اَلْفَصْلُ ٤٣
أَمْثَالٌ عَنِ ٱلْمَلَكُوتِ
متى ١٣:١-٥٣ مرقس ٤:١-٣٤ لوقا ٨:٤-١٨
يَسُوعُ يُعَلِّمُ عَنِ ٱلْمَلَكُوتِ بِأَمْثَالٍ
كَانَ يَسُوعُ فِي كَفَرْنَاحُومَ عَلَى مَا يَبْدُو حِينَ وَبَّخَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ. وَفِي وَقْتٍ لَاحِقٍ مِنَ ٱلْيَوْمِ نَفْسِهِ، يُغَادِرُ ٱلْبَيْتَ وَيَمْشِي صَوْبَ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ ٱلْمُجَاوِرِ. وَإِذْ تَجْتَمِعُ إِلَيْهِ حُشُودٌ غَفِيرَةٌ، يَصْعَدُ إِلَى مَتْنِ مَرْكَبٍ وَيَبْتَعِدُ قَلِيلًا عَنِ ٱلشَّاطِئِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ يُعَلِّمُهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ ٱلسَّمٰوَاتِ. فَيَرْوِي أَمْثَالًا أَوْ قِصَصًا قَصِيرَةً تَتَضَمَّنُ صُوَرًا وَأَفْكَارًا مَأْلُوفَةً لَدَى سَامِعِيهِ، مُسَهِّلًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَوْعِبُوا عِدَّةَ جَوَانِبَ لِلْمَلَكُوتِ.
يَبْدَأُ يَسُوعُ بِمَثَلٍ عَنْ زَارِعٍ يُلْقِي بِذَارًا. فَيَسْقُطُ بَعْضُهُ عَلَى جَانِبِ ٱلطَّرِيقِ وَتَأْكُلُهُ ٱلطُّيُورُ. وَيَسْقُطُ ٱلْبَعْضُ ٱلْآخَرُ عَلَى تُرْبَةٍ صَخْرِيَّةٍ، فَلَا تَتَأَصَّلُ جُذُورُ ٱلنَّبْتَاتِ ٱلْجَدِيدَةِ وَتَيْبَسُ مَا إِنْ تَلْفَحُهَا ٱلشَّمْسُ. وَتَقَعُ حَبَّاتٌ أُخْرَى بَيْنَ ٱلشَّوْكِ ٱلَّذِي يَخْنُقُ ٱلنَّبْتَاتِ ٱلنَّامِيَةَ. وَأَخِيرًا، يَنْثُرُ ٱلزَّارِعُ حَبَّاتٍ عَلَى تُرْبَةٍ جَيِّدَةٍ فَتُنْتِجُ ثَمَرًا، «هٰذِهِ مِئَةَ ضِعْفٍ، وَتِلْكَ سِتِّينَ، وَٱلْأُخْرَى ثَلَاثِينَ». — متى ١٣:٨.
وَفِي مَثَلٍ آخَرَ، يُشَبِّهُ ٱلْمَلَكُوتَ بِزَارِعٍ يَزْرَعُ بِذَارًا. وَفِيمَا يَنَامُ وَيَقُومُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، يُفْرِخُ ٱلْبِذَارُ وَيَعْلُو «وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ». (مرقس ٤:٢٧) فَٱلْبِذَارُ يَنْمُو مِنْ تِلْقَاءِ ذَاتِهِ وَيُنْتِجُ حَبًّا يَحْصُدُهُ ٱلزَّارِعُ فِي مَا بَعْدُ.
يَسْتَوْحِي يَسُوعُ مَثَلًا ثَالِثًا مِنْ حَقْلِ ٱلزِّرَاعَةِ. فَيُخْبِرُ عَنْ إِنْسَانٍ يَزْرَعُ حِنْطَةً، أَيْ نَوْعًا جَيِّدًا مِنَ ٱلْبِذَارِ. وَلٰكِنْ «فِيمَا ٱلنَّاسُ نَائِمُونَ»، يَزْرَعُ عَدُوٌّ زِوَانًا بَيْنَ ٱلْحِنْطَةِ. وَحِينَ يَسْأَلُ ٱلْعَبِيدُ سَيِّدَهُمْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِٱقْتِلَاعِ ٱلزِّوَانِ، يُجِيبُهُمْ: «لَا، لِئَلَّا تَسْتَأْصِلُوا ٱلْحِنْطَةَ مَعَ ٱلزِّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. دَعُوهُمَا يَنْمُوَانِ كِلَاهُمَا مَعًا حَتَّى ٱلْحَصَادِ. وَفِي مَوْسِمِ ٱلْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اِجْمَعُوا أَوَّلًا ٱلزِّوَانَ وَٱرْبِطُوهُ حُزَمًا لِيُحْرَقَ، ثُمَّ ٱجْمَعُوا ٱلْحِنْطَةَ إِلَى مَخْزَنِي». — متى ١٣:٢٤-٣٠.
وَبِمَا أَنَّ كَثِيرِينَ مِنْ سَامِعِي يَسُوعَ مُلِمُّونَ بِٱلزِّرَاعَةِ، يَسْتَخْدِمُ فِكْرَةً أُخْرَى مَأْلُوفَةً لَهُمْ عَنْ حَبَّةِ ٱلْخَرْدَلِ ٱلصَّغِيرَةِ. فَهِيَ تَنْمُو وَتَغْدُو شَجَرَةً ضَخْمَةً، إِلَى حَدِّ أَنَّ طُيُورَ ٱلسَّمَاءِ تَبِيتُ بَيْنَ أَغْصَانِهَا. فَيَقُولُ: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمٰوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ، أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ». (متى ١٣:٣١) طَبْعًا، لَا يَهْدِفُ يَسُوعُ إِلَى إِعْطَاءِ دَرْسٍ فِي عِلْمِ ٱلنَّبَاتِ. بَلْ يُوضِحُ، مِنْ خِلَالِ ٱلنُّمُوِّ ٱلْهَائِلِ لِحَبَّةِ ٱلْخَرْدَلِ، كَيْفَ يُمْكِنُ لِشَيْءٍ مُتَنَاهٍ فِي ٱلصِّغَرِ أَنْ يَتَوَسَّعَ وَيُصْبِحَ كَبِيرًا لِلْغَايَةِ.
بَعْدَ ذٰلِكَ، يَسْتَمِدُّ مَثَلًا مِنْ رُوتِينِ سَامِعِيهِ ٱلْيَوْمِيِّ، قَائِلًا: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمٰوَاتِ خَمِيرَةً، أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَأَخْفَتْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَكْيَالٍ كَبِيرَةٍ مِنَ ٱلطَّحِينِ». (متى ١٣:٣٣) صَحِيحٌ أَنَّ ٱلْخَمِيرَةَ لَا تَعُودُ ظَاهِرَةً لِلْعِيَانِ، لٰكِنَّهَا تَتَغَلْغَلُ فِي ٱلْعَجِينِ كُلِّهِ وَتَجْعَلُهُ يَنْتَفِخُ. إِنَّهَا تُحْدِثُ تَغْيِيرَاتٍ مُذْهِلَةً لَا تَظْهَرُ وَاضِحَةً عَلَى ٱلْفَوْرِ.
بَعْدَ ٱلتَّفَوُّهِ بِهٰذِهِ ٱلْأَمْثَالِ، يَصْرِفُ يَسُوعُ ٱلْجُمُوعَ وَيَرْجِعُ إِلَى ٱلْبَيْتِ حَيْثُ يُقِيمُ. وَلَا يَلْبَثُ تَلَامِيذُهُ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِ لِيَسْتَفْهِمُوا مِنْهُ مَعْنَى أَمْثَالِهِ.
إِلَامَ يَرْمِي يَسُوعُ بِأَمْثَالِهِ؟
لَقَدْ سَبَقَ وَسَمِعَ ٱلتَّلَامِيذُ أَمْثَالًا مِنْ يَسُوعَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ بِهٰذَا ٱلْكَمِّ فِي مُنَاسَبَةٍ وَاحِدَةٍ. فَيَسْأَلُونَهُ: «لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟». — متى ١٣:١٠.
مِنْ جُمْلَةِ ٱلْأَسْبَابِ إِتْمَامُ نُبُوَّةِ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ. تُخْبِرُ رِوَايَةُ مَتَّى: «بِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ، لِيَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلنَّبِيِّ ٱلْقَائِلِ: ‹أَفْتَحُ فَمِي بِأَمْثَالٍ، أَنْشُرُ مَا كَانَ مَخْفِيًّا مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ›». — متى ١٣:٣٤، ٣٥؛ مزمور ٧٨:٢.
سَبَبٌ آخَرُ هُوَ كَشْفُ مَوَاقِفِ ٱلنَّاسِ وَنِيَّاتِهِمْ. فَكَثِيرُونَ مِنْهُمْ مُهْتَمُّونَ بِيَسُوعَ لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ رِوَائِيٌّ بَارِعٌ وَصَانِعُ عَجَائِبَ. فَلَا يَرَوْنَ فِيهِ رَبًّا عَلَيْهِمْ إِطَاعَتُهُ وَبَذْلُ ٱلتَّضْحِيَاتِ فِي سَبِيلِ ٱتِّبَاعِهِ. (لوقا ٦:٤٦، ٤٧) وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا لَا نَظْرَتَهُمْ إِلَى ٱلْأُمُورِ وَلَا طَرِيقَةَ حَيَاتِهِمْ. إِنَّهُمْ لَا يَسْمَحُونَ لِرِسَالَتِهِ أَنْ تَتَخَلَّلَ كِيَانَهُمْ وَتُؤَثِّرَ فِيهِمْ.
لِذَا يَرُدُّ يَسُوعُ عَلَى سُؤَالِ تَلَامِيذِهِ: «لِهٰذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ، لِأَنَّهُمْ وَهُمْ نَاظِرُونَ، يَنْظُرُونَ عَبَثًا، وَهُمْ سَامِعُونَ، يَسْمَعُونَ عَبَثًا، وَلَا يَفْهَمُونَ. فَفِيهِمْ تَتِمُّ نُبُوَّةُ إِشَعْيَا، ٱلَّتِي تَقُولُ: ‹ . . . قَدْ غَلُظَ قَلْبُ هٰذَا ٱلشَّعْبِ›». — متى ١٣:١٣-١٥؛ اشعيا ٦:٩، ١٠.
وَلٰكِنْ لَيْسَتْ هٰذِهِ حَالَ كُلِّ سَامِعِيهِ. يُتَابِعُ: «سَعِيدَةٌ هِيَ عُيُونُكُمْ لِأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَآذَانُكُمْ لِأَنَّهَا تَسْمَعُ. فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْبِيَاءُ وَأَبْرَارٌ كَثِيرُونَ ٱشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وَلَمْ يَرَوْا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا». — متى ١٣:١٦، ١٧.
فَٱلرُّسُلُ ٱلِـ ١٢ وَغَيْرُهُمْ مِنَ ٱلتَّلَامِيذِ ٱلْأَوْلِيَاءِ لَدَيْهِمْ قُلُوبٌ طَيِّعَةٌ. لِذَا يَقُولُ يَسُوعُ: «لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَفْهَمُوا ٱلْأَسْرَارَ ٱلْمُقَدَّسَةَ لِمَلَكُوتِ ٱلسَّمٰوَاتِ، وَأَمَّا لِأُولٰئِكَ فَلَمْ يُعْطَ». (متى ١٣:١١) وَإِذْ يَرَى رَغْبَتَهُمُ ٱلصَّادِقَةَ فِي فَهْمِ كَلَامِهِ، يَشْرَحُ لَهُمْ مَثَلَ ٱلزَّارِعِ.
يَذْكُرُ: «اَلْبِذَارُ هُوَ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ». (لوقا ٨:١١) وَٱلتُّرْبَةُ هِيَ ٱلْقَلْبُ. وَعَلَى هٰذَا ٱلْأَسَاسِ يُمْكِنُ فَهْمُ مَغْزَى ٱلْمَثَلِ.
فَعَنِ ٱلْبِذَارِ ٱلَّذِي يَسْقُطُ عَلَى جَانِبِ ٱلطَّرِيقِ وَيَنْدَاسُ، يَقُولُ يَسُوعُ: «يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ ٱلْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِ [ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَهَا] لِئَلَّا يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا». (لوقا ٨:١٢) أَمَّا حَدِيثُهُ عَنِ ٱلْمَزْرُوعِ عَلَى ٱلتُّرْبَةِ ٱلصَّخْرِيَّةِ فَيُشِيرُ إِلَى ٱلَّذِينَ يَقْبَلُونَ ٱلْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَرَسَّخُ عَمِيقًا فِي قُلُوبِهِمْ. فَهُمْ يَعْثُرُونَ «إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ بِسَبَبِ ٱلْكَلِمَةِ». فَحِينَ يَأْتِي «وَقْتُ ٱلِٱمْتِحَانِ»، رُبَّمَا عَلَى شَكْلِ مُقَاوَمَةٍ مِنْ أَفْرَادِ ٱلْعَائِلَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، يَزِلُّونَ بَعِيدًا. — متى ١٣:٢١؛ لوقا ٨:١٣.
وَمَاذَا عَنِ ٱلْبِذَارِ ٱلَّذِي يَسْقُطُ بَيْنَ ٱلشَّوْكِ؟ إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ لٰكِنَّهُمْ يَقَعُونَ فَرِيسَةَ «هَمِّ نِظَامِ ٱلْأَشْيَاءِ هٰذَا وَقُوَّةِ ٱلْغِنَى ٱلْخَادِعَةِ». (متى ١٣:٢٢) صَحِيحٌ أَنَّ ٱلْكَلِمَةَ تَنْفُذُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، لٰكِنَّهَا تَخْتَنِقُ فَتَصِيرُ بِلَا ثَمَرٍ.
وَأَخِيرًا تُشِيرُ ٱلتُّرْبَةُ ٱلْجَيِّدَةُ إِلَى مَنْ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ فَيَفْهَمُونَهَا وَيَحْفَظُونَهَا فِي قُلُوبِهِمْ. وَٱلنَّتِيجَةُ أَنَّهُمْ «يُثْمِرُونَ». وَلٰكِنْ يَتَفَاوَتُ ٱلثَّمَرُ بِتَفَاوُتِ ظُرُوفِهِمْ كَٱلْعُمْرِ أَوِ ٱلصِّحَّةِ. فَٱلْبَعْضُ يُنْتِجُ مِئَةَ ضِعْفٍ، وَٱلْبَعْضُ ٱلْآخَرُ سِتِّينَ، وَغَيْرُهُمْ ثَلَاثِينَ. وَمَا أَرْوَعَ ٱلْبَرَكَاتِ ٱلَّتِي يُغْدِقُهَا يَهْوَهُ عَلَى «ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ بِقَلْبٍ جَيِّدٍ وَصَالِحٍ، فَيَحْفَظُونَهَا وَيُثْمِرُونَ بِٱلِٱحْتِمَالِ»! — لوقا ٨:١٥.
لَا بُدَّ أَنَّ هٰذِهِ ٱلشُّرُوحَاتِ تُحْدِثُ تَأْثِيرًا كَبِيرًا فِي ٱلتَّلَامِيذِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَكْتَفُوا بِٱلْخُطُوطِ ٱلْعَرِيضَةِ لِأَمْثَالِ يَسُوعَ، بَلْ قَصَدُوهُ طَلَبًا لِفَهْمِهَا. وَهٰذِهِ غَايَةُ يَسُوعَ أَنْ يُدْرِكُوا مَغْزَى أَمْثَالِهِ كَيْ يَنْقُلُوا هُمْ بِدَوْرِهِمِ ٱلْحَقَّ إِلَى ٱلْآخَرِينَ. لِهٰذَا يَسْأَلُ: «هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ ٱلسَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ؟». وَيَحُثُّ قَائِلًا: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ». — مرقس ٤:٢١-٢٣.
يَسُوعُ يَخُصُّ ٱلتَّلَامِيذَ بِمَزِيدٍ مِنَ ٱلْمَعْرِفَةِ
بَعْدَ فَهْمِ مَثَلِ ٱلزَّارِعِ، يُطَالِبُ ٱلتَّلَامِيذُ يَسُوعَ بِٱلْمَزِيدِ قَائِلِينَ: «اِشْرَحْ لَنَا مَثَلَ زِوَانِ ٱلْحَقْلِ». — متى ١٣:٣٦.
يَدُلُّ طَلَبُهُمْ هٰذَا كَمْ يَخْتَلِفُ مَوْقِفُهُمْ عَنْ سَائِرِ ٱلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا عَلَى ٱلشَّاطِئِ. فَكَمَا يَتَّضِحُ، يَسْتَمِعُ هٰؤُلَاءِ ٱلْجُمُوعُ إِلَى أَمْثَالِ يَسُوعَ لٰكِنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِنَظْرَةٍ عَامَّةٍ عَنْهَا وَلَا رَغْبَةَ لَدَيْهِمْ فِي فَهْمِ مَغْزَاهَا وَٱنْطِبَاقِهَا. فَيُقَارِنُ يَسُوعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَلَامِيذِهِ ٱلتَّوَّاقِينَ إِلَى ٱلْمَعْرِفَةِ وَٱلِٱطِّلَاعِ، قَائِلًا:
«اِنْتَبِهُوا لِمَا تَسْمَعُونَ! بِٱلْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ، يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ». (مرقس ٤:٢٤) وَٱلتَّلَامِيذُ يَنْتَبِهُونَ لِمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ يَسُوعَ. فَهُمْ يَكِيلُونَ لَهُ، أَيْ يَمْنَحُونَهُ، كُلَّ ٱهْتِمَامٍ وَتَقْدِيرٍ. لِذَا يَخُصُّهُمْ بِٱلْمَزِيدِ مِنَ ٱلْمَعْرِفَةِ وَٱلتَّنْوِيرِ. فَيُجِيبُ عَنِ ٱسْتِفْسَارِهِمْ حَوْلَ مَثَلِ ٱلْحِنْطَةِ وَٱلزِّوَانِ، قَائِلًا:
«اَلزَّارِعُ ٱلْبِذَارَ ٱلْجَيِّدَ هُوَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ. وَٱلْحَقْلُ هُوَ ٱلْعَالَمُ. أَمَّا ٱلْبِذَارُ ٱلْجَيِّدُ فَهُوَ بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ. وَٱلزِّوَانُ هُوَ بَنُو ٱلشِّرِّيرِ. وَٱلْعَدُوُّ ٱلَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَٱلْحَصَادُ هُوَ ٱخْتِتَامُ نِظَامِ ٱلْأَشْيَاءِ. وَٱلْحَصَّادُونَ هُمُ ٱلْمَلَائِكَةُ». — متى ١٣:٣٧-٣٩.
وَبَعْدَمَا أَوْضَحَ يَسُوعُ أَرْكَانَ ٱلْمَثَلِ وَاحِدًا فَوَاحِدًا، يَصِفُ ٱلنَّتِيجَةَ. فَفِي ٱخْتِتَامِ نِظَامِ ٱلْأَشْيَاءِ سَيَفْرِزُ ٱلْحَصَّادُونَ، أَيِ ٱلْمَلَائِكَةُ، ٱلْمَسِيحِيِّينَ ٱلزَّائِفِينَ ٱلْمُشَبَّهِينَ بِٱلزِّوَانِ عَنْ ‹بَنِي ٱلْمَلَكُوتِ› ٱلْحَقِيقِيِّينَ. وَسَيُجْمَعُ هٰؤُلَاءِ «ٱلْأَبْرَارُ» وَيَسْطَعُونَ أَخِيرًا «فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ». أَمَّا «بَنُو ٱلشِّرِّيرِ» فَمَصِيرُهُمُ ٱلْهَلَاكُ، وَهُوَ سَبَبٌ وَجِيهٌ يَدْعُو إِلَى «ٱلْبُكَاءِ وَصَرِيرِ ٱلْأَسْنَانِ». — متى ١٣:٤١-٤٣.
بَعْدَ ذٰلِكَ، يُخْبِرُ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ إِضَافِيَّةٍ. يَقُولُ بِدَايَةً: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمٰوَاتِ كَنْزًا مُخْفًى فِي ٱلْحَقْلِ، وَجَدَهُ إِنْسَانٌ وَأَخْفَاهُ، وَمِنْ فَرَحِهِ ذَهَبَ وَبَاعَ مَا لَهُ وَٱشْتَرَى ذٰلِكَ ٱلْحَقْلَ». — متى ١٣:٤٤.
وَيُتَابِعُ: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمٰوَاتِ تَاجِرًا جَائِلًا يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً. فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً عَظِيمَةَ ٱلْقِيمَةِ، ذَهَبَ وَفِي ٱلْحَالِ بَاعَ كُلَّ مَا لَهُ وَٱشْتَرَاهَا». — متى ١٣:٤٥، ٤٦.
يُسَلِّطُ هٰذَانِ ٱلْمَثَلَانِ ٱلضَّوْءَ عَلَى ٱسْتِعْدَادِ ٱلْمَرْءِ لِبَذْلِ ٱلتَّضْحِيَاتِ فِي سَبِيلِ مَا هُوَ قَيِّمٌ حَقًّا. فَٱلتَّاجِرُ يَبِيعُ فِي ٱلْحَالِ «كُلَّ مَا لَهُ» لِيَحْصُلَ عَلَى لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ عَظِيمَةِ ٱلْقِيمَةِ. كَذٰلِكَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي يَجِدُ كَنْزًا مَخْفِيًّا فِي حَقْلٍ ‹يَبِيعُ مَا لَهُ› لِيَشْتَرِيَهُ. وَلَا بُدَّ أَنَّ ٱلتَّلَامِيذَ فَهِمُوا ٱلْفِكْرَةَ ٱلَّتِي يُرِيدُ يَسُوعُ إِيصَالَهَا. فَفِي كِلْتَا ٱلْحَالَتَيْنِ، هُنَاكَ مُبْتَغًى ثَمِينٌ يَسْتَحِقُّ ٱلْجُهْدَ وَٱلتَّقْدِيرَ. وَكِلَا ٱلْمَثَلَيْنِ يُظْهِرَانِ أَنَّ عَلَى ٱلْمَرْءِ تَقْدِيمَ ٱلتَّضْحِيَاتِ مِنْ أَجْلِ إِشْبَاعِ حَاجَتِهِ ٱلرُّوحِيَّةِ. (متى ٥:٣) وَهٰذَا مَا يَفْعَلُهُ عَدَدٌ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ أَمْثَالَ يَسُوعَ هٰذِهِ. فَهُمْ يَبْذُلُونَ ٱلْغَالِيَ وَٱلنَّفِيسَ لِيَسُدُّوا حَاجَتَهُمُ ٱلرُّوحِيَّةَ وَيُصْبِحُوا مِنْ أَتْبَاعِهِ. — متى ٤:١٩، ٢٠؛ ١٩:٢٧.
أَخِيرًا يُشَبِّهُ يَسُوعُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمٰوَاتِ بِشَبَكَةٍ جَارِفَةٍ تَجْمَعُ سَمَكًا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. (متى ١٣:٤٧) وَعِنْدَ فَرْزِهِ، يُحْفَظُ ٱلسَّمَكُ ٱلْجَيِّدُ فِي آنِيَةٍ أَمَّا ٱلرَّدِيءُ فَيُلْقَى بَعِيدًا. فَيُوضِحُ يَسُوعُ أَنَّ هٰذَا مَا سَيَحْصُلُ فِي ٱخْتِتَامِ نِظَامِ ٱلْأَشْيَاءِ؛ فَٱلْمَلَائِكَةُ سَيَفْرِزُونَ ٱلْأَشْرَارَ مِنَ ٱلْأَبْرَارِ.
لَقَدْ قَامَ يَسُوعُ بِصَيْدٍ رُوحِيٍّ كَهٰذَا عِنْدَمَا دَعَا تَلَامِيذَهُ ٱلْأَوَائِلَ أَنْ يَصِيرُوا «صَيَّادِي نَاسٍ». (مرقس ١:١٧) لٰكِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ مَثَلَهُ عَنِ ٱلشَّبَكَةِ ٱلْجَارِفَةِ يَنْطَبِقُ مُسْتَقْبَلًا «فِي ٱخْتِتَامِ نِظَامِ ٱلْأَشْيَاءِ». (متى ١٣:٤٩) وَهٰكَذَا، يَسْتَشِفُّ ٱلرُّسُلُ وَٱلتَّلَامِيذُ ٱلْآخَرُونَ دُونَ شَكٍّ أَنَّ ثَمَّةَ تَطَوُّرَاتٍ مُثِيرَةً لِلِٱهْتِمَامِ سَتَحْدُثُ لَاحِقًا.
لَقَدْ حَظِيَ تَلَامِيذُ يَسُوعَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا أَمْثَالَهُ مِنْ عَلَى ٱلْمَرْكَبِ بِٱسْتِنَارَةٍ رُوحِيَّةٍ. فَعَنْ طِيبِ خَاطِرٍ ‹شَرَحَ لَهُمْ يَسُوعُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى ٱنْفِرَادٍ›. (مرقس ٤:٣٤) فَهُوَ «يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ مَكْنِزِهِ أَشْيَاءَ جَدِيدَةً وَقَدِيمَةً». (متى ١٣:٥٢) لٰكِنَّهُ لَا يَهْدِفُ مِنْ خِلَالِ هٰذِهِ ٱلْأَمْثَالِ إِلَى ٱسْتِعْرَاضِ مَهَارَاتِهِ ٱلتَّعْلِيمِيَّةِ، بَلْ إِطْلَاعِ تَلَامِيذِهِ عَلَى حَقَائِقَ قَيِّمَةٍ هِيَ بِمَثَابَةِ كَنْزٍ نَفِيسٍ. إِنَّهُ بِحَقٍّ «مُرْشِدٌ» لَا مَثِيلَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ.