةٍ». وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنَّ لُوقَا كَانَ يُسَجِّلُ بِٱلْفِعْلِ مُلَاحَظَاتٍ كَهٰذِهِ خِلَالَ سَفَرِهِ مَعَ ٱلرَّسُولِ. وَإِنْ صَحَّ ذٰلِكَ، فَإِنَّ ٱلْجُزْءَ ٱلتَّالِيَ مِنَ ٱلرِّحْلَةِ قَدَّمَ لَهُ مَادَّةً دَسِمَةً لِيَكْتُبَ عَنْهَا. فَمَاذَا يَحِلُّ بِبُولُسَ عِنْدَ وُصُولِهِ أَخِيرًا إِلَى رُومَا؟ اِقْرَإِ ٱلْفَصْلَ ٱلتَّالِيَ لِتَعْرِفَ ٱلْجَوَابَ.
a مِنَ ٱلْوَاضِحِ أَنَّ هٰذِهِ ٱلْحَيَّاتِ ٱلسَّامَّةَ كَانَتْ مَأْلُوفَةً عِنْدَ ٱلْمَالِطِيِّينَ، مِمَّا يُشِيرُ إِلَى وُجُودِهَا عَلَى جَزِيرَتِهِمْ فِي تِلْكَ ٱلْفَتْرَةِ. أَمَّا ٱلْيَوْمَ فَلَمْ نَعُدْ نَجِدُ أَيَّ أَفَاعٍ فِي مَالِطَةَ. وَيُعْزَى هٰذَا ٱلتَّبَدُّلُ عَلَى ٱلْأَرْجَحِ إِمَّا إِلَى ٱلتَّغَيُّرَاتِ ٱلْبِيئِيَّةِ ٱلْحَاصِلَةِ عَلَى مَرِّ ٱلْقُرُونِ، أَوْ ٱزْدِيَادِ عَدَدِ ٱلسُّكَّانِ.