أُورُشَلِيم
[امتلاك (اساس) سلام مضاعف]:
عاصمة امة اسرائيل القديمة ابتداء من سنة ١٠٧٠ قم فصاعدا. وبعد انقسام الامة الى مملكتين (٩٩٧ قم) صارت اورشليم عاصمة مملكة يهوذا الجنوبية. وتتضمن الاسفار المقدسة اكثر من ٨٠٠ اشارة الى اورشليم.
اسمها: ان اقدم اسم مذكور في السجل لهذه المدينة هو «شليم». (تك ١٤:١٨) وفي حين يحاول البعض ان يربطوا معنى الاسم اورشليم بذاك الذي لإله سامي غربي يُدعى شاليم، يظهر الرسول بولس ان «السلام» هو المعنى الصحيح للجزء الثاني من الاسم. (عب ٧:٢) كما ان التهجية العبرانية لهذا الجزء الاخير من الاسم توحي بأنه في صيغة المثنى، وتعني «سلام مضاعف». وفي النصوص الاكادية (الاشورية-البابلية) دُعيت المدينة أوروساليم (أورساليمّو). وعلى هذا الاساس يقول بعض العلماء ان معنى الاسم هو «مدينة السلام». لكن الصيغة العبرانية، التي يجب منطقيا ان يكون لها القول الفصل، يبدو انها تعني «امتلاك (اساس) سلام مزدوج».
استُعملت في الاسفار المقدسة تعابير وألقاب عديدة للاشارة الى اورشليم. فقد استعمل صاحب المزمور في احدى المناسبات الاسم القديم «شليم». (مز ٧٦:٢) وثمة تسميات اخرى مثل: «مدينة يهوه» (اش ٦٠:١٤)، و «مدينة الملك العظيم» (مز ٤٨:٢؛ مت ٥:٣٥)، و «مدينة البر» و «المدينة الامينة» (اش ١:٢٦)، و «صهيون» (اش ٣٣:٢٠)، وأيضا «المدينة المقدسة» (نح ١١:١؛ اش ٤٨:٢؛ ٥٢:١؛ مت ٤:٥). والاسم «القدس» الذي يعني «[المدينة] المقدسة» لا يزال الاسم الشائع لهذه المدينة في العربية. اما الاسم الذي يرد في الخرائط العصرية لإسرائيل اليوم فهو يروشالايم.
موقعها: تقع اورشليم على طرف برية قاحلة (برية يهوذا)، مما يجعل موارد المياه فيها محدودة. وهي بعيدة نسبيا عن الطرقات الدولية الرئيسية، غير ان هنالك طريقين تجاريين داخليين يتقاطعان بالقرب منها. يمتد احدهما باتجاه شمالي-جنوبي على طول اعالي التلال التي تشكل «العمود الفقري» لفلسطين القديمة، مشكلا حلقة وصل بين مدن دوثان وشكيم وبيت ايل وبيت لحم وحبرون وبئر سبع. اما الطريق الآخر فيمتد من رَبّة (عمّان العصرية) باتجاه شرقي-غربي، مخترقا الاودية حتى يصل الى حوض نهر الاردن، وبعد ان يصعد منحدرات يهوذا الشديدة يتجه نزولا عبر المنحدرات الغربية الى ساحل البحر المتوسط وينتهي الى ميناء يافا. كما ان موقع اورشليم في وسط ارض الموعد جعلها ملائمة لتكون مقرا للحكم.
تقع اورشليم بين تلال السلسلة الوسطى على بعد نحو ٥٥ كلم (٣٤ ميلا) عن البحر الابيض المتوسط، ونحو ٢٥ كلم (١٦ ميلا) عن غرب الطرف الشمالي للبحر الميت. (قارن مز ١٢٥:٢.) وارتفاعها نحو ٧٥٠ م (٥٠٠,٢ قدم) عن سطح البحر جعلها احدى اعلى عواصم العالم في ذلك الوقت. والاسفار المقدسة تذكر ‹شموخها› وتقول ايضا ان المسافرين وجب ان ‹يصعدوا› من السهول الساحلية حتى يصلوا اليها. (مز ٤٨:٢؛ ١٢٢:٣، ٤) كما انها تنعم بمناخ لطيف، فالليالي معتدلة البرودة، ومتوسط درجة الحرارة السنوي هو ١٧° م (٦٣° ف)، اما معدل سقوط الامطار في السنة فهو ٦٣ سم (٢٥ انشا) تقريبا. وتتساقط معظم امطارها بين تشرين الثاني ونيسان.
ورغم انها عالية فهي ليست اعلى من المنطقة حولها. ولا يستطيع المسافر ان يرى المدينة كاملا الا عندما يكون قريبا جدا منها. فإلى الشرق يرتفع جبل الزيتون نحو ٨٠٠ م (٦٢٠,٢ قدما)، وإلى الشمال يصل جبل سكوبس الى ٨٢٠ م (٦٩٠,٢ قدما) تقريبا، اما التلال المحيطة بها من الجنوب والغرب فيصل ارتفاعها حتى ٨٣٥ م (٧٤٠,٢ قدما). وتعطي هذه الارتفاعات فكرة عن موقع جبل الهيكل (نحو ٧٤٠ م [٤٣٠,٢ قدما]) بالنسبة لما حوله.
كان محيط جبل الهيكل هذا سيشكل خطرا كبيرا عليه في زمن الحرب لولا وجود واديين جوانبهما شديدة الانحدار يحيطان بالمدينة من ثلاث جهات: وادي قدرون من الشرق ووادي هنوم من الجنوب والغرب. وثمة واد اوسط، يبدو ان يوسيفوس يشير اليه باسم وادي تيروپيون (او «وادي صانعي الجبن»)، يشطر المدينة الى تلتين، شرقية وغربية. (الحرب اليهودية، ٥:١٣٦، ١٤٠ [٤:١]) ومع ان هذا الوادي الاوسط طُمر الى حد كبير عبر القرون، لا يزال على الزائر الذي يريد عبور المدينة من جهة الى اخرى ان يهبط منحدرا حادا ويعبر منخفضا في وسط المدينة ثم يصعد الى الجهة الاخرى. وبالاضافة الى الوادي الاوسط الذي يمتد من الشمال الى الجنوب، هنالك ما يدل على انه كان يوجد واديين، او منخفضين، اصغر منه يمتدان من الشرق الى الغرب، احدهما يقسم التلة الشرقية والآخر التلة الغربية.
ويبدو ان جوانب الاودية الشديدة الانحدار كانت جزءا من النظام الدفاعي لسور المدينة في كل الفترات. والجانب الوحيد من المدينة الذي افتقر الى دفاع طبيعي هو الجانب الشمالي، حيث جرى تدعيم السور الى حد كبير. لذلك عندما هاجم القائد تيطس المدينة سنة ٧٠ بم، واجه، استنادا الى يوسيفوس، ثلاثة اسوار متتالية في تلك الناحية.
موارد مياهها: عانى سكان اورشليم نقصا كبيرا في الطعام خلال فترات الحصار، لكنهم لم يواجهوا دون شك صعوبة كبيرة في حصولهم على المياه. وذلك لأن المدينة، رغم قربها من برية يهوذا القاحلة، كانت تنعم بإمدادات دائمة من المياه العذبة وبمنشآت ملائمة لخزن المياه داخل اسوارها.
كان هنالك ينبوعان قريبان من المدينة، وهما عين روجل وجيحون. يقع عين روجل الى الجنوب قليلا من نقطة التقاء وادي قدرون بوادي هنوم. ولكن بسبب موقعه كان يتعذر الوصول اليه في زمن الحرب او الحصار، رغم انه كان مصدرا قيما للمياه. اما جيحون فيقع في المنحدر الغربي لوادي قدرون، بجانب ما صار يُدعى مدينة داود. ومع انه خارج اسوار المدينة فقد كان قريبا كفاية بحيث امكن حفر قناة ووصلها بنفق عمودي ليستطيع سكان المدينة استقاء الماء دون مغادرة الاسوار التي تؤمن لهم الحماية. وقد جرى ذلك في وقت باكر من تاريخ المدينة بحسب الادلة الاثرية. ففي سنة ١٩٦١ و ١٩٦٢، كشفت الحفريات عن سور قديم ضخم يقع تحت الطرف، او المدخل، العلوي للقناة، وبالتالي فهو يحيط به. ويُعتقد انه سور مدينة اليبوسيين القديمة.
على مر السنين أُنشئت انفاق وقنوات اضافية لجرّ مياه جيحون. وتبدأ احدى هذه القنوات من فم الكهف الذي ينبع منه جيحون نزولا في الوادي وتلتف حول طرف التلة الجنوبية الشرقية حتى تصل الى بركة تقع عند نقطة التقاء وادي هنوم بالوادي الاوسط، اي وادي تيروپيون. وأظهرت الاكتشافات انها كانت على شكل خندق مغطى بحجارة مسطحة ويخترق جانب التلة في بعض الاماكن. وقد تُركت فتحات لاستقاء الماء من اجل ري مصطبات الوادي في الاسفل. وانحدار القناة البالغ نحو ٤ او ٥ مليمترات في المتر الواحد (اقل من ٢,٠ انش في الياردة) جعل المياه تتدفق ببطء ونعومة، مذكرة بـ «مياه شيلوح التي تجري رويدا». (اش ٨:٦) ويقال ان هذه القناة غير المحمية والمعرضة للهجوم أُنشئت خلال حكم سليمان حين كان السلام والامان سائدين.
كانت البيوت والابنية في اورشليم مجهزة كما يبدو بخزانات تحت الارض تصل اليها مياه الينابيع لتزيد على مخزون المياه فيها. فقد كانت مياه الامطار التي تُجمع من على الاسطح تخزّن فيها لتبقى نظيفة وباردة. ويبدو ان الخزانات في منطقة الهيكل تميزت بضخامتها، فقد قال علماء الآثار انهم اكتشفوا ٣٧ خزانا هناك بلغت سعتها الاجمالية ٠٠٠,٣٨ كيلولتر (٠٠٠,٠٠٠,١٠ ڠالون) تقريبا. وقُدر ان احد هذه الخزانات يسع ٦٠٠,٧ كيلولتر (٠٠٠,٠٠٠,٢ ڠالون).
وقد أُنشئ على مر القرون عدد من القنوات لتزويد اورشليم بالمياه. وينسب التقليد الى سليمان انشاء قناة تمتد من «برك سليمان» (ثلاثة خزانات جنوب غرب بيت لحم) الى منطقة الهيكل في اورشليم. يقول سليمان في الجامعة ٢:٦: «صنعت لي برك مياه لتسقى بها الغابات المنبتة للشجر». ومن المحتمل جدا ان يكون مشروعا بهذه الضخامة، كصنع البرك، قد شمل انشاء قناة لتزويد اورشليم بكمية اكبر من المياه التي ستكون لازمة بعد البدء بتأدية الخدمة في الهيكل. ولكن ليس هنالك اي دليل، سوى ما يقوله التقليد، يؤيد انشاء سليمان لقناة تمتد من برك سليمان الى اورشليم. وحتى اليوم، لا يزال يُكتشف عدد من القنوات. وإحداها قناة شُيدت لجرّ المياه الى برك سليمان من الينابيع في وادي العروب، على بعد ٢٠ كلم (١٢ ميلا) جنوب-جنوب غرب اورشليم. وربما هي القناة التي اشار اليها يوسيفوس قائلا ان بنطيوس بيلاطس شيدها بأموال خزينة الهيكل. (العاديات اليهودية، ١٨:٦٠ [٣:٢]؛ الحرب اليهودية، ٢:١٧٥ [٤:٤]) وبين القناتين الممتدتين من برك سليمان الى اورشليم، القناة السفلى هي الاقدم، اذ ربما يعود تاريخها الى زمن هيرودس او زمن الحشمونيين. وتمر هذه القناة تحت قرية بيت لحم وتمتد الى جبل الهيكل فوق قوس ويلسون.
الابحاث الاثرية: أُجريت في اورشليم ابحاث وحفريات كثيرة، ولكن لم تُكتشف الا حقائق قليلة ملموسة تتعلق بمدينة ازمنة الكتاب المقدس هذه. وهنالك عوامل مختلفة قيّدت البحث او حدّت من قيمته. فطوال العصر الميلادي ظلت اورشليم آهلة بالسكان على نحو دائم تقريبا، لذلك لم يكن هنالك الا مساحة ضيقة جدا للتنقيب فيها. كما ان المدينة دُمرت عدة مرات وبُنيت مدن جديدة فوق الانقاض، وغالبا ما استُعملت بعض المواد من انقاض المدينة القديمة في بناء الجديدة. وقد محت كوم الحطام والانقاض، التي تناهز الـ ٣٠ م (١٠٠ قدم) في بعض الاماكن، الحدود القديمة للموقع وحالت دون اعطاء اي تفسير اكيد للادلة المكتشفة. كما نُبشت بعض اجزاء السور وبرك وقنوات مياه وقبور قديمة، غير ان الكتابات المكتشفة كانت قليلة جدا. والاكتشافات الاثرية المهمة كانت في التلة الجنوبية الشرقية التي تقع الآن خارج اسوار المدينة.
لذلك يبقى الكتاب المقدس ووصف المؤرخ اليهودي يوسيفوس للمدينة كما كانت في القرن الاول المصدرين الرئيسيين للمعلومات حول المدينة القديمة.
تاريخها الباكر: يعود اول ذكر تاريخي للمدينة الى ما بين سنة ١٩٤٣ و ١٩٣٣ قم، حين التقى ابراهيم ملكي صادق. كان ملكي صادق «ملك شليم» و «كاهن اللّٰه العلي». (تك ١٤:١٧-٢٠) لكن الغموض يكتنف اصل المدينة وسكانها كما يكتنف اصل ملكها وكاهنها ملكي صادق. — قارن عب ٧:١-٣.
ويتبين ان هنالك حادثة اخرى في حياة ابراهيم جرت في المنطقة المجاورة لأورشليم. فقد أُمر ابراهيم بأن يقرّب ابنه اسحاق «على احد الجبال» في «ارض المريا». وكان الهيكل الذي بناه سليمان قائما على «جبل المريا»، على موقع كان في السابق بيدرا. (تك ٢٢:٢؛ ٢ اخ ٣:١) وهكذا يربط الكتاب المقدس على ما يبدو المكان الذي حاول فيه ابراهيم ان يقدم الذبيحة بالمنطقة الجبلية حول اورشليم. (انظر «المُرِيَّا».) ولا يتحدث السجل عما اذا كان ملكي صادق لا يزال حيا آنذاك ام لا، إلا ان العلاقات بين ابراهيم وشليم بقيت جيدة على الارجح.
تضمنت ألواح تل العمارنة، التي كتبها حكام كنعانيون الى سيدهم المصري، سبع رسائل من ملك او حاكم اورشليم (أوروساليم). وقد كُتبت هذه الرسائل قبل فتح الاسرائيليين لكنعان. وبالتالي فإن اورشليم كانت قد صارت، خلال فترة الـ ٤٦٥ سنة تقريبا التي تفصل بين لقاء ابراهيم بملكي صادق وفتوحات الاسرائيليين، مُلكا للكنعانيين الحاميين الوثنيين وتحت سيطرة الامبراطورية المصرية الحامية.
في الرواية عن فتح يشوع الكاسح لكنعان، يُدرَج ادوني صادق، ملك اورشليم، بين الملوك المتحالفين الذين هاجموا جبعون. ويماثل اسمه (الذي يعني «ربي او سيدي هو بر») الى حد كبير اسم ملك اورشليم القديم ملكي صادق («ملك البر»)، لكن ادوني صادق لم يكن عابدا ليهوه اللّٰه العلي. — يش ١٠:١-٥، ٢٣، ٢٦؛ ١٢:٧، ٨، ١٠.
عند تقسيم الاراضي على الاسباط بالقرعة، كانت اورشليم على الحدود الفاصلة بين يهوذا وبنيامين التي امتدت على طول وادي هنوم. وهذا يجعل على الاقل الموقع الذي تأسست فيه لاحقا «مدينة داود»، والقائم على نتوء صخري بين وادي قدرون ووادي تيروپيون، ضمن اراضي بنيامين. ولكن يبدو ان مدينة الكنعانيين كانت لها ايضا ضياع، او «ضواح»، وربما كان بعضها يقع ضمن (تداخل جزء من المنطقة التي سكنوها مع) اراضي يهوذا الواقعة غرب وجنوب وادي هنوم. يُنسب الفتح الاول لأورشليم الى يهوذا بحسب القضاة ١:٨. ولكن بعد انتقال قوات يهوذا الغازية الى مكان آخر، يبدو ان السكان اليبوسيين بقوا في المدينة (او رجعوا اليها) بقوة تكفي لتشكّل في وقت لاحق جيب مقاومة لم يستطع لا يهوذا ولا بنيامين التغلب عليه. وهكذا، في الحديث عن كل من يهوذا وبنيامين، يقول السجل ان ‹اليبوسيين سكنوا معهم في اورشليم›. (يش ١٥:٦٣؛ قض ١:٢١) وقد استمرت هذه الحال اربعة قرون تقريبا، وكان يُشار احيانا الى اورشليم بأنها «يبوس»، ‹مدينة الغرباء›. — قض ١٩:١٠-١٢؛ ١ اخ ١١:٤، ٥.
في ظل المملكة الموحّدة: كان مركز حكم الملك شاول في جبعة، في ارض بنيامين. اما عاصمة الملك داود فكانت اولا في حبرون بيهوذا، على بعد نحو ٣٠ كلم (١٩ ميلا) جنوب-جنوب غرب اورشليم. وبعد ان حكم داود هناك سبع سنين ونصفا (٢ صم ٥:٥)، قرر ان ينقل العاصمة الى اورشليم. وكان ذلك بتوجيه الهي (٢ اخ ٦:٤-٦)، فيهوه كان قد تكلم قبل قرون عن ‹المكان الذي اختاره ليجعل اسمه فيه›. — تث ١٢:٥؛ ٢٦:٢؛ قارن ٢ اخ ٧:١٢.
ويبدو ان مدينة اليبوسيين في ذلك الوقت كانت في الطرف الجنوبي للحيد الشرقي. وكان اليبوسيون واثقين من مدينتهم الحصينة والمنيعة بدفاعاتها الطبيعية التي تشكلها الوديان الشديدة الانحدار المحيطة بها من ثلاث جهات، وربما بتحصيناتها المتميزة جهة الشمال. وكانت المدينة معروفة بـ «المكان الحصين» (١ اخ ١١:٧)، بحيث ان اليبوسيين عيروا داود انه حتى ‹العميان والعرج في المدينة› يمكنهم ان يصدوا هجماته. لكن داود استولى على المدينة. وكان يوآب يقود الهجوم، وقد تمكن كما يظهر من الدخول الى المدينة عبر «قناة الماء». (٢ صم ٥:٦-٩؛ ١ اخ ١١:٤-٨) ومع ان العلماء ليسوا على يقين تام من معنى العبارة العبرانية المنقولة هنا الى «قناة الماء»، فهم يقبلون عموما هذا التعبير او تعابير مماثلة («نفق ماء»، قم، تا؛ «مسيل»، مي) على انها المعنى المرجح اكثر. ان الرواية الموجزة لا تذكر كيف اختُرقت دفاعات المدينة. ولكن منذ اكتشاف القناة والنفق العمودي المؤديين الى نبع جيحون، فإن الرأي الشائع هو ان يوآب قاد الرجال عبر هذا النفق العمودي وعبر الممر المائل حتى وصل الى المدينة قائما بهجوم مفاجئ. (الصورة في المجلد ٢، ص X) وفي جميع الاحوال، تم الاستيلاء على المدينة ونقل داود عاصمته الى هناك (١٠٧٠ قم). وصار حصن اليبوسيين الآن يُعرف بـ «مدينة داود»، كما دُعي ايضا «صهيون». — ٢ صم ٥:٧.
ابتدأ داود بمشروع بناء داخل المنطقة محسنا ايضا على ما يبدو دفاعات المدينة. (٢ صم ٥:٩-١١؛ ١ اخ ١١:٨) و «التل» (بالعبرانية، هامّيلّوء) المشار اليه هنا (٢ صم ٥:٩) وفي روايات لاحقة (١ مل ٩:١٥، ٢٤؛ ١١:٢٧) كان احد معالم المدينة الطبيعية او غير الطبيعية، وقد كان مشهورا آنذاك ولكن لا يمكن اليوم تحديد موقعه. وعندما نقل داود لاحقا «تابوت يهوه» المقدس من بيت عوبيد ادوم الى اورشليم صارت المدينة المركز الديني والاداري ايضا للامة. — ٢ صم ٦:١١، ١٢، ١٧؛ انظر «الدفن، القبور»؛ «داود، مدينة»؛ «التل».
لا يذكر السجل ان جيش الاعداء هاجم اورشليم خلال حكم داود، فداود هو الذي كان يشن حروبا على اعدائه. (قارن ٢ صم ٥:١٧-٢٥؛ ٨:١-١٤؛ ١١:١.) ولكن في احدى المناسبات، رأى داود انه من الملائم ان يترك المدينة قبل ان تتقدم القوات المتمردة التي كان يقودها ابنه ابشالوم. وربما تراجع الملك تجنبا لسفك الدماء في حرب اهلية في هذا المكان الذي يسكن فيه اسم يهوه. (٢ صم ١٥:١٣-١٧) ومهما كان دافع تراجعه، فقد ادى الى اتمام نبوة ناثان الموحى بها. (٢ صم ١٢:١١؛ ١٦:١٥-٢٣) ولم يسمح داود بأن يُنقل تابوت العهد معه بل امر الكهنة الامناء بإعادته الى المدينة، الى الموقع الذي اختاره اللّٰه. (٢ صم ١٥:٢٣-٢٩) والوصف المسجل في ٢ صموئيل الاصحاح ١٥ عن المرحلة الاولى من هروب داود يوجز جيدا المعالم الجغرافية للمنطقة شرق المدينة.
ابتدأ داود، نحو نهاية حكمه، بإعداد مواد البناء للهيكل. (١ اخ ٢٢:١، ٢؛ قارن ١ مل ٦:٧.) وربما تكون الحجارة التي نحتت قد أُعدت في مقلع في تلك المنطقة، لأن الصخر الذي ترتكز عليه التربة في اورشليم يسهل قطعه ونحته ليأخذ الحجم والشكل المطلوبين، ولكن بتأثير الجو يتقسى حتى يصبح حجرا صلدا ذا قوة تحمّل تجعله صالحا للبناء وجميلا. وهنالك دليل على وجود مقلع بالقرب من باب العمود (باب الشام) الحالي، وقد قُلعت بمرور الزمن كميات كبيرة من الصخور هناك.
تزوِّد الرواية عن مسح سليمان، بأمر من الملك المسن داود، معلومات اضافية عن جغرافية المنطقة حول اورشليم، وهذه المرة من جهة الشرق والجنوب. ففيما كان ادونيا، ابن آخر لداود، عند نبع عين روجل يحيك مؤامرة للاستيلاء على المُلك، كان يجري مسح سليمان عند نبع جيحون. وكانت المسافة بين النبعين قريبة جدا (نحو ٧٠٠ م؛ ٣٠٠,٢ قدم) بحيث استطاع ادونيا والمتآمرون معه ان يسمعوا صوت القرن وضجيح الاحتفال في جيحون. — ١ مل ١:٥-٩، ٣٢-٤١.
شهد حكم سليمان الكثير من اعمال البناء (وربما اعادة البناء ايضا) داخل المدينة، وكذلك توسيعا لحدودها جديرا بالملاحظة. (١ مل ٣:١؛ ٩:١٥-١٩، ٢٤؛ ١١:٢٧؛ قارن جا ٢:٣-٦، ٩.) فالهيكل بكل عظمته وروعته بُني مع دياره على جبل المريا، على الحيد الشرقي شمال «مدينة داود»، حيث تقع اليوم قبّة الصخرة على ما يبدو. (٢ اخ ٣:١؛ ١ مل ٦:٣٧، ٣٨؛ ٧:١٢) هذا بالاضافة الى ابنية رئيسية اخرى مجاورة كبيت او قصر سليمان وبيت غابة لبنان المصنوع من خشب الارز ورواق الاعمدة ورواق العرش، اي رواق القضاء. (١ مل ٧:١-٨) ويبدو ان هذه الابنية كانت تقع جنوب الهيكل على منحدر يتدرج نزولا حتى يصل الى «مدينة داود».— الخريطة في المجلد ١، ص X؛ الصورة في المجلد ١، ص X.
بعد انقسام المملكة (٩٩٧-٦٠٧ قم): ادى تمرد يربعام الى انقسام الامة الى مملكتين، فصارت اورشليم عاصمة سبطين هما بنيامين ويهوذا، والمَلك فيها رحبعام بن سليمان. وانتقل ايضا اللاويون والكهنة الى المدينة التي يسكن فيها اسم يهوه، الامر الذي شدد مُلك رحبعام. (٢ اخ ١١:١-١٧) وهكذا لم تعد اورشليم تقع في وسط ارض المملكة، اذ اصبحت تبعد مجرد كيلومترات قليلة عن حدود مملكة العشرة اسباط المعادية. وفي غضون خمس سنوات بعد موت سليمان، تعرضت المدينة لأول غزو من سلسلة غزوات. فقد هاجم شيشق ملك مصر مملكة يهوذا، معتبرا دون شك انها صارت سهلة المنال بعد تقلصها. وبسبب خيانة الامة نجح في دخول اورشليم وسلب خزائن الهيكل ونفائس اخرى. وفقط بسبب توبة الشعب منح اللّٰه المدينة مقدارا من الحماية حال دون تدميرها كليا. — ١ مل ١٤:٢٥، ٢٦؛ ٢ اخ ١٢:٢-١٢.
خلال حكم الملك الامين آسا، فشل بعشا، ملك المملكة الشمالية، في تعزيز مواقعه شمال يهوذا ليُحكم اغلاق الحدود ويمنع اي اتصال بأورشليم (وربما اي تعبير عن الولاء لمملكة يهوذا من قبل رعاياه). (١ مل ١٥:١٧-٢٢) وبفضل استمرار العبادة النقية خلال حكم يهوشافاط بن آسا نعمت المدينة بالحماية الالهية وبفوائد عظيمة، بما فيها اتخاذ تدابير لتحسين معالجة القضايا القضائية. — ٢ اخ ١٩:٨-١١؛ ٢٠:١، ٢٢، ٢٣، ٢٧-٣٠.
وطوال الفترة التي استمرت فيها اورشليم عاصمة لمملكة يهوذا، كانت الاحداث نفسها تتكرر. فالعبادة الحقة كانت تؤدي الى بركة يهوه وحمايته، اما الارتداد فكان يؤدي الى مشاكل خطيرة وإلى التعرض للهجوم. وقد شهد حكم الملك غير الامين يهورام (٩١٣-نحو ٩٠٧ قم)، ابن يهوشافاط، غزو المدينة وسلبها مرة اخرى رغم اسوارها المنيعة، وكان ذلك على يد العرب والفلسطيين المتحالفين. (٢ اخ ٢١:١٢-١٧) وفي القرن التالي ادى انحراف الملك يهوآش عن المسلك البار الى ‹غزو يهوذا وأورشليم› على يد الجيش الارامي، وتدل القرينة انهم نجحوا في دخول المدينة. (٢ اخ ٢٤:٢٠-٢٥) وخلال ارتداد امصيا اجتاحت مملكة اسرائيل الشمالية يهوذا، مدمرة ١٧٨ م (٥٨٤ قدما) تقريبا من السور الشمالي البالغ الاهمية، وذلك بين باب الزاوية (في الزاوية الشمالية الغربية) وباب افرايم (الى الشرق من باب الزاوية). (٢ اخ ٢٥:٢٢-٢٤) وربما تكون المدينة، في مرحلة ما قبل ذلك، قد امتدت عبر الوادي الاوسط الى الجبال الواقعة في الغرب.
اجرى الملك عزّيا (٨٢٩-٧٧٨ قم) تحسينات بارزة لتقوية دفاعات المدينة، فحصن باب الزاوية (الشمالي الغربي) وباب الوادي (عند الزاوية الجنوبية الغربية) ببناء الابراج، كما انه بنى برجا عند «الدعامة» («الزاوية»، ع أ، يج؛ «المنعطف»، جد)، التي يبدو انها جزء من السور الشرقي لا يبعد كثيرا عن الابنية الملكية، الابنية التابعة لداود او تلك التي لسليمان. (٢ اخ ٢٦:٩؛ نح ٣:٢٤، ٢٥) وجهز عزّيا ايضا الابراج والزوايا بـ «منجنيقات»، التي ربما هي آلات لرمي السهام والحجارة الضخمة. (٢ اخ ٢٦:١٤، ١٥) وقد تابع ابنه يوثام مشروع البناء. — ٢ اخ ٢٧:٣، ٤.
قام الملك حزقيا الامين، الذي حكم بعد ابيه آحاز المرتد، بعمل تطهير وترميم في منطقة الهيكل ورتب لاحتفال كبير بالفصح جذب عبادا الى اورشليم من كل ارض اسرائيل، بما فيها المملكة الشمالية. (٢ اخ ٢٩:١-٥، ١٨، ١٩؛ ٣٠:١، ١٠-٢٦) ولكن هذا التحريض على العبادة الحقة سرعان ما تبعه هجوم من الوثنيين، الذين كانوا يستهزئون بالاله الحقيقي الذي يسكن اسمه في اورشليم. ففي سنة ٧٣٢ قم، بعد ثماني سنوات من فتح الاشوريين لمملكة اسرائيل الشمالية، اكتسح سنحاريب ملك اشور فلسطين وأرسل بعض جنوده الى اورشليم لتهديدها. (٢ اخ ٣٢:١، ٩) فقام حزقيا بالاستعدادات لمواجهة الحصار. فطمّ منابع المياه خارج المدينة بهدف اخفائها وإعاقة العدو، كما انه دعّم الاسوار وحصنها. (٢ اخ ٣٢:٢-٥، ٢٧-٣٠) ويبدو ان «القناة» التي استُخدِمت لجر الماء الى المدينة من نبع جيحون كانت قد شُقَّت قبلا، وربما كان ذلك خلال فترة السلام. (٢ مل ٢٠:٢٠؛ ٢ اخ ٣٢:٣٠) وإذا كانت، كما يُعتقد، القناة المشتملة على النفق الذي يخترق منحدر وادي قدرون وينتهي الى بركة سلوام في وادي تيروپيون، فعندئذ لا يمكن ان يكون شقها مجرد مشروع بسيط ينتهي في بضعة ايام. (انظر «علم الآثار» [فلسطين وسورية]؛ «جيحون» رقم ٢.) على اية حال، لم تكن قوة المدينة تعتمد على انظمتها الدفاعية وإمداداتها بل على قدرة يهوه اللّٰه على حمايتها. فقد قال اللّٰه: «ادافع عن هذه المدينة لأخلصها من اجلي ومن اجل داود خادمي». (٢ مل ١٩:٣٢-٣٤) والإهلاك العجائبي للـ ٠٠٠,١٨٥ جندي اشوري جعل سنحاريب ينسحب بسرعة عائدا الى اشور. (٢ مل ١٩:٣٥، ٣٦) وفي الحوليات الاشورية التي تذكر الرواية عن حملة سنحاريب، تبجح هذا الاخير بأنه حجز حزقيا في اورشليم ‹كطير في قفص›، ولكنه لم يدّع الاستيلاء على المدينة. — انظر «سَنْحارِيب».
خلال حكم منسى (٧١٦-٦٦٢ قم) جرت اعمال بناء اضافية في سور المدينة، على طول وادي قدرون. وشهد حكمه ايضا ابتعاد الامة اكثر عن العبادة الحقة. (٢ اخ ٣٣:١-٩، ١٤) لكن حفيده يوشيا قام بإصلاحات دامت بعض الوقت، وخلال حكمه جُعل وادي هنوم، الذي استخدمه عباد الاصنام لطقوس بغيضة، ‹غير صالح للعبادة›، اذ نُجس على الارجح بتحويله الى مكب لنفايات المدينة. (٢ مل ٢٣:١٠؛ ٢ اخ ٣٣:٦) ويبدو ان «باب كوم الرماد» كان يطل على هذا الوادي. (نح ٣:١٣، ١٤؛ انظر «جَهَنَّم»؛ «هِنُّوم، وادي».) وخلال زمن يوشيا ذُكر «الحي الثاني» («الحي الجديد»، يج) للمدينة لأول مرة. (٢ مل ٢٢:١٤؛ ٢ اخ ٣٤:٢٢) ويُعتقد عموما ان هذا «الحي الثاني» هو الجزء الواقع غرب وشمال غرب منطقة الهيكل. — صف ١:١٠.
بعد موت يوشيا تدهورت الاوضاع بسرعة في اورشليم بسبب تعاقب اربعة ملوك غير امناء على التوالي. وفي السنة الثامنة للملك يهوياقيم صارت يهوذا تابعة لبابل. وبسبب تمرد يهوياقيم بعد ثلاث سنوات ضربت بابل حصارا ناجحا على اورشليم، فسُلبت خزائن المدينة وأُجلي يهوياكين ومواطنون آخرون الى بابل. (٢ مل ٢٤:١-١٦؛ ٢ اخ ٣٦:٥-١٠) حاول صدقيا، الملك المعين من قبل بابل، نزع النير البابلي مما ادى الى محاصرة اورشليم من جديد في السنة التاسعة لمُلكه (٦٠٩ قم). (٢ مل ٢٤:١٧-٢٠؛ ٢٥:١؛ ٢ اخ ٣٦:١١-١٤) فأُرسل جيش مصري لإنقاذ اورشليم ونجح في جعل المحاصرين ينسحبون فترة من الوقت. (ار ٣٧:٥-١٠) لكن البابليين رجعوا وحاصروا المدينة من جديد اتماما لنبوة يهوه بفم ارميا. (ار ٣٤:١، ٢١، ٢٢؛ ٥٢:٥-١١) وقد قضى ارميا الفترة الاخيرة من الحصار سجينا في «باحة الحرس» (ار ٣٢:٢؛ ٣٨:٢٨) المتصلة بـ «بيت الملك». (نح ٣:٢٥) اخيرا، بعد ١٨ شهرا من الحصار وما رافقه من مجاعة وأمراض وموت، ثُغرت اسوار اورشليم في السنة الـ ١١ للملك صدقيا، وجرى الاستيلاء على المدينة. — ٢ مل ٢٥:٢-٤؛ ار ٣٩:١-٣.
الخراب والرد: ثُغرت اسوار المدينة في ٩ تموز سنة ٦٠٧ قم. وبعد شهر، في ١٠ آب، دخل نبوزرادان، ممثل نبوخذنصر، الى المدينة المحتلة وابتدأ بتخريبها، فأحرق الهيكل وأبنية اخرى، كما انه باشر بتقويض اسوار المدينة. وسُبي ملك اورشليم ومعظم سكانها الى بابل وأُخذت خزائنها غنيمة. — ٢ مل ٢٥:٧-١٧؛ ٢ اخ ٣٦:١٧-٢٠؛ ار ٥٢:١٢-٢٠؛ الصورة في المجلد ٢، ص X.
قال عالم الآثار كوندر: «بقيت صفحات تاريخ المدينة المدمرة فارغة حتى زمن كورش»، ولم تصح هذه الكلمات في اورشليم فقط بل ايضا في كامل مملكة يهوذا. فبخلاف الاشوريين، لم يُسكن الملك البابلي اي شعب آخر في المنطقة التي قهرها. ودام الخراب الذي حلّ بها ٧٠ سنة، تماما كما أُنبئ. — ار ٢٥:١١؛ ٢ اخ ٣٦:٢١.
في «السنة الاولى» (٥٣٨ قم) لكورش الفارسي (كحاكم على بابل كما يبدو)، صدر المرسوم الملكي بتحرير اليهود المسبيين ‹ليصعدوا الى اورشليم، التي في يهوذا، ويعيدوا بناء بيت يهوه اله اسرائيل›. (عز ١:١-٤) وكان عدد الشعب الذي قام بالرحلة الطويلة الى اورشليم، حاملا خزائن الهيكل، ٣٦٠,٤٢ ذكرا ما عدا العبيد والمغنين المحترفين. وقد وصلوا في الوقت المحدد ليحتفلوا بعيد المظال في تِشري (ايلول-تشرين الاول) سنة ٥٣٧ قم. (عز ٢:٦٤، ٦٥؛ ٣:١-٤) بوشر العمل في اعادة بناء الهيكل تحت توجيه الوالي زربابل، وبعد ان عرقلته عقبات خطيرة وروح اللامبالاة التي تغلغلت بين اليهود العائدين أُكمل اخيرا بحلول آذار سنة ٥١٥ قم. وعاد المزيد من المسبيين مع الكاهن والكاتب عزرا سنة ٤٦٨ قم، جالبين معهم اشياء اضافية «لتجميل بيت يهوه الذي في اورشليم» (عز ٧:٢٧)، وذلك بإذن من الملك ارتحشستا (الطويل اليد). وكانت النفائس التي جلبوها معهم تساوي على ما يبدو اكثر من ٠٠٠,٠٠٠,٤٣ دولار اميركي. — عز ٨:٢٥-٢٧.
بعد قرن ونصف القرن تقريبا من فتح نبوخذنصر، كانت اسوار المدينة وبواباتها لا تزال منهدمة. فحصل نحميا على اذن من ارتحشستا ليذهب الى اورشليم ويعالج هذا الوضع. (نح ٢:١-٨) والرواية التالية التي تتحدث عن تفحص نحميا للمدينة ليلا وتقسيمه عمل البناء على عشائر مختلفة هي مصدر رئيسي للمعلومات عن تصميم المدينة في ذلك الوقت وخصوصا عن بواباتها. (نح ٢:١١-١٥؛ ٣:١-٣٢؛ انظر «البوابة (الباب)، المدخل».) وقد تمم عمل اعادة البناء هذا نبوة دانيال وحدد السنة التي وسمت بداية الـ ٧٠ «اسبوعا» النبوية المتعلقة بمجيء المسيا. (دا ٩:٢٤-٢٧) ورغم المضايقات، احاطوا اورشليم سنة ٤٥٥ قم بالسور والابواب في فترة قصيرة من ٥٢ يوما. — نح ٤:١-٢٣؛ ٦:١٥؛ ٧:١؛ انظر «السبعون اسبوعا (‹خروج الكلمة›)».
اصبحت اورشليم الآن ‹واسعة وعظيمة، [لكن] الشعب كان قليلا في وسطها›. (نح ٧:٤) وبعد القراءة العلنية للاسفار المقدسة والاحتفالات في «الساحة التي امام باب الماء» شرق المدينة (نح ٣:٢٦؛ ٨:١-١٨)، صُنعت الترتيبات لزيادة عدد سكان المدينة بجلب اسرائيلي واحد من كل عشرة ليسكن هناك. ومع ان ذلك جرى بإلقاء قرعة، يتضح انه كان هنالك متطوعون ايضا. (نح ١١:١، ٢) كما أُجري عمل تطهير روحي كان الهدف منه وضع اساس سليم لسكان المدينة في ما يتعلق بالعبادة الحقة. (نح ١٢:٤٧–١٣:٣) دامت ولاية نحميا ١٢ سنة او اكثر قام خلالها برحلة الى بلاط الملك الفارسي. ولدى عودته الى اورشليم رأى انه توجد حاجة الى المزيد من التطهير. (نح ١٣:٤-٣١) وباستئصال نحميا للارتداد يُختتم سجل الاسفار العبرانية، في وقت ما بعد سنة ٤٤٣ قم.
السيطرة الهلِّينية والمكابية: تحولت السيطرة من الماديين والفرس الى اليونانيين سنة ٣٣٢ قم، عندما اجتاح الاسكندر الكبير يهوذا. ولا يأتي المؤرخون اليونانيون على اي ذكر لدخول الاسكندر الى اورشليم. ولكن المدينة صارت فعلا تحت السيطرة اليونانية، ومن المنطقي الافتراض انه لم يتحول عنها تماما. ويشير يوسيفوس، من القرن الاول بم، الى التقليد اليهودي الذي يذكر انه لدى اقتراب الاسكندر من اورشليم لاقاه رئيس الكهنة اليهودي وأراه النبوات الموحى بها إلهيا التي سجلها دانيال والتي تنبئ بفتوحات اليونان السريعة كالبرق. (العاديات اليهودية، ١١:٣٢٦-٣٣٨ [٨:٤، ٥]؛ دا ٨:٥-٧، ٢٠، ٢١) وعلى اية حال، يبدو ان اورشليم خضعت لتغيير في السيطرة انما دون ان يلحق بها اي ضرر.
بعد موت الاسكندر صارت اورشليم واليهودية تحت سيطرة البطالسة الذين حكموا من مصر. وفي سنة ١٩٨ قم، استولى انطيوخوس الكبير، حاكم سورية، على اورشليم بعد ان استولى على مدينة صيدون الحصينة، وصارت اليهودية تحت سيادة الامبراطورية السلوقية. (قارن دا ١١:١٦.) بقيت اورشليم تحت الحكم السلوقي ٣٠ سنة. ثم في سنة ١٦٨ قم، كرس ملك سورية انطيوخوس الرابع (ابيفانوس) هيكل اورشليم لزيوس (اي زفس، ويقابله جوبيتر عند الرومان) ودنس المذبح بتقديم ذبيحة غير طاهرة، سعيا منه الى صبغ اليهود كاملا بالصبغة الهلينية. (١ مكابيين ١:٥٧، ٦٢؛ ٢ مكابيين ٦:١، ٢، ٥؛ الصور في المجلد ٢، ص X) وقد ادى ذلك الى الثورة المكابية (او الحشمونية). وبعد ثلاث سنوات من الصراع، سيطر يهوذا المكابي على المدينة والهيكل وأعاد تكريس مذبح يهوه للعبادة الحقة في ذكرى تدنيسه، في ٢٥ كسلو، سنة ١٦٥ قم. — ١ مكابيين ٤:٥٢-٥٤؛ ٢ مكابيين ١٠:٥؛ قارن يو ١٠:٢٢.
لكن الحرب ضد الحكام السلوقيين لم تكن قد انتهت. فلجأ اليهود الى روما من اجل المساعدة، وهكذا، نحو سنة ١٦٠ قم، ظهرت على مسرح اورشليم سلطة جديدة. (١ مكابيين ٨:١٧، ١٨) وابتدأت اورشليم تقع تحت نفوذ الامبراطورية الرومانية المتوسعة. ونحو سنة ١٤٢ قم، استطاع سمعان المكابي ان يجعل اورشليم عاصمة منطقة متحررة ظاهريا من تبعيتها للامم او من دفع الضريبة لهم. حتى ان ارستوبولوس الاول، رئيس كهنة اورشليم، انتحل لقب الملك سنة ١٠٤ قم. غير انه لم يكن من السلالة الداودية.
لم تكن اورشليم في هذه الفترة ‹مدينة سلام›. فالصراعات الداخلية التي اججتها الطموحات الانانية وزادتها سوءا الفئات الدينية المتنازعة، مثل الصدوقيين والفريسيين والمنتمين الى حزب الغيارى وآخرين، اضعفت المدينة كثيرا. وأدى نزاع عنيف بين ارستوبولوس الثاني وأخيه هيركانوس الى استدعاء روما لفض النزاع. وبأمرة القائد پومپي قامت الجيوش الرومانية سنة ٦٣ قم بمحاصرة اورشليم ثلاثة اشهر بهدف دخول المدينة وتسوية النزاع. وقد أُخبر عن موت اثني عشر الف يهودي، معظمهم على ايدي رفقائهم الاسرائيليين.
في رواية يوسيفوس عن فتح پومپي، يُذكر للمرة الاولى الجسر ذو القناطر الذي يقطع وادي تيروپيون. وقد كان صلة وصل بين جزئي المدينة الشرقي والغربي وأتاح للذين في الجزء الغربي الدخول مباشرة الى منطقة الهيكل.
نُصّب الادومي انتيباتر (الثاني) واليا رومانيا على اليهودية، وتُرك شخص مكابي في اورشليم رئيسا للكهنة وحاكما (اتنارخا) محليا. وفي ما بعد عينت روما ابن انتيباتر هيرودس (الكبير) «ملكا» على اليهودية. الا ان اورشليم لم تقع تحت سيطرته حتى سنة ٣٧ او ٣٦ قم، الوقت الذي ابتدأ فيه حكمه فعليا.
في ظل حكم هيرودس الكبير: تميّز حكم هيرودس بمشروع بناء طموح، وقد نعمت المدينة خلاله بازدهار كبير. فبُني مسرح وجمنازيوم وميدان لسبق الخيل (الصورة في المجلد ٢، ص X)، بالاضافة الى ابنية عامة اخرى. وبنى هيرودس ايضا قصرا ملكيا منيعا (الصورة في المجلد ٢، ص X) يقع على ما يبدو في الطرف الغربي للمدينة جنوب باب الخليل (باب يافا) اليوم، حيث يعتقد علماء الآثار انهم اكتشفوا اساس احد الابراج. كما توجد ايضا قلعة، برج انطونيا، بالقرب من الهيكل ويربطها به ممر. (الصورة في المجلد ٢، ص X؛ العاديات اليهودية، ١٥:٤٢٤ [١١:٧]) وهذا كان يمكّن الحامية العسكرية الرومانية من الوصول بسرعة الى منطقة الهيكل، كما حدث على الارجح عندما انقذ الجنود بولس من الرعاع هناك. — اع ٢١:٣١، ٣٢.
ولكن اعظم عمل قام به هيرودس هو اعادة بناء الهيكل وأبنيته. فقد ابتدأ بناء البيت المقدس في السنة الـ ١٨ من حكمه (العاديات اليهودية، ١٥:٣٨٠ [١١:١]) وانتهى خلال سنة ونصف، لكن العمل في الابنية المجاورة والديار دام فترة طويلة بعد موته. (يو ٢:٢٠) كانت المساحة المحيطة بالهيكل ضعف المساحة السابقة تقريبا. ويبدو ان جزءا من حائط دار الهيكل لا يزال موجودا حتى اليوم، وهو يُعرف بالحائط الغربي او حائط المبكى. ويقول علماء الآثار ان الصفوف السفلية للحجارة الضخمة البالغ ارتفاعها ٩,٠ م (٣ اقدام) يعود تاريخها الى زمن هيرودس.
من ٢ قم الى ٧٠ بم: تتابع الاسفار اليونانية المسيحية سرد احداث تتعلق بأورشليم. صحيح ان ولادة يسوع لم تحدث في اورشليم بل في بيت لحم المجاورة، «مدينة داود» (لو ٢:١٠، ١١)، لكن هيرودس و «جميع اورشليم معه» اضطربوا عندما اخبر المنجمون لاحقا عن ولادة «ملك اليهود». (مت ٢:١-٣) مات هيرودس، سنة ١ قم على ما يبدو، بعيد اصداره امرا دنيئا يقضي بقتل كل اطفال بيت لحم. (انظر «هِيرُودُس» رقم ١.) فورث ابنه ارخيلاوس العرش على اورشليم واليهودية، بالاضافة الى مناطق اخرى. لكنّ روما خلعته لاحقا بسبب مخالفاته. ومن ذلك الوقت حكم اشخاص عينتهم روما مباشرة، كبنطيوس بيلاطس الذي حكم خلال خدمة يسوع. — لو ٣:١.
أُخذ يسوع الى اورشليم بعد ٤٠ يوما من ولادته وقُرب في الهيكل بصفته بكر مريم. فابتهج سمعان وحنة المسنان عند رؤيتهما المسيا الموعود به، وأخذت حنة تتحدث عنه «الى جميع المنتظرين انقاذ اورشليم». (لو ٢:٢١-٣٨؛ قارن لا ١٢:٢-٤.) لا يذكر السجل كم مرة أُخذ يسوع الى اورشليم خلال سنوات طفولته، ولكن خُصّت بالذكر زيارته الى هناك وهو بعمر ١٢ سنة. وقد انهمك آنذاك في مناقشة مع المعلمين في منطقة الهيكل، وهكذا كان مشغولا في ‹بيت ابيه›، في المدينة التي اختارها ابوه. — لو ٢:٤١-٤٩.
كان يسوع بعد معموديته وخلال السنوات الثلاث والنصف من خدمته يزور اورشليم على نحو منتظم. فلا شك انه كان يحضر هناك الاعياد السنوية الثلاثة، الامر الذي كان الزاميا لكل الذكور اليهود. (خر ٢٣:١٤-١٧) لكنه كان يقضي معظم وقته خارج العاصمة كارزا ومعلما في الجليل وفي مناطق اخرى من البلاد.
بالاضافة الى منطقة الهيكل حيث علم يسوع مرارا، قلة هي المواقع المحددة في المدينة التي يأتي السجل على ذكرها في ما يتعلق بخدمته. ويُعتقد ان بركة بيت زاثا بأروقتها الخمسة (يو ٥:٢) هي التي اكتُشفت شمال منطقة الهيكل مباشرة. (انظر «بيت زاثا».) اما بركة سلوام فكانت تقع على منحدر في الناحية الجنوبية من الحيد الشرقي وتستمد مياهها من نبع جيحون عبر القناة والنفق المنسوبَين الى حزقيا. (يو ٩:١١؛ الصورة في المجلد ٢، ص ٩٤٩ [بالانكليزية]) وتُعطى صورة اشمل عن اورشليم خلال زيارة يسوع الاخيرة لها. — الخريطة في المجلد ٢، ص ٧٤٢؛ الصور في المجلد ٢، ص ٧٤٣.
قبل ستة ايام من عيد الفصح سنة ٣٣ بم، اتى يسوع الى بيت عنيا الواقعة على المنحدر الشرقي لجبل الزيتون. وفي اليوم التالي، في ٩ نيسان القمري، اقترب من العاصمة كملك يهوه الممسوح، راكبا على جحش ابن اتان اتماما لنبوة زكريا ٩:٩. (مت ٢١:١-٩) وفيما هو نازل من جبل الزيتون توقف ونظر الى المدينة وبكى عليها، وتنبأ بوصف دقيق عن حصارها الوشيك والدمار الذي سيحل بها. (لو ١٩:٣٧-٤٤) وعند دخوله الى المدينة، من بوابة في السور الشرقي على الارجح، «ارتجت» المدينة كلها؛ فالاخبار تنتشر بسرعة في تلك المنطقة الصغيرة نسبيا. — مت ٢١:١٠.
وخلال الوقت المتبقي ليسوع، الذي كان يقضي فيه نهاره في اورشليم وليله في بيت عنيا (لو ٢١:٣٧، ٣٨)، طهر منطقة الهيكل من التجار (مت ٢١:١٢، ١٣) كما سبق ان فعل قبل ثلاث سنوات. (يو ٢:١٣-١٦) وفي ١١ نيسان القمري كان مع اربعة من تلاميذه على جبل الزيتون الذي يستطيعون منه رؤية المدينة وهيكلها، وهناك تفوه بنبوته العظيمة المتعلقة بدمار اورشليم الوشيك، «اختتام نظام الاشياء»، وحضوره. (مت ٢٤؛ مر ١٣؛ لو ٢١) وفي ١٣ نيسان القمري رتب بطرس ويوحنا لتناول طعام الفصح في علية في اورشليم حيث احتفل يسوع مع تلاميذه بالفصح في ذلك المساء (بداية ١٤ نيسان القمري). وبعد مناقشة دارت بينهم غادروا المدينة وعبروا «وادي قدرون»، ثم صعدوا منحدرات جبل الزيتون حتى وصلوا الى البستان الذي يُدعى جتسيماني. (مت ٢٦:٣٦؛ لو ٢٢:٣٩؛ يو ١٨:١، ٢) يعني جتسيماني «معصرة زيت»، ولا تزال توجد اشجار زيتون معمِّرة حتى الآن على المنحدر هناك. ولكن تحديد موقع البستان اليوم يعتمد فقط على التخمين. — انظر «جَتْسِيمَانِي».
بعد ان اعتُقل يسوع في تلك الليلة، أُعيد الى اورشليم وأُخذ الى الكاهنين حنان وقيافا وإلى قاعة السنهدريم ليحاكم. (مت ٢٦:٥٧–٢٧:١؛ يو ١٨:١٣-٢٧) ومن هناك أُخذ، عند الفجر، الى بيلاطس في «قصر الحاكم» (مت ٢٧:٢؛ مر ١٥:١، ١٦) ومن ثم الى هيرودس انتيباس الذي كان ايضا في اورشليم آنذاك. (لو ٢٣:٦، ٧) وأخيرا أُعيد الى بيلاطس لإصدار الحكم الاخير عند «بلاط الحجر»، الذي يُدعى «جباثا» بالعبرانية. — لو ٢٣:١١؛ يو ١٩:١٣؛ انظر «بلاط الحجر».
كانت الجلجثة التي تعني «[موضع] الجمجمة» المكان الذي عُلق فيه يسوع على خشبة. (مت ٢٧:٣٣-٣٥؛ لو ٢٣:٣٣) ومع انه كان دون شك خارج اسوار المدينة، نحو الشمال على الارجح، لا يمكن تحديد موقعه اليوم على وجه اليقين. (انظر «جُلْجُثة».) ويصح الامر نفسه في موقع قبر يسوع. — الصور في المجلد ٢، ص ٩٤٨ (بالانكليزية).
اما «حقل الخزاف لدفن الغرباء» الذي اشتُري بمال الرشوة الذي اعاده يهوذا ملقيا اياه امام الكهنة (مت ٢٧:٥-٧)، فيقع اليوم، كما يذكر التقليد، على المنحدر الجنوبي لوادي هنوم قرب التقائه بوادي قدرون. وقد اكتُشفت قبور كثيرة في تلك المنطقة. — انظر «حَقِل دَما».
خلال الفترة الرسولية: امر يسوع تلاميذه بعد قيامته الا يغادروا اورشليم في ذلك الوقت. (لو ٢٤:٤٩؛ اع ١:٤) وبقاؤهم فيها كان سيشكل الانطلاقة للكرازة بالتوبة لمغفرة الخطايا باسم المسيح. (لو ٢٤:٤٦-٤٨) وبعد عشرة ايام من صعوده الى السماء اجتمع التلاميذ معا في علية، وهناك مسحوا بروح قدس. (اع ١:١٣، ١٤؛ ٢:١-٤) وكانت اورشليم مكتظة باليهود والمهتدين من كل انحاء الامبراطورية الرومانية الآتين للاحتفال بعيد الخمسين. وأدت الشهادة التي قدمها المسيحيون الممتلئون من الروح الى صيرورة الآلاف تلاميذ معتمدين. وإذ شهد الآلاف بإيمانهم ليس مدهشا ان يصرخ القادة الدينيون بغضب قائلين: «ها انكم قد ملأتم اورشليم بتعليمكم». (اع ٥:٢٨) وقد زادت العجائب التي أُنجزت من قوة الشهادة، وأحد الامثلة هو شفاء المقعد المتسول عند «باب الهيكل الذي يدعى الجميل»، على الارجح البوابة الشرقية لساحة النساء. — اع ٣:٢، ٦، ٧.
حتى بعد ان ابتدأت الشهادة تنتشر خارج اورشليم الى «السامرة وإلى اقصى الارض» (اع ١:٨)، بقيت اورشليم مقر الهيئة الحاكمة للجماعة المسيحية. فكان الاضطهاد قد تسبب في ‹تبديد الجميع في مناطق اليهودية والسامرة، ما عدا الرسل›. (اع ٨:١؛ قارن غل ١:١٧-١٩؛ ٢:١-٩.) ومن اورشليم، أُرسل بعض الرسل والتلاميذ ليساعدوا جماعات المؤمنين، كتلك التي في السامرة. (اع ٨:١٤؛ ١١:١٩-٢٢، ٢٧) وسرعان ما وجد شاول الطرسوسي (بولس) انه من المستحسن ان يختصر رحلته الاولى الى اورشليم كمسيحي بسبب محاولات قتله. (اع ٩:٢٦-٣٠) لكن كانت هنالك ايضا فترات من الهدوء. (اع ٩:٣١) وفي اورشليم اخبر بطرس الجماعة المسيحية عن قبول اللّٰه للمؤمنين الامم، كما بُتت في اورشليم ايضا مسألة الختان ومسائل اخرى ذات علاقة. — اع ١١:١-٤، ١٨؛ ١٥:١، ٢، ٢٢-٢٩؛ غل ٢:١، ٢.
كان يسوع قد دعا اورشليم «قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين اليها». (مت ٢٣:٣٧؛ قارن الاعداد ٣٤-٣٦.) ومع ان الكثير من المواطنين هناك اعربوا عن الايمان بابن اللّٰه، استمرت المدينة ككل باتباع المسلك الماضي. لذلك ‹تُرك بيتها لها›. (مت ٢٣:٣٨) وفي سنة ٦٦ بم اشتعلت ثورة يهودية، فأتت الجيوش الرومانية بقيادة سستيوس ڠالوس الى المدينة وحاصروها واقتحموها متوغلين حتى اسوار الهيكل. ثم انسحب سستيوس ڠالوس فجأة دون اي سبب واضح. ففسح ذلك المجال امام المسيحيين للعمل بموجب ارشادات يسوع: «حينئذ ليبدإ الذين في اليهودية بالهرب الى الجبال، والذين في وسط [اورشليم] فليغادروا، والذين في المناطق الريفية فلا يدخلوها». (لو ٢١:٢٠-٢٢) يذكر اوسابيوس في التاريخ الكنسي (٣، ٥، ٣) ان المسيحيين هربوا من اورشليم ومن كل انحاء اليهودية الى مدينة في پيريا كانت تدعى پيلّا.
لكن ارتياح اورشليم من جراء انسحاب الرومان كان قصير الامد، كما كانت الحال عندما انسحب مؤقتا البابليون لمعالجة الوضع مع المصريين في اواخر حكم الملك صدقيا. فقد عادت الجيوش الرومانية بأعداد غفيرة بقيادة تيطس سنة ٧٠ بم وحاصرت المدينة التي كانت مكتظة بالمحتفلين بالفصح. وبنى الرومان سواتر وأقاموا سورا، او سياجا، متصلا يحيط بالمدينة كلها لمنع الهروب نهارا او ليلا. وهذا ايضا كان اتماما لنبوة يسوع. (لو ١٩:٤٣) اما داخل المدينة فتنازعت وتحاربت الاحزاب المتنافسة، وأُتلف معظم مخزون الطعام، والذين قُبض عليهم وهم يحاولون الهرب من المدينة ذبحوا باعتبارهم خائنين. يروي يوسيفوس، الذي هو مصدر هذه المعلومات، ان المجاعة اشتدت على مر الوقت الى حد ان الناس اكلوا حفنات من التبن والجلد، حتى انهم اكلوا اولادهم. (قارن مرا ٢:١١، ١٢، ١٩، ٢٠؛ تث ٢٨:٥٦، ٥٧.) ورفض قادة المدينة العنيدون كل عروض تيطس من اجل السلام.
اخيرا، ثغر الرومان الاسوار الواحد تلو الآخر واجتاحت جيوشهم المدينة. (الصورة في المجلد ٢، ص ٧٥٢ [بالانكليزية]) وبخلاف الاوامر، أُحرق الهيكل ودمر. وبحسب يوسيفوس، حدث ذلك في نفس التاريخ الذي دمر فيه نبوخذنصر الهيكل الاول قبل قرون. وتذكر روايته ايضا ان موضع الارشيف الذي حُفظت فيه سجلات سلاسل نسب الاسباط والعشائر وحقوق الميراث قد أُحرق بالنار. (الحرب اليهودية، ٦:٢٥٠، ٢٥١ [٤:٥]؛ ٢:٤٢٦-٤٢٨ [١٧:٦]؛ ٦:٣٥٤ [٦:٣]) وهكذا زالت الوسيلة القانونية لإثبات سلسلة نسب اعضاء سبط يهوذا المسياني وسبط لاوي الكهنوتي.
فُتحت المدينة في مجرد ٤ اشهر و ٢٥ يوما، من ٣ نيسان الى ٣٠ آب سنة ٧٠ بم. لذلك كانت المحنة، رغم شدتها، قصيرة للغاية. ولا شك ان مواقف وأعمال اليهود العديمة التعقل داخل المدينة ساهمت في تقصير الفترة. ومع انه وفقا ليوسيفوس بلغ عدد الموتى ٠٠٠,١٠٠,١، فقد كان هنالك ناجون. ومعظم الاسرى السبعة والتسعين ألفا أُرسلوا عبيدا الى مصر، او قتلوا بالسيف او اكلتهم الوحوش في مسارح الاقاليم الرومانية. وهذا ايضا كان اتماما للنبوة الالهية. — تث ٢٨:٦٨.
دُمرت المدينة بكاملها، ولم يبقَ منها سوى ابراج قصر هيرودس وجزء من السور الغربي الذي بقي قائما ليبرهن للاجيال القادمة ان دفاعات المدينة القوية لم تنفعها بشيء. ويقول يوسيفوس انه عدا هذه البقايا، «دُمر ما تبقى من السور المحيط بالمدينة تدميرا كاملا بحيث لم يترك للزائرين المقبلين اي اساس للاعتقاد بأن هذا الموقع كان يوما ما آهلا بالسكان». (الحرب اليهودية، ٧:٣ [١:١]) وثمة نقش على قوس تيطس في روما يصور الجنود الرومان حاملين الآنية المقدسة من الهيكل المدمر. — قارن مت ٢٤:٢؛ الصورة في المجلد ٢، ص ٧٥٢ (بالانكليزية).
في الفترات اللاحقة: بقيت اورشليم خربة فعليا حتى سنة ١٣٠ بم تقريبا، عندما امر الامبراطور هادريان ببناء مدينة جديدة تُدعى إيليا كاپيتولينا. وقد اثار ذلك ثورة يهودية بزعامة بار كوخبا (١٣٢-١٣٥ بم) نجحت لبعض الوقت لكنها قُمعت بعد ذلك. ولم يُسمح لليهود بدخول المدينة التي بناها الرومان طوال قرنين تقريبا. وفي القرن الرابع، زارت هيلانة، والدة قسطنطين الكبير، اورشليم وابتدأت تحدد المواقع العصرية للاماكن العديدة المعروفة بالاماكن مقدسة. لاحقا، استولى المسلمون على المدينة. ويوجد اليوم بناءان اسلاميان في جبل الهيكل. وفي اواخر القرن السابع بنى الخليفة عبد الملك بن مروان قبّة الصخرة فوق موقع الهيكل او بالقرب منه. ومع انها تُدعى ايضا مسجدا، فهي في الواقع احد المواقع التي لها قداسة خاصة عند المسلمين. وإلى الجنوب من قبّة الصخرة يوجد المسجد الاقصى الحالي الذي شُيد نحو بداية القرن السابع فوق موقع بناء سابق.
من اجل معلومات اضافية عن المواقع الجغرافية المتعلقة بأورشليم، انظر مقالات مثل: «عين رُوجَل»؛ «قِدْرُون، وادي»؛ «مَكْتِيش»؛ «الزيتون، جبل»؛ «عُوفَل»؛ «الهيكل»؛ و «صِهْيَوْن».
اهميتها: كانت اورشليم اكثر بكثير من مجرد عاصمة لأمة ارضية. فقد كانت المدينة الوحيدة في كل الارض التي جعل يهوه اللّٰه اسمه فيها. (١ مل ١١:٣٦) وبعد ان نُقل الى هناك تابوت العهد، الذي يقترن به حضور اللّٰه، وبالاكثر عندما بُني هناك مقدس الهيكل، او بيت اللّٰه، صارت اورشليم «مسكن» او «مكان راحة» يهوه المجازي. (مز ٧٨:٦٨، ٦٩؛ ١٣٢:١٣، ١٤؛ ١٣٥:٢١؛ قارن ٢ صم ٧:١-٧، ١٢، ١٣.) ولأن الملوك المتحدرين من سلالة داود كانوا ممسوحي اللّٰه ويجلسون على «عرش يهوه» (١ اخ ٢٩:٢٣؛ مز ١٢٢:٣-٥)، دُعيت اورشليم ايضا «عرش يهوه». والعشائر والامم الذين يلتفتون اليها معترفين بسلطان يهوه كانوا في الحقيقة يُجمعون الى اسم يهوه. (ار ٣:١٧؛ مز ١٢٢:١-٤؛ اش ٢٧:١٣) اما الذين يعادونها ويحاربونها فكانوا في الواقع يقاومون التعبير عن سلطان اللّٰه. وهذا كان لا بد ان يحصل نظرا الى النبوة في التكوين ٣:١٥.
اذًا، مثلت اورشليم عرش الحكومة المؤسسة الهيا او مملكة اللّٰه النموذجية. ومنها كانت تخرج شريعة اللّٰه، كلمته، وبركته. (مي ٤:٢؛ مز ١٢٨:٥) والذين كانوا يعملون لأجل سلام اورشليم وخيرها انما عملوا لأجل إنجاح قصد اللّٰه البار، وتحقيق مشيئته. (مز ١٢٢:٦-٩) ومع ان اورشليم كانت تقع بين جبال يهوذا وتتمتع دون شك بمنظر رائع، فشموخها وجمالها الحقيقيان اتيا من الطريقة التي بها كرمها ومجدها يهوه اللّٰه بحيث كانت «تاج جمال» بالنسبة اليه. — مز ٤٨:١-٣، ١١-١٤؛ ٥٠:٢؛ اش ٦٢:١-٧.
وبما ان المخلوقات الذكية هي التي تقوم بشكل رئيسي بتسبيح يهوه وفعل مشيئته، لم يكن استخدام يهوه المستمر للمدينة يعتمد على الابنية بل على الشعب الذي فيها، حكاما ومحكومين، كهنة وشعبا. (مز ١٠٢:١٨-٢٢؛ اش ٢٦:١، ٢) وما دام هؤلاء امناء ويكرمون اسم يهوه بكلامهم ومسلك حياتهم، كان يهوه يبارك اورشليم ويحامي عنها. (مز ١٢٥:١، ٢؛ اش ٣١:٤، ٥) لكن مسلك الارتداد الذي تبعته الاغلبية سرعان ما خسَّر الشعب وملوكهم رضى يهوه. لذلك اعلن يهوه عزمه على رفض المدينة التي حملت اسمه. (٢ مل ٢١:١٢-١٥؛ ٢٣:٢٧) وأراد ان ينزع «السند والركن» من المدينة، مما يؤدي الى تفشي الاستبداد وجناح الاحداث وعدم احترام الرجال ذوي المكانة المكرمة. فكانت اورشليم ستعاني الاحتقار والاذلال الشديد. (اش ٣:١-٨، ١٦-٢٦) ورغم ان يهوه اللّٰه رد المدينة بعد ٧٠ سنة من سماحه للبابليين بتدميرها، جاعلا اياها من جديد جميلة بصفتها مركز العبادة الحقة في الارض (اش ٥٢:١-٩؛ ٦٥:١٧-١٩)، عاد الشعب وقادتهم الى مسلك ارتدادهم مرة اخرى.
حافظ يهوه على المدينة حتى ارسل ابنه الى الارض. فكان يجب ان تبقى لكي تتم النبوات المسيانية. (اش ٢٨:١٦؛ ٥٢:٧؛ زك ٩:٩) وبلغ مسلك ارتداد اسرائيل ذروته عند تعليق المسيا، يسوع المسيح، على خشبة. (قارن مت ٢١:٣٣-٤١.) وقد حدث ذلك في اورشليم بتحريض من قادة الامة وبدعم الشعب، مما جعل رفض اللّٰه التام والقاطع لأورشليم بصفتها المدينة التي تمثله وتحمل اسمه امرا اكيدا. (قارن مت ١٦:٢١؛ لو ١٣:٣٣-٣٥.) ولم ينبئ يسوع او رسله بأي رد لأورشليم الارضية وهيكلها بعد ان حكم اللّٰه بدمارها الذي حدث سنة ٧٠ بم.
لكنّ اسم اورشليم لا يزال يُستخدم كرمز لشيء اعظم من المدينة الارضية. فقد كشف الرسول بولس، بوحي الهي، ان هنالك ‹اورشليم عليا› وقال انها «ام» المسيحيين الممسوحين. (غل ٤:٢٥، ٢٦) وهذا يضع «اورشليم العليا» في مركز الزوجة ليهوه اللّٰه، الأب العظيم ومعطي الحياة. وعندما كانت اورشليم الارضية المدينة الرئيسية لأمة اللّٰه المختارة، جرى التحدث عنها هي ايضا كامرأة متزوجة من اللّٰه، اذ كانت مرتبطة به بروابط مقدسة وتنعم بعلاقة عهد معه. (اش ٥١:١٧، ٢١، ٢٢؛ ٥٤:١، ٥؛ ٦٠:١، ١٤) وبالتالي كانت تشير الى، او تمثل، كامل جماعة خدام اللّٰه البشر. لذلك لا بد ان «اورشليم العليا» تمثل كامل جماعة خدام اللّٰه الروحانيين الاولياء.
اورشليم الجديدة: في سفر الرؤيا الموحى به، يدون الرسول يوحنا معلومات عن «اورشليم الجديدة». (رؤ ٣:١٢) فيرى يوحنا في رؤياه هذه «المدينة المقدسة . . . نازلة من السماء من عند اللّٰه مهيأة كعروس مزينة لعريسها». وهذه الصورة مرتبطة بالرؤيا التي رآها عن ‹سماء جديدة وأرض جديدة›. وقد قيل عن هذه «العروس» انها «امرأة الحمل». (رؤ ٢١:١-٣، ٩-٢٧) تطبق كتابات رسولية اخرى الصورة البيانية نفسها على الجماعة المسيحية المؤلفة من الممسوحين. (٢ كو ١١:٢؛ اف ٥:٢١-٣٢) وفي الرؤيا الاصحاح ١٤، يُصور «الحمل» يسوع المسيح واقفا على جبل صهيون، وهو اسم مرتبط ايضا بأورشليم (قارن ١ بط ٢:٦)، ومعه ٠٠٠,١٤٤ لهم اسمه واسم ابيه مكتوبا على جباههم. — رؤ ١٤:١-٥؛ انظر «اورشليم الجديدة».
اورشليم الخائنة: بما ان الكثير مما يُقال عن اورشليم في الاسفار المقدسة مرتبط بإدانتها، فمن الواضح انها فقط عندما كانت امينة رمزت الى هيئة يهوه السماوية، وأحيانا الى الجماعة المسيحية «اسرائيل اللّٰه». (غل ٦:١٦) وعندما كانت خائنة، صُورت كامرأة بغي وزانية؛ وصارت كالاموريين والحثيين الوثنيين الذين سيطروا عليها ذات مرة. (حز ١٦:٣، ١٥، ٣٠-٤٢) وفي هذه الحالة لا يمكنها ان تمثل الا المرتدين الذين يتبعون مسلك ‹البغاء›، اي خيانة اللّٰه الذي يدعون انهم يحملون اسمه. — يع ٤:٤.
وهكذا يمكن ان يُرى اكثر من مدلول لـ «اورشليم»، لذلك يجب اخذ القرينة بعين الاعتبار لنيل الفهم الصحيح. — انظر «الازمنة المعيَّنة للامم».
[الصور]
بروطة برونزية، سُكّت خلال الحرب اليهودية ضد روما، تعلن «حرية صهيون»
سسترس برونزي احياء لذكرى فتح الرومان لليهودية؛ في الامام: الامبراطور فسبازيان؛ في الخلف: «يودايا كاپتا» (اليهودية في الاسر)