التوبة
الفعل «تاب» يعني «ندم او تأسف» على عمل ما. وهو يحمل فكرة تغيير الشخص فكره بشأن عمل او تصرف قام به لأنه ندمان او غير راضٍ عنه، او فكرة شعوره بوجع الضمير نتيجة ما فعله او لم يفعله. وهذا هو المعنى الذي تعبِّر عنه الكلمة العبرانية ناحام في آيات عديدة. فهي تترجَم الى «ندِم، اقام مناحة، تاب، تأسف» (خر ١٣:١٧؛ تك ٣٨:١٢؛ اي ٤٢:٦؛ ٢ صم ٢٤:١٦)؛ «تعزَّى» (٢ صم ١٣:٣٩؛ حز ٥:١٣)؛ و «استراح (من اعدائه مثلا)». (اش ١:٢٤) وسواء ندم المرء او تعزَّى، من الواضح ان الامر يشمل تغييرا في الفكر او الشعور.
في اليونانية، يُستعمل فعلان للتعبير عن التوبة: مِتانووِيو و مِتامِلومِه. الاول يتألف من مِتا التي تعني «بعد»، و نووِيو (مرتبطة بـ نوس اي العقل، الموقف، او الحس الاخلاقي) التي تعني «ادرك، ميَّز، استوعب بفكره، او انتبه». وعليه، يعني الفعل مِتانووِيو حرفيا عرف لاحقا (بالتباين مع عرف مسبقا) ويدل على تغيير في الفكر، الموقف، او الهدف. اما الفعل مِتامِلومِه فيُشتق من مِلو، فعل يعني «اهتم ب». والبادئة مِتا (بعد) تعطي الفعل معنى ‹الاسف› (مت ٢١:٢٩؛ ٢ كو ٧:٨) او ‹التوبة›.
اذًا، يركِّز مِتانووِيو على تغيير في وجهة نظر الشخص او موقفه، اي رفضه للمسلك او التصرف الذي قام او نوى القيام به اذ يعتبره سيئا (رؤ ٢:٥؛ ٣:٣)، فيما يشدِّد مِتامِلومِه على الشعور بالاسف. (مت ٢١:٢٩) يعلِّق القاموس اللاهوتي للعهد الجديد (تحرير غ. كيتل، المجلد ٤، ص ٦٢٩): «حين يميِّز العهد الجديد بين معنى [هذَين التعبيرَين]، يبيِّن انه يدرك تماما فحوى هذَين المفهومَين الذي لا يتغير. اما في الاستعمال الهلينستي، فغالبا ما أُلغي الحد الفاصل بين هاتَين الكلمتَين». — ترجمة ج. بروميلي، ١٩٦٩ (بالانكليزية).
طبعا، غالبا ما يجلب التغيير في وجهة نظر الشخص تغييرا في شعوره. او يمكن ان يشعر اولا بالندم، ما يؤدي الى تغيير في وجهة نظره او ارادته. (١ صم ٢٤:٥-٧) لذا، مع ان هذَين التعبيرَين مختلفان في المعنى، فهما مرتبطان ارتباطا وثيقا.
توبة البشر عن خطاياهم: ان ما يجعل التوبة ضرورية هو الخطية، اي عدم بلوغ مطالب اللّٰه الصائبة. (١ يو ٥:١٧) وبما ان آدم باع كل البشر للخطية، يحتاج جميع المتحدرين منه الى التوبة. (مز ٥١:٥؛ رو ٣:٢٣؛ ٥:١٢) وتُظهر مقالة «المصالحة» ان التوبة (ثم الاهتداء) مطلب اساسي كي يتصالح الانسان مع اللّٰه.
ويمكن ان يتوب المرء عن كامل مسلك حياته الذي يتعارض مع قصد اللّٰه ومشيئته، وينسجم مع مشيئة العالم الذي يسيطر عليه عدو اللّٰه. (١ بط ٤:٣؛ ١ يو ٢:١٥-١٧؛ ٥:١٩) او قد يتوب عن وجه محدَّد من حياته، مثل ممارسة خاطئة تلطِّخ وتُفسِد مسلكه الجيد؛ او ربما عن عمل خاطئ واحد او حتى عن ميل او رغبة او موقف خاطئ. (مز ١٤١:٣، ٤؛ ام ٦:١٦-١٩؛ يع ٢:٩؛ ٤:١٣-١٧؛ ١ يو ٢:١) اذًا، يمكن ان يكون نطاق الخطإ إما واسعا جدا او محدَّدا جدا.
كذلك، يمكن ان ينحرف الشخص عن فعل الصواب كثيرا او قليلا، ومن المنطقي ان تكون درجة الندم متناسبة مع درجة الانحراف. مثلا، «امعن بنو اسرائيل في التمرد» على يهوه وكانوا ‹يفنون› بسبب تعدياتهم. (اش ٣١:٦؛ ٦٤:٥، ٦؛ حز ٣٣:١٠) بالمقابل، يتكلم الرسول بولس عن ‹انسان انسبق وأُخذ في زلة ما›، ويوصي ذوي المؤهلات الروحية ان ‹يحاولوا اصلاح مثل هذا بروح الوداعة›. (غل ٦:١) وبما ان يهوه ينظر برحمة الى ضعفات خدامه الجسدية، فلا داعي ان يبقوا في حالة من الندم على اخطائهم الناتجة عن نقصهم الموروث. (مز ١٠٣:٨-١٤؛ ١٣٠:٣) فيمكنهم ان يفرحوا ما داموا يسيرون بضمير حي في طرق يهوه. — في ٤:٤-٦؛ ١ يو ٣:١٩-٢٢.
يمكن ان يعرب عن التوبة الذين سبق وتمتعوا بعلاقة جيدة مع اللّٰه، لكنهم شردوا وخسروا رضاه وبركته. (١ بط ٢:٢٥) فالاسرائيليون مثلا كان بينهم وبين اللّٰه عهد. فقد كانوا ‹شعبا مقدَّسا› اختارهم اللّٰه من بين جميع الامم. (تث ٧:٦؛ خر ١٩:٥، ٦) والمسيحيون ايضا صار اللّٰه يعتبرهم بلا لوم بفضل العهد الجديد الذي وسيطه المسيح. (١ كو ١١:٢٥؛ ١ بط ٢:٩، ١٠) وكانت التوبة في حال شرد احد تؤدي الى استعادة العلاقة الجيدة مع اللّٰه ونيل بركات وفوائد هذه العلاقة. (ار ١٥:١٩-٢١؛ يع ٤:٨-١٠) ايضا، كانت التوبة خطوة اساسية وضرورية للذين لم يتمتعوا في السابق بمثل هذه العلاقة مع اللّٰه، كالافراد من الامم الوثنية غير الاسرائيلية حين كان عهد اللّٰه مع امة اسرائيل ساري المفعول (اف ٢:١١، ١٢)، وكذلك للذين من مختلف العروق والجنسيات خارج الجماعة المسيحية. فبدونها لا يمكن ان يكونوا بلا لوم في نظر اللّٰه ويرجوا العيش حياة ابدية. — اع ١١:١٨؛ ١٧:٣٠؛ ٢٠:٢١.
والتوبة لا تقتصر على الافراد فقط، بل يمكن ايضا ان تكون على صعيد جماعي. مثلا، دفعت رسالة يونان كل اهل نينوى «من كبيرهم [ملكهم] الى صغيرهم» ان يتوبوا، لأن اللّٰه اعتبرهم جميعا مشاركين في الخطإ. (يون ٣:٥-٩؛ قارن ار ١٨:٧، ٨.) كذلك، عملا بتشجيع عزرا، اعترف كل الاسرائيليين العائدين من الاسر امام اللّٰه انهم كمجموعة مذنبون وعبَّروا عن توبتهم من خلال رؤسائهم الذين مثَّلوهم. (عز ١٠:٧-١٤؛ قارن ٢ اخ ٢٩:١، ١٠؛ ٣٠:١-١٥؛ ٣١:١، ٢.) ايضا، اعربت جماعة كورنثوس بأكملها عن التوبة لأنها تساهلت مع شخص يرتكب خطية خطيرة وسمحت بوجوده في الجماعة. (قارن ٢ كو ٧:٨-١١؛ ١ كو ٥:١-٥.) حتى النبيان ارميا ودانيال شملا انفسهما وهما يعترفان بخطية امة يهوذا التي ادت الى تدميرها. — مرا ٣:٤٠-٤٢؛ دا ٩:٤، ٥.
ما تتطلبه التوبة الحقيقية: تشمل التوبة العقل والقلب معا. فيجب ان يعترف المرء ان مسلكه او تصرفا ما قام به هو خاطئ، وهذا يتطلب منه ان يدرك ان مشيئة اللّٰه ومقاييسه هي صائبة. فعدم معرفة مشيئته ومقاييسه او نسيانها يشكِّلان عائقا في وجه التوبة. (٢ مل ٢٢:١٠، ١١، ١٨، ١٩؛ يون ١:١، ٢؛ ٤:١١؛ رو ١٠:٢، ٣) لهذا السبب ارسل يهوه انبياء ومبشرين ليدعوا الناس الى التوبة. (ار ٧:١٣؛ ٢٥:٤-٦؛ مر ١:١٤، ١٥؛ ٦:١٢؛ لو ٢٤:٢٧) واللّٰه «يقول ... للناس في كل مكان ان يتوبوا جميعا» من خلال البشارة التي تنشرها الجماعة المسيحية، وخصوصا منذ اهتداء كرنيليوس. (اع ١٧:٢٢، ٢٣، ٢٩-٣١؛ ١٣:٣٨، ٣٩) وكلام اللّٰه، سواء المكتوب او الشفهي، هو الوسيلة ‹لإقناعهم› ان طرق اللّٰه صائبة وطرقهم خاطئة. (قارن لو ١٦:٣٠، ٣١؛ ١ كو ١٤:٢٤، ٢٥؛ عب ٤:١٢، ١٣.) فشريعة اللّٰه «كاملة ترد النفس». — مز ١٩:٧.
يتحدث الملك داود عن ‹تعليم العصاة طرق اللّٰه كي يرجعوا اليه›. (مز ٥١:١٣) ولا شك انه كان يتكلم عن اخوته الاسرائيليين. كما نصح الرسول بولس تيموثاوس ان لا يشاجر اخوته المسيحيين في الجماعة، بل ان يرشد «بوداعة ذوي الميول المخالفة لعل اللّٰه يعطيهم توبة تؤدي الى معرفة الحق معرفة دقيقة، فيرجعوا من شرك ابليس». (٢ تي ٢:٢٣-٢٦) اذًا، يمكن ان يُدعى الى التوبة اشخاص داخل جماعة شعب اللّٰه وخارجها على السواء.
ايضا، يجب ان يدرك المرء انه اخطأ الى اللّٰه. (مز ٥١:٣، ٤؛ ار ٣:٢٥) ويصح ذلك في حالة التجديف الواضح او المباشر، اهانة اسم اللّٰه، او عبادة آلهة اخرى كما باستعمال الاصنام. (خر ٢٠:٢-٧) لكن حتى لو اعتبر الخاطئ ان «المسألة شخصية» او انها بينه وبين شخص آخر، يجب ان يعترف انه اخطأ الى اللّٰه، اي اظهر له قلة احترام. (قارن ٢ صم ١٢:٧-١٤؛ مز ٥١:٤؛ لو ١٥:٢١.) ايضا، حتى لو ارتكب المرء الاخطاء عن جهل او سهوا، يجب ان يدرك انه اذنب في حق صاحب السلطة المطلقة يهوه اللّٰه. — قارن لا ٥:١٧-١٩؛ مز ٥١:٥، ٦؛ ١١٩:٦٧؛ ١ تي ١:١٣-١٦.
كثيرا ما شمل عمل الانبياء اقناع امة اسرائيل بخطيتها (اش ٥٨:١، ٢؛ مي ٣:٨-١١)، سواء كانت هذه الخطية عبادة الاصنام (حز ١٤:٦)، عدم الانصاف، الظلم (ار ٣٤:١٤-١٦؛ اش ١:١٦، ١٧)، العهارة (ار ٥:٧-٩)، او عدم الثقة بيهوه اللّٰه والاتكال على البشر وقوة الامم العسكرية (١ صم ١٢:١٩-٢١؛ ار ٢:٣٥-٣٧؛ هو ١٢:٦؛ ١٤:١-٣). كما ان رسالة يوحنا المعمدان ورسالة يسوع المسيح كانتا دعوة الى اليهود ليتوبوا. (مت ٣:١، ٢، ٧، ٨؛ ٤:١٧) فهما فضحا حالة امة اسرائيل الخاطئة، حين كشفا القناع عن رياء الشعب والقادة الدينيين وادِّعائهم انهم بلا لوم وحفظهم التقاليد البشرية. — لو ٣:٧، ٨؛ مت ١٥:١-٩؛ ٢٣:١-٣٩؛ يو ٨:٣١-٤٧؛ ٩:٤٠، ٤١.
الفهم بالقلب: كي يتوب الشخص، يجب ان يمتلك قلبا متجاوبا ليسمع التأديب ويرى خطأه. (قارن اش ٦:٩، ١٠؛ مت ١٣:١٣-١٥؛ اع ٢٨:٢٦، ٢٧.) فلا يكفي ان يدرك ويفهم التائب بعقله ما تسمعه اذناه وتراه عيناه، بل الاهم ان ‹يفهم [‹يدرك›، يو ١٢:٤٠] بقلبه›. (مت ١٣:١٥؛ اع ٢٨:٢٧) بناء عليه، المطلوب هو الاعتراف القلبي بالخطإ، وليس الادراك الذهني له فقط. اما الذي لديه معرفة عن اللّٰه فالتوبة تشمل ان ‹يردِّد في قلبه› الامور التي يعرفها عنه وعن وصاياه، اي ان يذكِّر نفسه بها (تث ٤:٣٩؛ قارن ام ٢٤:٣٢؛ اش ٤٤:١٨-٢٠)، كي ‹يعود الى رشده›. (١ مل ٨:٤٧) فحين يمتلك الدافع القلبي الصائب، يمكنه ان ‹يغيِّر ذهنه، ليتبيَّن بالاختبار ما هي مشيئة اللّٰه الصالحة المقبولة الكاملة›. — رو ١٢:٢.
اذا كان قلب الخاطئ مفعما بالايمان والمحبة للّٰه، تكون توبته اصيلة، اي انه يحزن على المسلك الخاطئ. فإدراكه لصلاح اللّٰه وعظمته يجعله يشعر بندم شديد لأنه جلب التعيير على اسمه. (قارن اي ٤٢:١-٦.) كما ان المحبة للقريب تدفعه ان يأسف على الاذى الذي سبَّبه لغيره، المثال الرديء الذي رسمه، او ربما التشويه الذي ألحقه بسمعة شعب اللّٰه بين الناس. فيطلب الغفران لأنه يرغب في اكرام اسم اللّٰه وفعل الخير للقريب. (١ مل ٨:٣٣، ٣٤؛ مز ٢٥:٧-١١؛ ٥١:١١-١٥؛ دا ٩:١٨، ١٩) وهو ‹منكسر القلب›، ‹منسحق ومتَّضع الروح› (مز ٣٤:١٨؛ ٥١:١٧؛ اش ٥٧:١٥)، ‹مرتعد من كلمة اللّٰه› التي تتطلب التوبة (اش ٦٦:٢)، و ‹يأتي مرتعدا الى يهوه وإلى صلاحه›. (هو ٣:٥) مثلا، عندما تصرف داود بحماقة وأحصى الشعب، ‹ضربه قلبه›. — ٢ صم ٢٤:١٠.
اذًا، يجب ان ينبذ الشخص المسلك الخاطئ، يكرهه كرها شديدا، يشمئز منه. (مز ٩٧:١٠؛ ١٠١:٣؛ ١١٩:١٠٤؛ رو ١٢:٩؛ قارن عب ١:٩؛ يه ٢٣.) ‹فمخافة يهوه هي بغض الشر› الذي يشمل الغرور والكبرياء وطريق الشر والتكلم بأمور ملتوية. (ام ٨:١٣؛ ٤:٢٤) ويجب ان يترافق ذلك مع محبة الصواب والتصميم الراسخ على فعله من ذلك الوقت فصاعدا. فدون بغض الشر ومحبة الصواب، لن يكون هنالك دافع حقيقي الى التوبة ثم الاهتداء. على سبيل المثال، رغم ان الملك رحبعام تواضع نتيجة غضب يهوه، لكنه لاحقا «فعل الشر، لأنه لم يثبِّت قلبه لطلب يهوه». — ٢ اخ ١٢:١٢-١٤؛ قارن هو ٦:٤-٦.
الحزن بحسب مشيئة اللّٰه، لا حزن العالم: قال الرسول بولس لأهل كورنثوس في رسالته الثانية اليهم انهم اعربوا عن «الحزن الذي بحسب مشيئة اللّٰه» لأنه وبَّخهم في رسالته الاولى. (٢ كو ٧:٨-١٣) ومع انه «أسِف» (مِتامِلومِه) في بادئ الامر لأن كلمات رسالته كانت قاسية جدا وآلمتهم، لكنه لم يعد يشعر بأي اسف عندما رأى ان توبيخه انتج لهم حزنا بحسب مشيئة اللّٰه، مما ادى الى توبة صادقة (مِتانيّا) عن موقفهم ومسلكهم الخاطئَين. فقد عرف ان الالم الذي سبَّبه لهم هو لخيرهم ولن يجلب لهم اي «ضرر». والحزن الذي يؤدي الى التوبة لم يكن شيئا يأسفون عليه، لأنه ابقاهم على طريق الخلاص، اذ خلصهم من الارتداد وأعطاهم رجاء الحياة الابدية. ويقارن بولس بين هذا الحزن و «حزن العالم [الذي] ينتج موتا». فحزن العالم لا ينبع من الايمان والمحبة للّٰه وللصواب. بل ينتج من الفشل، خيبة الامل، الخسارة، العقاب على الخطإ، والذل. (قارن ام ٥:٣-١٤، ٢٢، ٢٣؛ ٢٥:٨-١٠.) وغالبا ما يرافقه او ينتج عنه المرارة والحقد والحسد، ولا يؤدي الى المنفعة او التحسن، ولا يمنح اي امل حقيقي. (قارن ام ١:٢٤-٣٢؛ ١ تس ٤:١٣، ١٤.) وحزن كهذا يكون بسبب عواقب الخطية وليس بسبب الخطية بحد ذاتها والتعيير الذي تجلبه على اسم اللّٰه. — اش ٦٥:١٣-١٥؛ ار ٦:١٣-١٥، ٢٢-٢٦؛ رؤ ١٨:٩-١١، ١٥، ١٧-١٩؛ لاحظ الفرق في حز ٩:٤.
وهذا ما توضحه قصة قايين، اول شخص دعاه اللّٰه ان يتوب. فقد قال له ان ‹يُحسِن› التصرف لئلا تتغلب عليه الخطية. ولكن بدل ان يتوب قايين ويستأصل كرهه الشديد، تركه ينمو بحيث دفعه الى قتل اخيه. وعندما سأله اللّٰه عن اخيه، راوغ في جوابه. ولم يعبِّر عن اي اسف إلا بعد ان اعلن يهوه الحكم عليه. وطبعا، كان اسفه بسبب شدة العقاب، وليس بسبب الخطية التي ارتكبها. (تك ٤:٥-١٤) وهكذا، اظهر انه «من الشرير». — ١ يو ٣:١٢.
عيسو ايضا اعرب عن حزن العالم حين علم ان اخاه يعقوب نال بركة الابن البكر (حقه الذي استخف به وباعه ليعقوب). (تك ٢٥:٢٩-٣٤) فقد «صرخ صراخا عظيما ومرًّا للغاية» وبدموع، طالبا «تغيير فكر» (مِتانيّا، اي التوبة) ابيه، وليس تغيير فكره هو. (تك ٢٧:٣٤؛ عب ١٢:١٧، بين) فقد تأسَّف على خسارته، وليس على نظرته المادية التي جعلته ‹يحتقر البكورية›. — تك ٢٥:٣٤.
كذلك، «ندم [صيغة من مِتامِلومِه]» يهوذا بعدما سلَّم يسوع، حاول ان يردّ الرشوة التي اخذها بالمقابل، ثم انتحر بشنق نفسه. (مت ٢٧:٣-٥) فلا شك ان فظاعة جريمته، وعلى الارجح فزعه الشديد من دينونة اللّٰه الاكيدة عليه، كانا يفوقان قدرته على الاحتمال. (قارن عب ١٠:٢٦، ٢٧، ٣١؛ يع ٢:١٩.) وصحيح انه شعر بالذنب والكآبة واليأس، لكن ما من دليل انه احس بالحزن بحسب مشيئة اللّٰه، الحزن الذي يؤدي الى التوبة (مِتانيّا). وهو لم يلجأ الى اللّٰه ليعترف بخطيته، بل الى القادة اليهود. وقد رد لهم المال ظنًّا منه ان ذلك سيمحو الى حد ما جريمته. (قارن يع ٥:٣، ٤؛ حز ٧:١٩.) لكنه بعد ذلك انتحر، فارتكب جريمة اخرى اضافة الى الخيانة والمساهمة في قتل شخص بريء. بالتباين، حين بكى بطرس بمرارة بعدما انكر ربّه، كان تائبا توبة صادقة ادَّت الى استرجاعه رضى يهوه. — مت ٢٦:٧٥؛ قارن لو ٢٢:٣١، ٣٢.
اذًا، ان الاسف والندم والدموع ليست الدليل الدامغ على التوبة الاصيلة، بل الدافع القلبي. مثلا، اعلن يهوه ادانته للاسرائيليين بواسطة هوشع لأنهم خلال محنتهم «لم يستغيثوا [به] بقلوبهم، مع انهم ولولوا في اسرَّتهم. تسكعوا طالبين القمح والمسطار ... رجعوا، ولكن ليس الى العلاء». فأنينهم وصرخات استغاثتهم وقت الشدة كانت بدافع اناني. وعندما اراحهم اللّٰه، لم يستغلُّوا الفرصة ليحسِّنوا علاقتهم به بالالتزام بمقاييسه السامية. (قارن اش ٥٥:٨-١١.) بل كانوا «كقوس رخوة» لا تصيب الهدف ابدا. (هو ٧:١٤-١٦؛ قارن مز ٧٨:٥٧؛ يع ٤:٣.) فصحيح ان اللّٰه كان يقبل الصوم والبكاء والندب، ولكن شرط ان ‹يمزق التائبون قلوبهم لا ثيابهم› فقط. — يوء ٢:١٢، ١٣؛ انظر «الصوم»؛ «النوح».
الاعتراف بالخطية: ان الشخص التائب يتواضع ويطلب وجه يهوه (٢ اخ ٧:١٣، ١٤؛ ٣٣:١٠-١٣؛ يع ٤:٦-١٠)، متضرعا اليه كي يغفر له خطيته. (مت ٦:١٢) وهو ليس كالفريسي في مثل يسوع الذي اعتبر نفسه مستقيما، بل مثل جامع الضرائب الذي صار يضرب على صدره ويقول: «اللهم، تحنن علي انا الخاطئ». (لو ١٨:٩-١٤) ويقول الرسول يوحنا: «إن قلنا: ‹ليس لنا خطية›، فإننا نضل انفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا، فهو امين وبار حتى يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كل اثم». (١ يو ١:٨، ٩) كما نقرأ: «مَن يخفي معاصيه لن ينجح، ومَن يعترف بها ويتركها يُرحم». — ام ٢٨:١٣؛ قارن مز ٣٢:٣-٥؛ يش ٧:١٩-٢٦؛ ١ تي ٥:٢٤.
وصلاة دانيال في دانيال ٩:١٥-١٩ هي مثال للاعتراف الصادق بالخطية. فهي تُظهر ان ما يهمه هو اسم يهوه وأنه لا يلتمس غفرانه ‹لأجل اعمال [الاسرائيليين] البارة، بل على حسب مراحم [اللّٰه] الكثيرة›. والمثال الآخر هو صلاة الابن الضال المتواضعة. (لو ١٥:١٧-٢١) فالذين توبتهم صادقة ‹يرفعون قلوبهم مع ايديهم الى اللّٰه›، معترفين بخطيتهم وطالبين الغفران. — مرا ٣:٤٠-٤٢.
الاعتراف بالخطايا بعضنا لبعض: يقول التلميذ يعقوب: «اعترفوا جهرا بخطاياكم بعضكم لبعض وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفَوا». (يع ٥:١٦) لكنَّ اعترافا كهذا ليس لأن اي شخص هو «معِين [«شفيع»، يج]» للانسان عند اللّٰه. فالمسيح وحده يلعب هذا الدور لأنه هو مَن بذل نفسه ذبيحة مصالحة تكفِّر عن خطايانا. (١ يو ٢:١، ٢) فالبشر لا يمكنهم ان يكفِّروا عن خطيتهم او خطية غيرهم، اي ان يصلحوا الخطأ الذي ارتُكب ضد اللّٰه. (مز ٤٩:٧، ٨) لكنَّ المسيحيين يقدرون ان يساعدوا واحدهم الآخر. فبإمكانهم ان يصلُّوا الى اللّٰه كي يعين ويقوي اخاهم الخاطئ الذي يطلب المساعدة. واللّٰه يأخذ في الاعتبار صلوات كهذه، رغم انها لا تؤثر على تنفيذه العدل (لأن فدية المسيح وحدها تقدر ان تغفر الخطايا). — انظر «الصلاة» (استجابة الصلوات).
الاهتداء: تدل التوبة ان الشخص قرر ان يتوقف عن مسلك خاطئ، رفضه، وصمم ان يتبع مسلكا صائبا. وبالتالي، اذا كانت التوبة صادقة، يتبعها «اهتداء». (اع ١٥:٣) ان الافعال العبرانية واليونانية المرتبطة بالاهتداء (بالعبرانية شوب؛ باليونانية سترِفو؛ إِپيسترِفو) تعني حرفيا «عاد، رجع، التفت، رد». (تك ١٨:١٠؛ ام ١٥:١؛ ار ١٨:٤؛ يو ١٢:٤٠؛ ٢١:٢٠؛ اع ١٥:٣٦) اما حين تُستعمل بمعنى روحي فتعني إما الابتعاد عن اللّٰه (وبالتالي الرجوع الى مسلك خاطئ [عد ١٤:٤٣؛ تث ٣٠:١٧]) او ترك المسلك الخاطئ والرجوع الى اللّٰه. — ١ مل ٨:٣٣.
والاهتداء لا يقتصر على الموقف او الكلام فقط، بل يشمل ايضا ‹اعمالا تليق بالتوبة›. (اع ٢٦:٢٠؛ مت ٣:٨) فهو يعني ان ‹يطلب› الشخص يهوه، ‹يبحث› عنه، ‹يلتمسه› بكل قلبه ونفسه. (تث ٤:٢٩؛ ١ مل ٨:٤٨؛ ار ٢٩:١٢-١٤) وهذا يتطلب حتما ان يسعى لنيل رضى اللّٰه. فيجب ان ‹يسمع لصوته› من خلال قراءة كلمته (تث ٤:٣٠؛ ٣٠:٢، ٨)، ‹يكون على بصيرة من حقه› من خلال تنمية فهم وتقدير اعمق لطرقه ومشيئته (دا ٩:١٣)، يحفظ وصاياه و ‹يعمل بها› (نح ١:٩؛ تث ٣٠:١٠؛ ٢ مل ٢٣:٢٤، ٢٥)، ‹يحفظ اللطف الحبي ويرجو اللّٰه دائما› (هو ١٢:٦)، يترك عبادة الاصنام وتأليه المخلوقات و ‹يخدم يهوه وحده› (١ صم ٧:٣؛ اع ١٤:١١-١٥؛ ١ تس ١:٩، ١٠)، ويسلك في طرق يهوه لا طرق الامم (لا ٢٠:٢٣) او طريقه الخاص (اش ٥٥:٦-٨). كما ان الصلوات، الذبائح، الصوم، والاحتفال بالاعياد هي بلا نفع وبلا قيمة في نظر اللّٰه ما لم يرافقها فعل الخير، اجراء العدل، تجنب الظلم والعنف، وإظهار الرحمة. — اش ١:١٠-١٩؛ ٥٨:٣-٧؛ ار ١٨:١١.
والاهتداء يستلزم «قلبا جديدا وروحا جديدة» (حز ١٨:٣١)، اي تغييرا في الفكر والدوافع والاهداف في الحياة. وهذه بدورها تنتج عقلية وموقفا وقوة اخلاقية جديدة. والذي تتغير طريقة حياته يمتلك ‹شخصية جديدة خُلقت بحسب مشيئة اللّٰه في البر والولاء الحقيقيَّين› (اف ٤:١٧-٢٤)، شخصية تجعله يمتنع عن العهارة والطمع والعنف في الكلام والتصرف. (كو ٣:٥-١٠؛ لاحظ الفرق في هو ٥:٤-٦.) فيسكب اللّٰه عليه فيضا من روح الحكمة ويعرِّفه كلامه. — ام ١:٢٣؛ قارن ٢ تي ٢:٢٥.
وهكذا نرى ان التوبة الاصيلة لها تأثير كبير، تعطي قوة، وتدفع الشخص ان ‹يرجع›. (اع ٣:١٩) لذا قال يسوع للمسيحيين في لاودكية: «كن غيورا وتب». (رؤ ٣:١٩؛ قارن رؤ ٢:٥؛ ٣:٢، ٣.) فالتوبة بصدق تنتج في المرء ‹الاجتهاد، تبرئة النفس، خوف اللّٰه، الشوق، وتصويب الخطإ›. (٢ كو ٧:١٠، ١١) أما مَن لا يهمه تصحيح الخطإ الذي ارتكبه فتوبته ليست حقيقية. — قارن حز ٣٣:١٤، ١٥؛ لو ١٩:٨.
ان العبارة «حديث الاهتداء» المترجمة من اليونانية (نِيوفيتوس) تعني حرفيا «مزروعا حديثا». (١ تي ٣:٦) ورجل كهذا لا يجب تعيينه ناظرا في الجماعة «لئلا ينتفخ بالكبرياء فيسقط في الدينونة التي صدرت على ابليس».
ما هي «الاعمال الميتة» التي يجب ان يتوب منها المسيحي؟
تُظهِر العبرانيين ٦:١، ٢ ان «التعليم الاولي» يشمل «التوبة من الاعمال الميتة، والايمان باللّٰه» يليهما ‹تعليم المعموديات، وضع الايدي، القيامة، والدينونة الابدية›. وعبارة «الاعمال الميتة» (التي لا ترد في مكان آخر إلا في عب ٩:١٤) تشير كما يظهر الى كل الاعمال الميتة روحيا التي هي بلا قيمة او نفع، وليس فقط الى اعمال الجسد الخاطئة التي تؤدي الى الموت. — رو ٨:٦؛ غل ٦:٨.
وهي تشمل الاعمال التي يقوم بها الشخص بهدف ان يُثبت انه مستقيم وبلا لوم دون الحاجة الى المسيح يسوع وذبيحته الفدائية. لذا، كان تقيُّد القادة الدينيين اليهود وغيرهم بالشريعة بين «الاعمال الميتة» لأنه مجرد شكليات ويفتقر الى عامل مهم: الايمان. (رو ٩:٣٠-٣٣؛ ١٠:٢-٤) وهذا جعلهم يتعثرون بسبب المسيح يسوع، ‹وكيل اللّٰه الرئيسي الذي يعطي اسرائيل التوبة وغفران الخطايا›، بدل ان يتوبوا. (اع ٥:٣١-٣٣؛ ١٠:٤٣؛ ٢٠:٢١) ايضا، بعدما تمَّم يسوع الشريعة صار حفظها، كما لو انها لا تزال سارية المفعول، ‹اعمالا ميتة›. (غل ٢:١٦) بشكل مشابه، كل الاعمال، حتى النافعة منها، هي ‹اعمال ميتة› اذا لم تكن بدافع المحبة للّٰه والقريب. (١ كو ١٣:١-٣) والمحبة بدورها يجب ان تكون «بالعمل والحق»، اي منسجمة مع مشيئة اللّٰه وطرقه التي اظهرها لنا في كلمته. (١ يو ٣:١٨؛ ٥:٢، ٣؛ مت ٧:٢١-٢٣؛ ١٥:٦-٩؛ عب ٤:١٢) فالذي يرجع بإيمان الى اللّٰه من خلال يسوع المسيح يتوب عن كل ما يُعتبَر ‹اعمالا ميتة› ويسعى منذ ذلك الوقت ان يتجنبها. وهكذا يصير ضميره طاهرا. — عب ٩:١٤.
كانت المعمودية (التغطيس في الماء)، ما عدا معمودية يسوع، اجراء طلبه اللّٰه يرمز الى التوبة، سواء في حالة افراد من الامة اليهودية (التي لم تحفظ عهد اللّٰه حين كان ساري المفعول) او في حالة اشخاص من الامم ‹رجعوا› ليقدِّموا خدمة مقدسة للّٰه. — مت ٣:١١؛ اع ٢:٣٨؛ ١٠:٤٥-٤٨؛ ١٣:٢٣، ٢٤؛ ١٩:٤؛ انظر «المعمودية».
غير التائبين: ادَّى عدم التوبة الاصيلة الى اسر اسرائيل ويهوذا، دمار اورشليم مرتَين، وأخيرا رفض اللّٰه التام للامة. فعندما وبَّخهم اللّٰه، لم يرجعوا اليه، بل ظلوا يعودون «الى المسلك الذي درج عليه الناس، كفرس مندفع الى المعركة». (ار ٨:٤-٦؛ ٢ مل ١٧:١٢-٢٣؛ ٢ اخ ٣٦:١١-٢١؛ لو ١٩:٤١-٤٤؛ مت ٢١:٣٣-٤٣؛ ٢٣:٣٧، ٣٨) ولأنهم لم يريدوا في قلوبهم ان يتوبوا و «يرجعوا»، لم يُعطِهم ما سمعوه ورأوه اي فهم او معرفة، كما لو ان «برقعا» وُضع على قلوبهم. (اش ٦:٩، ١٠؛ ٢ كو ٣:١٢-١٨؛ ٤:٣، ٤) وساهم في هذا الوضع القادة الدينيون غير الامناء والانبياء والنبيات الكذبة، اذ «شدَّدوا ايدي فاعلي السوء» بتشجيعهم على فعل الخطإ. (ار ٢٣:١٤؛ حز ١٣:١٧، ٢٢، ٢٣؛ مت ٢٣:١٣، ١٥) وقد انبأت الاسفار اليونانية المسيحية ان اللّٰه سيوبِّخ الناس ويدعوهم الى التوبة، لكنَّ كثيرين سيرفضون دعوته تماما مثل الاسرائيليين. وذكرت ايضا ان ما سيعانونه سيقسِّيهم ويجعلهم مستائين الى حد انهم سيجدِّفون على اللّٰه، رغم ان رفضهم لطرقه المستقيمة هو سبب وأصل مشاكلهم وضرباتهم. (رؤ ٩:٢٠، ٢١؛ ١٦:٩، ١١) وهؤلاء ‹يدَّخرون لأنفسهم سخطا في يوم السخط والكشف عن دينونة اللّٰه›. — رو ٢:٥.
يستحيل ان يتوبوا: ان الذين ‹يمارسون الخطية عمدا› بعدما نالوا معرفة الحق الدقيقة يستحيل ان يتوبوا، لأنهم رفضوا الهدف الذي من اجله مات ابن اللّٰه، وبذلك صاروا مثلهم مثل الذين حكموا عليه بالموت. فكما لو انهم «يعلِّقون ابن اللّٰه ثانية على الخشبة ويعرِّضونه للخزي». (عب ٦:٤-٨؛ ١٠:٢٦-٢٩) وهذه خطية لا تُغتفَر. (مر ٣:٢٨، ٢٩) فأمثال هؤلاء «كان افضل لهم لو لم يعرفوا سبيل البر من ان يعرفوه ثم يُعرِضوا عن الوصية المقدسة المسلَّمة اليهم». — ٢ بط ٢:٢٠-٢٢.
بما ان آدم وحواء كانا كاملَين، وبما ان وصية اللّٰه كانت واضحة ومفهومة لهما كليهما، فمن الواضح ان خطيتهما كانت عمدية ولا يمكن تبريرها على انها ناتجة عن الضعف او النقص البشري. لذلك لم يدعُهما اللّٰه الى التوبة حين تكلم معهما بعدما اخطآ. (تك ٣:١٦-٢٤) وينطبق هذا الامر على المخلوق الروحاني الذي حرَّضهما على التمرد. فنهايته ونهاية الملائكة الآخرين الذين انضموا اليه هي الهلاك الابدي. (تك ٣:١٤، ١٥؛ مت ٢٥:٤١) ويصح ذلك ايضا في يهوذا مع انه ليس كاملا. فقد دعاه يسوع «ابن الهلاك» لأنه خانه رغم العلاقة الوثيقة التي جمعت بينهما. (يو ١٧:١٢) كما ان «انسان التعدي على الشريعة» المرتد يُدعى «ابن الهلاك». (٢ تس ٢:٣؛ انظر «الارتداد»؛ «انسان التعدي على الشريعة»؛ «ضد المسيح».) بشكل مماثل، كل الذين يُصنَّفون انهم «جداء» عندما يدين الملك يسوع البشر لا يُدعَون الى التوبة و ‹يذهبون الى قطع ابدي›. — مت ٢٥:٣٣، ٤١-٤٦.
القيامة تعطي فرصة اخرى: بالتباين، تحدَّث يسوع عن يوم حساب في المستقبل يشمل بعض المدن اليهودية في القرن الاول. (مت ١٠:١٤، ١٥؛ ١١:٢٠-٢٤) وهذا يعني ان بعض الاشخاص على الاقل من هذه المدن سيُقامون، وسينالون فرصة اخرى ليتواضعوا ويُظهِروا التوبة و «يرجعوا» بالاهتداء الى اللّٰه بواسطة المسيح، رغم ان موقفهم السابق يصعِّب عليهم ان يتوبوا. والذين لا يتوبون سيهلكون هلاكا ابديا. (قارن رؤ ٢٠:١١-١٥؛ انظر «يوم الدينونة».) اما مَن يتصرف مثل كثيرين من الكتبة والفريسيين الذين قاوموا عمدا عمل روح اللّٰه من خلال المسيح، فلن ‹يهرب من دينونة الهلاك في وادي هنوم›، اي انهم لن يُقاموا. — مت ٢٣:١٣، ٣٣؛ مر ٣:٢٢-٣٠.
فاعل السوء المعلَّق على خشبة: وعد يسوع فاعل السوء المعلَّق على خشبة بجانبه ان يكون في الفردوس لأنه اظهر مقدارا من الايمان به. (لو ٢٣:٣٩-٤٣؛ انظر «الفردوس».) والبعض يحمِّلون هذا الوعد معنى لا يتضمنه. فهم يفسِّرونه على انه ضمانة لفاعل السوء انه سينال حياة ابدية. لكنَّ الآيات الكثيرة التي ناقشناها آنفا تتعارض مع هذا التفسير. فرغم ان هذا المجرم اعترف انه مذنب وأن يسوع بريء (لو ٢٣:٤١)، ما من دليل انه صار ‹يبغض الشر ويحب البر›. فلأنه كان على وشك ان يموت، لم يكن لديه مجال ‹ليرجع› ويقوم «بأعمال تليق بالتوبة» ويعتمد. (اع ٣:١٩؛ ٢٦:٢٠) بناء على ذلك، يبدو ان فاعل السوء سيُعطى الفرصة كي يبرهن ان توبته اصيلة عندما يُقام من الموت. — قارن رؤ ٢٠:١٢، ١٣.
هل يشعر اللّٰه بالندم؟
في معظم الحالات التي تُستعمل فيها الكلمة العبرانية ناحام بمعنى «ندم، تأسف» تكون الاشارة الى يهوه اللّٰه. فهي ترد مثلا في التكوين ٦:٦، ٧ التي تقول: «تأسف يهوه انه صنع البشر في الارض، وحزن في قلبه». فقد صاروا اشرارا كثيرا حتى ان اللّٰه قرَّر ان يمحوهم عن وجه الارض بالطوفان. فهل تعني هذه الآية ان اللّٰه ندم على خلق البشر؟ هذا مستحيل. فهو لم يرتكب خطأ في الخلق، لأن كل ما يصنعه «كامل». (تث ٣٢:٤، ٥) اذًا، لا بد ان هذه الكلمة تُستعمل هنا بمعنى ان اللّٰه ما عاد يشعر بالفرح والانجاز بعدما خلق البشر. فقد صاروا اشرارا جدا لدرجة انه صار مضطرا (وهو مبرَّر في فعله هذا) ان يهلكهم جميعا بالطوفان، ما عدا نوحا وعائلته. فاللّٰه ‹لا يُسَر بموت الشرير›. — حز ٣٣:١١.
تذكر دائرة معارف مكلنتوك وسترونغ انه عندما يُستعمل الفعل ناحام (الذي يترجم الى تاب، ندم، تأسف) بالاشارة الى اللّٰه، يعني ذلك «انه يغيِّر تصرفاته مع مخلوقاته، إما ليهبهم الخيرات او ليُنزل بهم الويلات. وهذا التغيير من جهته ينتج عن تغيير من جهة مخلوقاته. اذًا، تُطبَّق على اللّٰه كلمة يستعملها البشر». (١٨٩٤، المجلد ٨، ص ١٠٤٢ [بالانكليزية]) فمقاييس اللّٰه المستقيمة تبقى ثابتة كما هي ولا تتغير او تتبدل. (مل ٣:٦؛ يع ١:١٧) وما من ظرف يجعله يغيِّر رأيه بشأنها او يتخلى عنها. بالمقابل، قد تكون مواقف مخلوقاته العاقلة وردَّات فعلهم تجاه هذه المقاييس الكاملة وكيفية تطبيق اللّٰه لها إما ايجابية او سلبية. فإذا كانت ايجابية يُسر اللّٰه؛ اما اذا كانت سلبية فإنه يندم او يتأسف. كما ان موقف مخلوقاته قد يتغير من الايجابي الى السلبي والعكس صحيح. وبما ان اللّٰه لا يغيِّر مبادئه لتلائمهم، ينقلب رضاه (وبركاته) الى ندم او اسف (يرافقه تأديب او عقاب) او العكس بالعكس. اذًا، ليست قرارات اللّٰه وأحكامه متقلِّبة لا يمكن الوثوق بها او التنبؤ بها او عرضة للخطإ، ولا هو إله غريب الاطوار لا يثبت على رأي. — حز ١٨:٢١-٣٠؛ ٣٣:٧-٢٠.
اذا بدأ الخزاف بصنع اناء لكنه ‹فسد في يده›، يصنع اناء مختلفا. (ار ١٨:٣، ٤) ويهوه هو مثل هذا الخزاف. لكنَّ هذا التشبيه لا يعني ان يهوه ‹يُفسد الآنية التي في يده› كالخزاف البشري. فالمقصود منه ان لديه سلطة على البشر تخوِّله ان يغيِّر تعاملاته معهم حسب تجاوبهم مع عدله ورحمته. (قارن اش ٤٥:٩؛ رو ٩:١٩-٢١.) فهو ‹يتأسف على البلية التي فكَّر ان ينزلها› بأمة معيَّنة، او ‹يتأسف على الخير الذي قال في نفسه انه احسن به اليها›. وكل ذلك يعتمد على ردة فعل الامة تجاه تعاملاته السابقة معها. (ار ١٨:٥-١٠) اذًا، ليس الخزاف العظيم يهوه هو من يخطئ، بل ‹الطين› هو الذي يتغير جذريا في الشكل او التكوين. فالبشر هم الذين تتغير حالة قلبهم، مما ينتج ندما او اسفا من جهة يهوه، اي تغيُّرا في مشاعره.
وهذا لا ينطبق على الامم فقط، بل على الافراد ايضا. وعندما يقول يهوه اللّٰه انه ‹يتأسف› على احد خدامه، مثل الملك شاول الذي لم يعد يفعل الصواب، فهذا بحد ذاته دليل ان مستقبله ليس مقدَّرا مسبقا. (انظر «المعرفة المسبقة، التعيين المسبق».) وتأسُّف اللّٰه على انحراف شاول لا يعني انه اخطأ عندما اختاره ملكا وندم على اختياره. فهو تأسف لأن شاول لم يستعمل حرية ارادته ليستفيد من الامتياز والفرصة الرائعَين اللذين اعطاهما له. وتأسف ايضا لأن تغيُّر شاول ادى الى تغيُّر في تعاملات اللّٰه معه. — ١ صم ١٥:١٠، ١١، ٢٦.
قال النبي صموئيل وهو ينقل لشاول حكم يهوه عليه: «جلال اسرائيل لا يكذب ولا يندم، لأنه ليس انسانا فيندم». (١ صم ١٥:٢٨، ٢٩) فالبشر في احيان كثيرة لا يحفظون كلمتهم، او لا يوفون وعودهم، او لا يلتزمون بشروط اتفاقاتهم. فلأنهم ناقصون، يخطئون في حكمهم، ما يجعلهم يندمون لاحقا. لكنَّ هذا لا يصح في اللّٰه. — مز ١٣٢:١١؛ اش ٤٥:٢٣، ٢٤؛ ٥٥:١٠، ١١.
مثلا، صنع اللّٰه عهدا مع «كل نفس حية» يضمن انه لن يجلب ابدا مرة اخرى طوفان مياه على كل الارض. (تك ٩:٨-١٧) لذا لا يمكن اطلاقا ان يغيِّر رأيه بخصوص هذا العهد او يندم عليه. بشكل مشابه، حين صنع عهدا مع ابراهيم، «توسط بقسم» اي «ضمانة قانونية». وذلك كي «يبيِّن اكثر لورثة الوعد عدم تغيُّر مشورته». فوعده وقسمه هما ‹امران عديما التغيُّر يستحيل ان يكذب فيهما›. (عب ٦:١٣-١٨) كما انه «لن يندم» على عهده المؤكَّد بقسم الذي حلف فيه لابنه انه سيكون كاهنا مثل ملكي صادق. — عب ٧:٢٠، ٢١؛ مز ١١٠:٤؛ قارن رو ١١:٢٩.
لكنَّ اللّٰه قد يضع مطالب، او شروطا يجب ان يبلغها الذين يصنع معهم العهد. على سبيل المثال، وعد امة اسرائيل انهم سيكونون «ملكا خاصا» له و «مملكة كهنة وأمة مقدسة» اذا اطاعوه في كل شيء والتزموا بعهده. (خر ١٩:٥، ٦) وقد التزم اللّٰه بالعهد، لكنَّ الاسرائيليين نقضوه مرة بعد اخرى. (مل ٣:٦، ٧؛ قارن نح ٩:١٦-١٩، ٢٦-٣١.) لذلك كانوا هم المسؤولين عن عدم اتمام اللّٰه وعده، وكان اللّٰه مبررا تماما عندما فسخ العهد معهم في النهاية. — مت ٢١:٤٣؛ عب ٨:٧-٩.
بصورة مماثلة، ‹يتأسف› اللّٰه و «يرجع» عن انزال العقاب بالخطاة عندما تُنتج تحذيراته تغييرا في موقفهم وتصرفاتهم. (تث ١٣:١٧؛ مز ٩٠:١٣) فهم يرجعون اليه وهو ‹يرجع› اليهم. (زك ٨:٣؛ مل ٣:٧) فيشعر بالفرح ولا يعود يحزن، لأنه لا يُسرُّ بموت الخطاة. (لو ١٥:١٠؛ حز ١٨:٣٢) وفي حين ان اللّٰه لا يغيِّر مقاييسه المستقيمة، يساعد الناس كي يرجعوا اليه، اذ يشجعهم ويدعوهم بلطف ان يرجعوا. فهو ‹يبسط يدَيه اليهم› قائلا بواسطة ممثليه: «ارجعوا، رجاء، ... لئلا ابتليكم»، «لا تفعلوا مثل هذه المكرهة التي ابغضها». (اش ٦٥:١، ٢؛ ار ٢٥:٥، ٦؛ ٤٤:٤، ٥) ويعطيهم وقتا كافيا ليتغيَّروا (نح ٩:٣٠؛ قارن رؤ ٢:٢٠-٢٣)، مظهرا الصبر والتسامح، «لأنه لا يرغب ان يهلك احد، بل ان يبلغ الجميع الى التوبة». (٢ بط ٣:٨، ٩؛ رو ٢:٤، ٥) حتى انه كان يمكِّن مرسَليه من صنع العجائب كي يُثبت انه هو مَن ارسلهم ويقوي ايمان الذين يسمعونهم. (اع ٩:٣٢-٣٥) ولكن عندما لم تلقَ رسالته اذنا صاغية، كان يؤدب غير التائبين. فيحرمهم رضاه وحمايته، ما يؤدي الى معاناتهم الفقر والجوع والظلم على يد اعدائهم. وهذا التأديب قد يعيدهم الى صوابهم، او يدفعهم ان يخافوا اللّٰه خوفا سليما، او يجعلهم يدركون كم تصرفاتهم غبية وقيمهم خاطئة. — ٢ اخ ٣٣:١٠-١٣؛ نح ٩:٢٨، ٢٩؛ عا ٤:٦-١١.
لكن لصبر اللّٰه حدود. فعندما ينفد صبره، ‹يملُّ التأسف› ولا يعود يتراجع عن قراره بإنزال العقاب بالخطاة. (ار ١٥:٦، ٧؛ ٢٣:١٩، ٢٠؛ لا ٢٦:١٤-٣٣) وآنذاك يكون قد تخطى مرحلة ‹التفكير› في جلب البلية عليهم (ار ١٨:١١؛ ٢٦:٣-٦)، ويكون حكمه قد صار نهائيا. — ٢ مل ٢٣:٢٤-٢٧؛ اش ٤٣:١٣؛ ار ٤:٢٨؛ صف ٣:٨؛ رؤ ١١:١٧، ١٨.
ان استعداد اللّٰه ليغفر للتائبين، وأيضا ليرحمهم حتى لو اخطأوا تكرارا، يرسم المثال لكل خدامه. — مت ١٨:٢١، ٢٢؛ مر ٣:٢٨؛ لو ١٧:٣، ٤؛ ١ يو ١:٩؛ انظر «الغفران».