الفصل السادس
سجل قديم عن الخلق — هل ينال ثقتكم؟
«مَن يقدر ان يقول من اين اتت كل الاشياء، وكيف حدث الخلق؟». تجدون هذا السؤال في قصيدة «نشيد الخلق». وقد نُظِمت باللغة السَّنسكريتية قبل اكثر من ٠٠٠,٣ سنة، وهي جزء من كتاب هندوسي مقدس يدعى ريڠ ڤيدا. حتى ان الشاعر كان يشك في ان تعرف الآلهة الهندوسية الكثيرة «كيف حدث الخلق»، لأن «الآلهة نفسها وُجدت بعد الخلق». — إمالة الحروف لنا.
وتروي كتابات بابلية ومصرية اساطير مماثلة عن ولادة آلهتها في كون كان موجودا قبلا. والنقطة الرئيسية هنا هي ان هذه الاساطير تعجز عن القول من اين اتى الكون اصلا. لكنكم ستجدون سجلا واحدا عن الخلق يختلف عنها. وهذا السجل، اي الكتاب المقدس، يُفتتح بالكلمات التالية: «في البدء خلق اللّٰه السموات والارض». — تكوين ١:١.
كتب موسى هذه الكلمات البسيطة والمثيرة قبل نحو ٥٠٠,٣ سنة. وهي تركّز على خالق، هو اللّٰه، يسمو فوق الكون المادي لأنه هو الذي صنعه وبالتالي وُجد قبله. وهذا الكتاب نفسه يعلّم ان «اللّٰه روح»، اي انه موجود في شكل لا تراه اعيننا. (يوحنا ٤:٢٤) وربما صار وجودٌ من هذا النوع مقبولا اكثر اليوم، لأن العلماء يتحدَّثون عن وجود نجوم نيوترونية شديدة وثقوب سوداء في الفضاء، وهي اجسام غير مرئية تُكشَف بواسطة التأثيرات التي تنتجها.
لاحظوا ما يقوله الكتاب المقدس: «[توجد] أجسام سماوية وأجسام ارضية. لكنَّ مجد السماويات شيء ومجد الارضيات آخر». (١ كورنثوس ١٥:٤٠، ٤٤) لا تشير الاجسام السماوية الى المادة الكونية غير المرئية التي يدرسها العلماء، بل الى اجسام روحانية ذكية. وقد تتساءلون: ‹مَن غير الخالق يملك جسما روحانيا؟›.
مخلوقات سماوية غير منظورة
وفقا لسجل الكتاب المقدس، لم يكن الحيِّز المنظور باكورة الخلق. فهذا السجل القديم عن الخلق يخبر ان اول خطوة في عملية الخلق كانت الإتيان بكائن روحاني آخر، الابن البكر، الى الوجود. لقد كان «بكر كل خليقة»، او «بداءة خليقة اللّٰه». (كولوسي ١:١٥؛ رؤيا ٣:١٤) وهذا المخلوق الاول كان فريدا.
فقد كان الخليقة الوحيدة التي اوجدها اللّٰه مباشرة، ووُهب حكمة عظيمة. وفي الواقع، كتب لاحقا ملك معروف بحكمته عن هذا الابن انه ‹صانع› استُخدم في كل الاعمال الخلقية اللاحقة. (امثال ٨:٢٢، ٣٠؛ انظروا ايضا عبرانيين ١:١، ٢.) وكتب عنه المعلّم المدعو بولس الذي عاش في القرن الاول: «فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الارض ما يُرى وما لا يُرى». — كولوسي ١:١٦؛ قارنوا يوحنا ١:١-٣.
وأية اشياء لا تُرى في السموات أوجدها الخالق بواسطة هذا الابن؟ في حين يتحدَّث الفلكيون عن بلايين النجوم والثقوب السوداء غير المرئية، يشير الكتاب المقدس هنا الى مئات الملايين من المخلوقات الروحانية — ذات الاجسام الروحانية. وقد يسأل البعض: ‹ما الداعي الى خلق كائنات ذكية وغير منظورة كهذه؟›.
كما ان درس الكون يجيب عن بعض الاسئلة المتعلقة بعلّة وجوده، كذلك يزوِّدنا الكتاب المقدس بمعلومات مهمة متعلقة بمؤلفه. مثلا، يخبرنا الكتاب المقدس انه «الاله السعيد»، الذي تعكس نواياه وأعماله صفة المحبة. (١ تيموثاوس ١:١١، عج؛ ١ يوحنا ٤:٨) لذلك يمكننا التوصل الى الاستنتاج المنطقي ان اللّٰه اراد ان تكون معه مجموعة من الكائنات الروحانية الذكية الاخرى بحيث تتمتع هي ايضا بالحياة. وكان سيُعيَّن لكل واحد منها عمل مُرضٍ تستفيد منه ويساهم في تحقيق قصد الخالق.
لا شيء يوحي بأن هذه المخلوقات الروحانية كانت ستطيع اللّٰه كالآلات. فقد وهبها اللّٰه الذكاء والارادة الحرة. وتشير روايات الكتاب المقدس الى ان اللّٰه يشجِّع على حرية التفكير وحرية العمل — واثقا انهما لن تشكلا ايّ خطر دائم على السلام والانسجام في الكون. كتب بولس، مستعملا اسم الخالق الشخصي كما هو موجود في الكتاب المقدس العبراني: ‹يهوه هو الروح، وحيث روح يهوه هنالك حرية›. — ٢ كورنثوس ٣:١٧، عج.
ما يُرى في السموات
ما هي الاشياء التي تُرى والتي خلقها اللّٰه بواسطة ابنه البكر؟ انها تشمل شمسنا وكل بلايين النجوم الاخرى والمواد التي يتألف منها الكون. وهل يخبرنا الكتاب المقدس كيف اوجد اللّٰه كل هذه من لا شيء؟ لنعرف الجواب، دعونا نفحص الكتاب المقدس على ضوء العلم الحديث.
في القرن الـ ١٨، قام العالِم انطوان-لوران لاڤوازييه بدراسة وزن المادة. ولاحظ ان وزن الناتج، بعد التفاعل الكيميائي، يعادل الوزن المشترك للمقوِّمات الاصلية. مثلا، اذا احترق ورق بوجود الاكسجين، يكون وزن الرماد والغازات الناتجة معادلا لوزن الورق والاكسجين في الاصل. فاقترح لاڤوازييه قانونا هو قانون ‹حفظ الكتلة، او المادة›. وفي سنة ١٩١٠ اوضحت دائرة المعارف البريطانية (بالانكليزية): «المادة لا يمكن ان تُخلق او تُدمَّر». وبدا ذلك منطقيا، على الاقل في ذلك الوقت.
لكنَّ انفجار قنبلة ذرية فوق مدينة هيروشيما اليابانية سنة ١٩٤٥ فضح علنا وجود خطإ في قانون لاڤوازييه. فخلال انفجار كهذا لكتلة فوق الحَرِجة supercritical mass من اليورانيوم، تتشكل انواع مختلفة من المادة، لكنَّ كتلتها المشتركة تكون اقل من كتلة اليورانيوم الاصلي. فما سبب هذا النقصان؟ لقد تحوَّل بعضٌ من كتلة اليورانيوم الى انفجار شديد للطاقة.
وتعرَّض قانون لاڤوازييه حول حفظ المادة لمشكلة اخرى نشأت سنة ١٩٥٢ عندما فُجِّر جهاز حراري نووي (قنبلة هيدروجينية). ففي ذلك الانفجار، اتحدت ذرّات الهيدروجين وشكّلت الهليوم. لكنَّ كتلة الهليوم الناتج كانت اقل من كتلة الهيدروجين الاصلي. فقد تحوَّل جزء من كتلة الهيدروجين الى طاقة انفجارية، انفجار مدمِّر اكثر بكثير من القنبلة التي أُطلقت فوق هيروشيما.
كما اثبت هذان النوعان من الانفجارات، تمثِّل كميةٌ صغيرة من المادة كميةً كبيرة من الطاقة. وهذا الرابط بين المادة والطاقة يفسّر قوة الشمس، التي تُبقينا احياء وفي صحة جيدة. أيّ رابط؟ قبل الانفجار الاول بـ ٤٠ سنة، اي في سنة ١٩٠٥، توقَّع آينشتاين ان توجد علاقة بين المادة والطاقة. وكثيرون يعرفون معادلته طا=كسر٢ 2E=mc.a وما إن صاغ آينشتاين تلك العلاقة حتى فسّر علماء آخرون كيف يمكن للشمس ان تشعّ باستمرار طوال بلايين السنين. ففي داخل الشمس تحصل تفاعلات حرارية نووية متواصلة. وبهذه الطريقة تحوِّل الشمس، كل ثانية، نحو ٥٦٤ مليون طن من الهيدروجين الى ٥٦٠ مليون طن من الهليوم. وهذا يعني ان نحو ٤ ملايين طن من المادة يتحوَّل الى طاقة شمسية يصل جزء منها الى الارض ويدعم الحياة.
وما يثير الاهتمام ايضا هو ان العملية العكسية ممكنة. توضح دائرة معارف الكتاب العالمي (بالانكليزية): «تتحوَّل الطاقة الى مادة حين تتصادم الجُسيمات دون الذرّية عند سرعات عالية وتخلق جُسيمات جديدة وأثقل». وينجز العلماء ذلك على نطاق مصغَّر باستعمال آلات ضخمة تدعى مسرِّعات الجُسيمات particle accelerators، وفيها تتصادم الجُسيمات دون الذرّية عند سرعات هائلة، وتخلق المادة. يوضح الفيزيائي الدكتور كارلو روبيا، الحائز جائزة نوبل: «نحن نكرِّر احدى عجائب الكون: تحويل الطاقة الى مادة».
قد يقول المرء: ‹هذا صحيح، ولكن ما علاقته بسجل الخلق الذي يمكنني قراءته في الكتاب المقدس؟›. ليس الكتاب المقدس كتابا دراسيا علميا، لكنه اثبت انه يجاري عصرنا ويتفق مع الحقائق العلمية. والكتاب المقدس يشير من بدايته الى نهايته الى العالِم العظيم، ذاك الذي خلق كل مادة في الكون. (نحميا ٩:٦؛ اعمال ٤:٢٤؛ رؤيا ٤:١١) وهو يُظهر بوضوح العلاقة بين الطاقة والمادة.
مثلا، يدعو الكتاب المقدس قرّاءه الى هذا: «ارفعوا الى العلاء عيونكم وانظروا مَن خلق هذه. مَن الذي يُخرج بعددٍ جندها يدعو كلها بأسماء. لكثرة القوة [«الطاقة الدينامية»، عج] وكونه شديد القدرة لا يُفقد احد». (اشعياء ٤٠:٢٦) نعم، يقول الكتاب المقدس ان مصدر الطاقة الدينامية الهائلة — الخالق — هو مَن اوجد الكون المادي. ويتفق ذلك تماما مع التكنولوجيا الحديثة. وهذا السبب وحده كافٍ لتستحق رواية الكتاب المقدس عن الخلق احترامنا العميق.
بعد خلق ما يُرى وما لا يُرى في السموات، ركّز الخالق وابنه البكر على الارض. فكيف تشكلت؟ قد يكون تنوُّع العناصر الكيميائية، التي يتألف منها كوكبنا، نتيجة مباشرة لتحويل اللّٰه الطاقة الدينامية غير المحدودة الى مادة، الامر الذي يقول الفيزيائيون اليوم انه ممكن. او ربما تكون الارض قد تشكلت، كما يعتقد علماء كثيرون، من مادة قُذِفت من انفجار مستعِر فائق supernova. ولكن مَن يدري هل وُجدت بواسطة مجموعة من الطرائق، بعضها ذكرناه وبعضها الآخر لم يكتشفه العلماء بعد؟! مهما تكن الآلية، فالخالق هو المصدر الدينامي للعناصر التي تتألف منها ارضنا، بما فيها كل المعادن الضرورية لبقائنا احياء.
انتم تدركون ان تأسيس الارض كان سيتطلب اكثر بكثير من تأمين كل المواد بالنِّسب الصحيحة. فكان لا بد ايضا ان يكون حجم الارض، دورانها، وبُعدها عن الشمس، بالاضافة الى مَيل محورها والشكل شبه الدائري لمدارها حول الشمس، مناسِبة تماما — كما هي فعلا. فمن الواضح ان الخالق شغَّل دورات طبيعية تجعل كوكبنا ملائما لدعم حياة غزيرة. ولا غرابة ان تغمرنا الدهشة نتيجة معرفة كل ذلك. ولكن تخيَّلوا رد فعل الابناء الروحانيين السماويين وهم يراقبون تشكيل الارض والحياة عليها. فأحد اسفار الكتاب المقدس يقول انهم ‹ترنموا وهتفوا›. — ايوب ٣٨:٤، ٧.
يقدِّم الاصحاح الاول من الكتاب المقدس تفاصيل جزئية عن بعض الخطوات الهامة التي اتخذها اللّٰه لإعداد الارض ليتمتع البشر بها. ولا يعرض هذا الاصحاح ادق التفاصيل؛ ففيما نقرأه، لا ينبغي ان يحيِّرنا حذفه نقاطا محددة لم يكن ليفهمها القراء القدماء. مثلا، عندما كان موسى يكتب هذا الاصحاح، لم يتحدث عن عمل الطحالب او البكتيريا المجهرية. فالانسان لم يرَ اشكال الحياة هذه إلا بعد اختراع المجهر في القرن الـ ١٦. ولم يتحدث بالتحديد عن الدينوصورات، التي استُدلَّ بواسطة الاحافير على وجودها في القرن الـ ١٩. بدلا من ذلك، أوحي الى موسى ان يستعمل كلمات يفهمها الناس في ايامه، لكنها كانت كلمات دقيقة في كل ما تقوله عن خلق الارض.
وفيما تقرأون التكوين الاصحاح ١، من العدد ٣ فصاعدا، ستلاحظون انه ينقسم الى ستة «ايام» خلقية. ويدّعي البعض انها ايام حرفية مؤلفة من ٢٤ ساعة، ويقصدون ان الكون بأسره والحياة على الارض خُلقا في اقل من اسبوع! ولكن يمكنكم ان تكتشفوا بسهولة ان الكتاب المقدس لا يعلّم ذلك. فقد كُتب سفر التكوين باللغة العبرانية. وكلمة «يوم» في هذه اللغة تشير الى فترة زمنية. ويمكن ان تكون إما فترة طويلة او يوما حرفيا مؤلفا من ٢٤ ساعة. حتى ان كل «الايام» الستة في التكوين يُشار اليها كلها كفترة واحدة طويلة — ‹يوم عمل الرب الارض والسموات›. (تكوين ٢:٤؛ قارنوا ٢ بطرس ٣:٨.) والحقيقة هي ان الكتاب المقدس يوضح ان «الايام»، او العصور، الخلقية تمتد آلاف السنين.
يمكن ان يلاحظ المرء ذلك مما يقوله الكتاب المقدس عن «اليوم» السابع. فالكلام عن كل يوم من «الايام» الستة الاولى ينتهي بالقول: ‹وكان مساء وصباح يوما واحدا›، الى آخره. لكنكم لن تجدوا هذا التعليق بعد الكلام عن «اليوم» السابع. وفي القرن الاول بعد الميلاد، اي بعد نحو ٠٠٠,٤ سنة في مجرى التاريخ، ذكر الكتاب المقدس ان «يوم» الراحة السابع لا يزال مستمرا. (عبرانيين ٤:٤-٦) اذًا كان «اليوم» السابع فترة تمتد آلاف السنين، ومن المنطقي ان نستنتج الامر نفسه عن «الايام» الستة الاولى.
«اليومان» الاول والرابع
يبدو ان الارض أُثبتت في مدارها حول الشمس وكانت كرة مغمورة بالماء قبل ابتداء «الايام»، او الفترات، الستة من الاعمال الخلقية الخصوصية. «[كانت] على وجه الغمر ظلمة». (تكوين ١:٢) فلا بد ان شيئا — ربما مزيجا من بخار الماء وغازات اخرى وغبار بركاني — كان يحُول دون بلوغ ضوء الشمس سطحَ الارض في تلك المرحلة الباكرة. ويصف الكتاب المقدس الفترة الخلقية الاولى بهذه الطريقة: «شرع اللّٰه يقول: ‹ليكن نور›؛ وتدريجيا اتى النور الى الوجود»، او بلغ سطح الارض. — تكوين ١:٣، ترجمة ج. و. واتس.
ان عبارة «تدريجيا اتى» تعكس بدقة صيغةً للفعل العبراني المستعمل هنا تدل على عمل تقدُّمي يستغرق اكماله وقتا. وكل مَن يجيد قراءة اللغة العبرانية يجد هذه الصيغة نحو ٤٠ مرة في التكوين الاصحاح ١، وهذا مهم لفهم الاصحاح. فما بدأه اللّٰه في المساء المجازي لإحدى الفترات، او العصور، الخلقية صار واضحا او ظاهرا تدريجيا بعد صباح ذلك «اليوم».b ولم يكن ضروريا ايضا ان يكون ما ابتُدئ به في احدى الفترات قد انتهى كله عند بداية الفترة التالية. لإيضاح ذلك، بدأ النور يَظهر تدريجيا في «اليوم» الاول، ولكن لم يكن ممكنا تمييز الشمس والقمر والنجوم حتى الفترة الخلقية الرابعة. — تكوين ١:١٤-١٩.
«اليومان» الثاني والثالث
قبل ان يجعل الخالق اليابسة تَظهر في «اليوم» الخلقي الثالث، قام برفع بعض المياه. وبسبب ذلك صارت الارض محاطة بطبقة من بخار الماء.c ولا يصف هذا السجل القديم العمليات المستخدمة لتحقيق ذلك، ولا حاجة به ان يفعل. عوضا عن ذلك، يركّز الكتاب المقدس على وجود الجَلَد بين المياه العليا والمياه السطحية. ودُعي هذا الجَلَد سماء. وحتى اليوم لا يزال الناس يستعملون هذه الكلمة للاشارة الى الغلاف الجوّي حيث تحلّق الطيور والطائرات. وفي الوقت المعيَّن، ملأ اللّٰه جوّ السماء هذا بمزيج من الغازات الضرورية للحياة.
ولكن، خلال «الايام» الخلقية، انخفض مستوى المياه السطحية، وهكذا ظهرت اليابسة. فيبدو ان اللّٰه، ربما باستخدام قوى جيولوجية لا تزال تحرِّك حتى الآن ألواح plates الارض، رفع الحيود المحيطية لتشكيل القارات. وبسبب ذلك ظهرت اليابسة فوق سطح الماء ووديان محيطية عميقة تحته، وديان وضع علماء البحار في ايامنا خرائط لها وهم يدرسونها باندفاع شديد. (قارنوا مزمور ١٠٤:٨، ٩، ترجمة تفسيرية. ) وبعدما تشكلت اليابسة، حدث تطوُّر مدهش آخر. يذكر السجل: «قال اللّٰه لتنبت الارض عشبا وبقلا يبزر بزرا وشجرا ذا ثمر يعمل ثمرا كجنسه بزره فيه على الارض. وكان كذلك». — تكوين ١:١١.
كما نوقش في الفصل السابق («المصنوعات — ماذا يقف وراءها؟»)، التخليق الضوئي ضروري للنباتات. فهنالك في الخلية النباتية الخضراء عدد من الاجزاء الاصغر التي تدعى «صانعات الكلوروفيل chloroplasts»، والتي تتلقى الطاقة من ضوء الشمس. «وهذه المصانع المجهرية»، كما يوضح كتاب كوكب الارض (بالانكليزية)، «تصنِّع السكر والنشاء . . . ولم يصمِّم الانسان قط مصنعا فعّالا، او ذا طلب على منتجاته، اكثر من صانع الكلوروفيل».
نعم، كانت الحياة الحيوانية المستقبلية ستعتمد على صانعات الكلوروفيل للعيش. وبالاضافة الى ذلك، لولا النباتات الخضراء لَكان جوّ الارض غنيا جدا بثاني اكسيد الكربون، ولَمُتْنا من الحر والنقص في الاكسجين. يقدِّم بعض الخبراء تفسيرات عجيبة لتطوُّر نوع الحياة الذي يعتمد على التخليق الضوئي. فهم يقولون، مثلا، انه عندما بدأت عضويات وحيدة الخلية في الماء تفتقر الى الطعام، «ابتكرت اخيرا بعض الخلايا الرائدة القليلة حلّا لها. فقد توصلت الى التخليق الضوئي». ولكن هل هذا حقا ما حدث؟ فالتخليق الضوئي معقد جدا حتى ان العلماء لا يزالون يحاولون حتى الآن سبر اغواره. فهل تعتقدون ان حياةً ذاتية التكاثر قائمة على التخليق الضوئي نشأت من تلقاء نفسها وبشكل يتعذر تفسيره؟ او تجدون انه من المنطقي اكثر الاعتقاد انها وُجدت نتيجة عملية خلق ذكية وذات هدف، كما يخبر التكوين؟
ربما لم ينتهِ ظهور انواع جديدة من الحياة النباتية في «اليوم» الخلقي الثالث. حتى انه ربما استمر الى «اليوم» السادس، حين «غرس [الخالق] جنة في عدن» وأنبت «من الارض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للاكل». (تكوين ٢:٨، ٩) وكما ذُكر، لا بد ان جوّ الارض كان قد صفا في «اليوم» الرابع، وهكذا صار ضوء اكثر من الشمس والاجرام السماوية الاخرى يبلغ كوكب الارض.
«اليومان» الخامس والسادس
خلال «اليوم» الخلقي الخامس، شرع الخالق يملأ المحيطات وجوّ السماء بنوع جديد من الحياة مختلف عن النبات: «انفس حية». ومن المثير للاهتمام ان علماء الأحياء، بين امور اخرى، يتحدثون عن عالَم النبات وعالَم الحيوان، ويقسِّمونهما الى تصنيفات اصغر. والكلمة العبرانية المترجمة الى «نفس» تعني «متنفِّس». ويقول الكتاب المقدس ايضا ان «الانفس الحية» فيها دم. لذلك يمكننا الاستنتاج ان المخلوقات التي لديها جهاز تنفُّسي وجهاز دوران circulatory — الكائنات المتنفِّسة في البحار والسماء — بدأت تَظهر في الفترة الخلقية الخامسة. — تكوين ١:٢٠، عج؛ تكوين ٩:٣، ٤.
وفي «اليوم» السادس ركّز اللّٰه اكثر على اليابسة. فخلق ‹البهائم والوحوش›، وهاتان التسميتان للحيوانات كانتا مفهومتَين حينما خطّ موسى هذه الرواية. (تكوين ١:٢٤) اذًا صُنعت الثدييات التي تعيش على البَر في الفترة الخلقية السادسة. ولكن ماذا عن البشر؟
يخبرنا السجل القديم ان الخالق اختار اخيرا ان يوجِد شكلا فريدا من الحياة على الارض. فقال لابنه السماوي: «نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا. فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الارض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الارض». (تكوين ١:٢٦) لذلك كان الانسان سيعكس الصورة الروحية لصانعه، مُعرِبا عن صفاته. وكان سيتمكن من استيعاب مقادير هائلة من المعرفة. وهكذا كان البشر سيفوقون ايّ حيوان آخر ذكاءً. وقد صُنع الانسان، بخلاف الحيوانات ايضا، بقدرة على التصرُّف وفقا لإرادته الحرة، دون ان تتحكم فيه الغريزة في الدرجة الاولى.
يقوم العلماء في السنوات الاخيرة بأبحاث مكثَّفة حول المورِّثات (الجينات) البشرية. وبمقارنة نماذج وراثية بشرية من حول العالم، وجدوا ادلة قاطعة على ان البشر جميعا لهم سَلَف مشترك، مصدر مشترك لِدَنا DNA كل انسان عاش على الاطلاق، ويشمل ذلك كل واحد منا. وفي سنة ١٩٨٨ عرضت مجلة نيوزويك (بالانكليزية) نتائج هذه الابحاث في تقرير بعنوان «البحث عن آدم وحواء». ارتكزت هذه الدراسات على نوع من دَنا الحُبَيبات الخيطية mitochondrial DNA، مادة وراثية لا تنتقل إلا بواسطة الانثى. وتقود تقارير في سنة ١٩٩٥ متعلقة بأبحاث حول الدَّنا الذكري الى الاستنتاج نفسه — انه «كان هنالك ‹آدم› سَلَفيّ يحمل على الصِّبغي [Y] المادة الوراثية المشتركة بين كل رجل يعيش الآن على الارض»، على حد قول مجلة تايم (بالانكليزية). وسواء كانت هذه النتائج دقيقة في كل تفاصيلها او لا، فهي توضح ان التاريخ الذي نجده في سفر التكوين له مصداقية كبيرة، ان مؤلفه العظيم كان حاضرا آنذاك.
ما اروع الذروة التي بلغتها اعمال اللّٰه الخلقية حين جمع بعضا من عناصر الارض وصنع ابنه البشري الاول، ابنا دعاه آدم! (لوقا ٣:٣٨) وتخبرنا الرواية التاريخية ان خالق الكرة الارضية والحياة عليها وضع الانسان الذي صنعه في منطقة شبيهة بجنة «ليعملها ويحفظها». (تكوين ٢:١٥) وربما كان الخالق في ذلك الوقت لا يزال يُنتِج بعض الانواع الحيوانية الجديدة. يقول الكتاب المقدس: «وجبل الرب الاله من الارض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء. فأحضرها الى آدم ليرى ماذا يدعوها. وكل ما دعا به آدم ذات [«كل»، عج] نفس حية فهو اسمها». (تكوين ٢:١٩) ولا يلمّح الكتاب المقدس ابدا الى ان الانسان الاول آدم هو مجرد شخصية خرافية، بل الى انه شخص حقيقي — انسان يفكّر ويشعر — قادر على ايجاد الفرح في ذلك الموطن الفردوسي. وكان كل يوم يتعلم اكثر عن الاشياء التي صنعها خالقه وعمّا يتميَّز به هذا الخالق — من جهة صفاته وشخصيته.
وبعد فترة غير محدَّدة، خلق اللّٰه المرأة الاولى لتكون زوجة آدم. وأضاف اللّٰه ايضا الى حياتهما قصدا اعظم عندما ذكر هذا التعيين المهم: «اثمروا واكثروا واملأوا الارض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الارض». (تكوين ١:٢٧، ٢٨) ولا شيء يغيِّر قصد الخالق المعلَن: تحويل الارض كلها الى فردوس ملآن بشرا سعداء يعيشون في سلام واحدهم مع الآخر ومع الحيوانات.
ان الكون المادي، بما فيه كوكبنا والحياة عليه، يشهد فعلا على حكمة اللّٰه. ومن الواضح انه رأى بحكمته ان بعض البشر، على مرِّ الوقت، يُحتمل ان يسلكوا بتمرُّد او استقلال عنه، مع انه هو الخالق ومعطي الحياة. وكان يمكن لهذا التمرُّد ان يعرقل العمل العظيم الهادف الى توسيع الفردوس حتى اقصاء الارض. لذلك يقول السجل ان اللّٰه وضع امام آدم وحواء امتحانا بسيطا يذكِّرهما بضرورة الطاعة. والعصيان، كما قال اللّٰه، كان سيؤدي الى خسارتهما الحياة التي اعطاهما اياها. وكان من ألطاف الخالق انه حذَّر ابوينا الاولين من مغبة السلوك الخاطئ الذي يؤثر في سعادة كامل العرق البشري. — تكوين ٢:١٦، ١٧.
باختتام «اليوم» السادس، كان الخالق قد انهى كل ما يلزم لإتمام قصده. لذلك كان بإمكانه ان يقول بالصواب عن كل ما عمله انه «حسن جدا». (تكوين ١:٣١) وعند هذه النقطة يذكر الكتاب المقدس فترة زمنية مهمة اخرى، اذ يقول ان اللّٰه «استراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل». (تكوين ٢:٢) ولكن بما ان الخالق «لا يكل ولا يعيا»، فلماذا يُقال عنه انه استراح؟ (اشعياء ٤٠:٢٨) يشير ذلك الى توقفه عن القيام بأعمال الخليقة المادية؛ وعلاوة على ذلك، لقد استراح عالِمًا ان لا شيء، حتى ولا التمرُّد في السماء او على الارض، قادر على إحباط قصده العظيم. فبارك اللّٰه بثقة «اليوم» الخلقي السابع. لذلك يمكن لمخلوقات اللّٰه الذكية والولية — البشر والمخلوقات الروحانية غير المنظورة — ان تتأكد انه بنهاية «اليوم» السابع، سيعمّ السلام والسعادة الكون بأسره.
هل ينال سجل التكوين ثقتكم؟
ولكن هل يمكنكم ان تؤمنوا برواية الخلق هذه وبالآمال التي تقدِّمها؟ كما ذكرنا، بدأت الابحاث الوراثية العصرية تتوصل الى الاستنتاج المشار اليه في الكتاب المقدس منذ زمن طويل. وقد لفت ايضا نظر بعض العلماء تسلسل الاحداث المذكور في سفر التكوين. مثلا، علّق الجيولوجي الشهير والاس پرات قائلا: «اذا دُعيتُ كجيولوجي لأشرح باختصار آراءنا الحديثة في اصل الارض ونشوء الحياة عليها لشعب بسيط من الرعاة، كالقبائل التي وُجِّه اليها سفر التكوين، اكاد لا استطيع ان افعل احسن من ان اتَّبع بدقة الكثير من لغة الاصحاح الاول من سفر التكوين». ولاحظ ايضا ان التسلسل الموصوف في التكوين عن اصل المحيطات وبروز البَر، بالاضافة الى ظهور الحياة البحرية والطيور والثدييات، يطابق من حيث الجوهر تعاقُب الاقسام الرئيسية للزمن الجيولوجي.
تأملوا في هذا: كيف رتَّب موسى — قبل آلاف السنين — هذا التسلسل بالشكل الصحيح لو لم يكن مصدر معلوماته من الخالق والمصمِّم نفسه؟
يذكر الكتاب المقدس: «عن طريق الايمان، ندرك ان الكون كله قد برز الى الوجود بكلمة امر من اللّٰه. حتى ان عالمنا المنظور، قد تكوَّن من امور غير منظورة!». (عبرانيين ١١:٣، تف ) كثيرون ليسوا على استعداد لتقبُّل هذه الحقيقة، اذ يفضِّلون الايمان بالصدفة او بعملية عمياء انتجت في زعمهم كوننا والحياة.d ولكن، كما رأينا، توجد اسباب كثيرة ومتنوعة تدفعنا الى الايمان بأن الكون والحياة الارضية — بما فيهما حياتنا نحن — أتيا بفضل علّة اولى ذكية، بفضل خالق، هو اللّٰه.
يعترف الكتاب المقدس بصراحة ان «الايمان ليس للجميع». (٢ تسالونيكي ٣:٢) ومع ذلك، لا يعني الايمان سرعة التصديق. فالايمان قائم على حقيقة جوهرية. وفي الفصل التالي، سنتأمل في اسباب وجيهة ومقنعة اضافية تُظهر لنا لماذا يمكننا الوثوق بالكتاب المقدس وبالخالق العظيم الذي يهتمُّ بأمرنا شخصيا.
[الحواشي]
a الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربَّع سرعة الضوء.
b كان العبرانيون يحسبون بداية يومهم في المساء بحيث يمتد حتى غروب الشمس التالي.
c ربما استعمل الخالق عمليات طبيعية لرفع هذه المياه وإبقائها عاليا. وقد انهمرت هذه المياه في ايام نوح. (تكوين ١:٦-٨؛ ٢ بطرس ٢:٥؛ ٣:٥، ٦) وهذا الحدث التاريخي ترك اثرا لا يُمحى في اذهان البشر الناجين والمتحدِّرين منهم، كما يؤكد علماء الانسان. ونجد ان هذا الحدث يَظهر في قصص الطوفان التي حفظتها شعوب حول الكرة الارضية.
d من اجل دراسة اوسع لتاريخ اشكال الحياة على الارض، انظروا الحياة — كيف وصلت الى هنا؟ بالتطوُّر ام بالخَلق؟، اصدار جمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس في نيويورك.
[الصورة في الصفحة ٨٦]
الاقراص الغبارية، كهذا القرص في مجرَّة 4261 NGC، هي دليل على وجود ثقوب سوداء شديدة، وهذه الثقوب لا يمكن رؤيتها. ويخبر الكتاب المقدس عن وجود مخلوقات، في حيِّز آخر، شديدة هي ايضا، ولكن لا يمكن رؤيتها
[الصورة في الصفحة ٨٩]
اكدت التجارب النظرية العلمية القائلة انه يمكن تحويل الكتلة الى طاقة والطاقة الى كتلة
[الصورة في الصفحة ٩٤]
الاعمال الخلقية من «اليوم» الاول الى «اليوم» الثالث اتاحت ظهور النبات بتنوُّع مذهل
[الصور في الصفحة ٩٩]
يصف الكتاب المقدس بدقة وبعبارات بسيطة الظهور المتسلسل لأشكال الحياة على الارض
[الصورة في الصفحة ١٠١]
«كجيولوجي . . . اكاد لا استطيع ان افعل احسن من ان اتَّبع بدقة الكثير من لغة الاصحاح الاول من سفر التكوين». — والاس پرات