ملاوي
اهلا بكم في قلب افريقيا الدافئ! يتمتع هذا البلد بجاذبية كبيرة. فمناخه المعتدل وشعبه الودود يجعله حقا دافئا. وما يجذب الكثيرين خصوصا هو رسالة حق الكتاب المقدس المبهجة للقلب التي يكرز بها اكثر من ٠٠٠,٤٠ شاهد ليهوه اللّٰه.
ولكن قبل وقت غير طويل واجه خدام اللّٰه المتواضعون هؤلاء ضيقا كبيرا. وبدلا من ان يكون جيرانهم اصدقاء لهم، تعرضوا لاضطهاد شديد ولفظائع تذكِّر المرء بالمذابح المنظَّمة التي جرت بحق اليهود، وبمحاكم التفتيش في القرون الوسطى. وسجل اختباراتهم واحتمالهم هو مثال جدير بالملاحظة للاستقامة تحت الشدة. ولكن قبل ان نسرد قصتهم، دعونا نلقي نظرة على هذا البلد.
نظرة الى ملاوي
تمتاز ملاوي بالرغم من كونها بلدا صغيرا جدا بجبالها، انهارها، وبحيراتها الجميلة. ويأسر الالباب بشكل خصوصي جبل مولانجي الذي يقع جنوب البلد. وهو يرتفع من المنخفضات حيث تمتد اراض مخضرّة مزروعة بالشاي ارتفاعا عظيما يصل الى ٠٠٢,٣ مترا (٨٤٩,٩ قدما) فوق سطح البحر، مما يجعله اعلى جبل في هذا الجزء من افريقيا. لكنَّ بحيرة ملاوي التي يبلغ طولها ٥٨٠ كيلومترا (٣٦٠ ميلا) هي على الارجح اشهر الاماكن جاذبية. وقد دعاها المستكشف المشهور دايڤيد ليڤنْڠْستون «بحيرة النجوم» بسبب انعكاس تلألؤ الشمس على سطحها. وفيها مئات الانواع من السمك — اذ يوجد فيها، كما يقال، اكثر مما يوجد في اية بحيرة ماء عذبة اخرى في العالم.
ومودة سكان ملاوي البالغ عددهم ١١ مليونا هي مصدر انعاش. فابتساماتهم عريضة ودافئة، ولديهم توق الى المساعدة. والمحبة لكلمة اللّٰه واضحة ايضا. فالكتاب المقدس متوفر منذ مئة سنة تقريبا بلغات تْشيتشايوا، ياو، وتمبوكا، اللغات الرئيسية التي يُنطق بها في ملاوي. وتملك كل اسرة تقريبا نسخة منه على الاقل، ويقرأه كثيرون قانونيا. ومعظم الملاويين فقراء ماديا، ولكنَّ البعض وجدوا بقبولهم مساعدة شهود يهوه غنى روحيا عظيما في صفحات كتبهم المقدسة.
يعود نشاط شهود يهوه في ملاوي الى اوائل هذا القرن. وقد تعرَّف الناس به هنا بطريقة مثيرة الى حد ما.
‹كالنار في الهشيم›
تبدأ قصتنا مع جوزيف بوث، شخصية ممتعة ولكن مثيرة للجدل. فقد التقى ت. ت. رصل سنة ١٩٠٦ بعد ان اشعلت فيه الحماسة قراءة بعض مطبوعات جمعية برج المراقبة. وأقنع الاخ رصل بالحاجة الى ممثِّل لجمعية برج المراقبة في افريقيا الجنوبية. وبما ان جوزيف بوث عمل من قبل في ملاوي، او نياسالَند كما كانت تدعى آنذاك، بدا ان خدمته قد تكون قيِّمة. لكنَّ الاخ رصل لم يكن يعرف سمعة هذا الرجل الرديئة في ذلك الجزء من العالم. فقد كان يُعرف كما وصفه احد الكتبة لاحقا بـ «الاستغلالي الديني»، الذي يستخدم طائفة تلو الاخرى في العالم المسيحي لكي يحقق اهدافه. ولذلك لم يكن محبوبا لدى السلطات المحلية حتى انه لم يعد مرحَّبا به في ملاوي. لكن، مرة ثانية، نجح هذا «الاستغلالي» ذو الخبرة في استغلال دين آخر!
وإذ كان بوث يعلم انه لا يمكنه التوجه مباشرة الى ملاوي، اسس اولا قاعدة في جنوب افريقيا. وهناك التقى إيليوت كَمْوانا، احد معارفه القدماء من ملاوي. وسرعان ما اوصى بوث هذا الشاب ان يعود الى الوطن. وعندما وصل إيليوت كَمْوانا سنة ١٩٠٨ ابتدأ حملة كرازية علنية شارحا كما يحلو له بعض مطبوعات جمعية برج المراقبة. وفي ذلك الوقت تعرَّف ماكوفي نْڠولو لأول مرة بالحق. ومات شيخا امينا قبل بضع سنوات. وقد وصف كرازة كَمْوانا بأنها «نار في الهشيم». فتأثير كرازة كَمْوانا، بمعمودياته المثيرة في الهواء الطلق، انتشر بسرعة في ملاوي كاندلاع حريق في الغابة. فتجاوب الآلاف، وسرعان ما تأسست «جماعات» كثيرة.
ولكن لم يترك بوث ولا كَمْوانا قط «بابل العظيمة». (كشف ١٧:٥؛ ١٨:٤) فقد كانت اهدافهما في الواقع سياسية. وسرعان ما اثارت اساليب إيليوت كَمْوانا الكرازية المشكوك فيها ريبة السلطات الحكومية في ملاوي. ولم يمضِ وقت طويل حتى أُبعد الى سايشل. وبحلول سنة ١٩١٠ رحل جوزيف بوث ايضا ولم يعد يعاشر جمعية برج المراقبة. من المؤسف ان هذين الرجلين اضرَّا اكثر مما نفعا، ولكن كان هنالك وجه واحد يشفع لهما: لقد وزِّعت مطبوعات كثيرة تحتوي على حق الكتاب المقدس في انحاء البلد. وخلال السنوات القليلة التالية تجاوب المستقيمو القلوب، مثل ماكوفي نْڠولو، بشكل مؤاتٍ مع ما قرأوه.
«حركات برج المراقبة» تحدث تشويشا
بعد هذه البداية غير المرضية في ملاوي، ارسلت الجمعية وليَم جونستون، اخ كفؤ من ڠلاسكو في اسكتلندا، ليتحقق الامر. فوجد ان الكثير مما يدعى جماعات قد تأسس، لكنَّ فهمهم لحق الكتاب المقدس كان محدودا. الا انه كان هنالك بعض طالبي الحق المخلصين. ومنهم درَّب الاخ جونستون رجالا محليين قليلين ليأخذوا القيادة قبل انتقاله الى جنوب افريقيا. ثم مرّت فترة طويلة قبل ان يُمنح العمل في ملاوي مزيدا من الانتباه. غير ان تشويشا هائلا نشأ مسببا العداء لتلاميذ الكتاب المقدس، كما كان شهود يهوه يدعون آنذاك، وممتحنا استقامتهم.
تمثلا بنهج إيليوت كَمْوانا الجذاب، برزت حركات كثيرة مزجت بعض حقائق الكتاب المقدس بالعقائد الباطلة والممارسات غير المؤسسة على الاسفار المقدسة. ولأن هذه الحركات استخدمت مطبوعات برج المراقبة الى حد ما، كثيرا ما كانوا يقحمون برج المراقبة في اسمهم. فسبَّب ذلك مشاكل لاخوتنا المخلصين القليلين في البلد. والجدير بالملاحظة ان نشاط هؤلاء الاخوة المخلصين لم يتلاش كليا رغم افتقارهم الى الاشراف اللائق والطعام الروحي الضروري. لكنهم استمروا في الاجتماع معا وفي الشهادة للآخرين، وسعوا الى اتِّباع خطوات يسوع المسيح. — ١ بطرس ٢:٢١.
وإذ استغل القادة الدينيون المحليون الوضع افتروا على تلاميذ الكتاب المقدس بجعلهم باطلا في مصاف الحركات التي انتحلت اسم برج المراقبة. ولكن على مرّ الوقت، صار الفرق بين هذه البدع المحلية وإخوتنا واضحا جدا. والتقارير المقلقة من بعض اعضاء رجال دين العالم المسيحي دفعت المفوَّض الاول في الشرطة الى فتح تحقيق في اوائل عشرينات الـ ١٩٠٠. وقد حضر شخصيا متنكرا عدة اجتماعات لتلاميذ الكتاب المقدس. فماذا كان رد فعله؟ اشمأز من الاكاذيب المؤذية المنتشرة عنهم. ومع ذلك استمر التشويش الذي سببته «حركات برج المراقبة» المزيفة هذه سنوات عديدة.
تنظيم العمل
في سنة ١٩٢٥ حوَّلت الجمعية مرة اخرى انتباهها الى ملاوي. فقضى جون هادسون ١٥ شهرا في البلد، ملقيا خطابات في الجماعات. وحاول مساعدة اخوتنا ان يقدِّروا اهمية البقاء على اتصال بجمعية برج المراقبة، التي يستخدمها «العبد الامين الفطين»، وقبول قيادتها وتوجيهها. — متى ٢٤:٤٥-٤٧.
كان جْرِشام كْوازيزيرا من بلدة نتشو احد الذين استفادوا من زيارة الاخ هادسون الى ملاوي. وفي السنة نفسها التي ذهب فيها الاخ هادسون لملاوي، اعتمد جْرِشام. وسرعان ما واجه امتحانا خطيرا. فبتحريض من رجال الدين في كنيسته السابقة، اتُّهم بنشر تعاليم هدامة. ولذلك احتُجز. فماذا كان سيفعل؟ هل كان الخوف سيدفعه الى انكار ايمانه؟ بعد شهر واحد أُسقطت التهم عن الاخ كْوازيزيرا بعد ان حقَّقت معه السلطات الاقليمية وأُطلق سراحه. لكنَّ الاهم من ذلك بكثير هو تصميمه ان يكون وليا ليهوه وهيئته. ويهوه يستخدم اناسا يعربون عن روح كهذه. وبعد فترة من العمل في موزمبيق، تمتع الاخ كْوازيزيرا نفسه بامتيازات كثيرة اذ اشترك في نشر رسالة الملكوت وفي بنيان الجماعات في ملاوي. (انظروا برج المراقبة، ١ تشرين الثاني [نوفمبر] ١٩٧٢، بالانكليزية.)
وتبيَّن ايضا ان زيارة الاخ هادسون كانت حافزا حقيقيا لماكوفي نْڠولو وجونيور پيري. فقد انتقل هذان الاخوان لاحقا الى جنوب افريقيا، حيث خدما بأمانة سنوات طويلة. واستفاد ريتشارد كاليندي ايضا من معاشرته جون هادسون. فقبل ان يغادر الاخ هادسون البلد رتَّب ان يشرف ريتشارد كاليندي على الكرازة بالبشارة حتى تصل مساعدة اضافية.
لكنَّ زيارة الاخ هادسون لم تسعد الجميع. وقد وصف الاخ نْڠولو رد فعل هؤلاء الاشخاص، اذ قالوا: «لن نتعلم من رجال من كَيپ تاون. سنفعل ما نعتقده نحن انه صائب». ولأنهم لم يرغبوا في قبول توجيه الجمعية اسسوا «حركات برج المراقبة» الخاصة بهم. ولكن من جهة اخرى، اظهر طالبو الحق المخلصون موقفا اكثر اتضاعا. فقد بقوا على اتصال بمكتب الجمعية في جنوب افريقيا وأظهروا التقدير للارشاد والتوجيه المزوَّدَين بواسطة هذه القناة. وسرعان ما اتضح للفرع هناك ان هذه النواة الصغيرة من المهتمين المخلصين تحتاج الى المزيد من المساعدة.
ممثِّل دائم في البلد
حصلت حادثة مثيرة في تاريخ شهود يهوه في ملاوي سنة ١٩٣٣. فقد قُدِّم طلب لتحصل جمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس على ممثِّل دائم في البلد. وقال الحاكم انه «يرحِّب بمثل هذه الخطوة»، وقَبِل الطلب. اخيرا صار بالامكان صنع ترتيبات لمواصلة الكرازة بالبشارة في ملاوي على اساس ثابت اكثر. لذلك، وتحت توجيه الفرع في جنوب افريقيا، تأسس مستودع مطبوعات مع مكتب في ايار (مايو) ١٩٣٤، والمشرف على العمل بيرت مَكْلَكي.
كان الاخ مَكْلَكي الذي اعتمد سنة ١٩٣٠ لا يزال جديدا نوعا ما في الحق. لكنه اظهر انه فاتح فعَّال جدا في تعيينَيه السابقَين في مدغشقر وموريشيوس. وعند وصوله الى ملاوي وجد بيتا صغيرا من غرفتين في العاصمة زومبا، جنوب البلد. فاستُعملت احدى الغرفتين كمستودع مطبوعات ومكتب؛ والاخرى للمنامة. وقد وصف الاخ مَكْلَكي، الذي كان عازبا آنذاك، هذا التعيين الجديد بأنه تعيين فريد «يجلب مسؤولية اكبر من ذي قبل».
كان ريتشارد كاليندي عونا كبيرا له اذ صار رفيقه اللصيق. وقد كانت المهمة الرئيسية في البداية ازالة التشويش الذي اعترى اخوتنا بسبب وجود «حركات برج المراقبة» الزائفة. وتبيَّن انها لم تكن صعبة كما كان متوقعا. فقد ادرك معظم الرسميين ان البدع المحلية لا علاقة لها بجمعية برج المراقبة الحقيقية. واضافة الى ذلك، اعطى المكتب في جنوب افريقيا بيرت مَكْلَكي خطوطا ارشادية واضحة حول كيفية معالجة المسألة. وإذ اتَّبعها زار فريقا تلو الآخر في كل انحاء ملاوي، يرافقه الاخ كاليندي كمترجم له. وقد ساعدت هذه الزيارات للجماعات الكثيرين ان يتوقفوا عن دعم «حركات برج المراقبة» الزائفة وقادتها.
صارت بركة يهوه واضحة بتأسيس هيئة ثيوقراطية ثابتة اخيرا. وجُمعت ايضا لاول مرة تقارير خدمة الحقل. وفي سنة ١٩٣٤ اظهرت هذه التقارير معدلا من ٢٨ ناشرا.
تعيين جديد في مستودع زومبا
بعد ان عمل بيرت مَكْلَكي في ملاوي نحو سنة، استُدعي الى جنوب افريقيا. وفي ما بعد استمر في خدمة يهوه بولاء في انحاء اخرى من افريقيا الجنوبية لاكثر من ٦٠ سنة قبل موته سنة ١٩٩٥. فحلّ محله في ملاوي عضو آخر من عائلة مَكْلَكي، وهو اخوه بيل.
كان بيل مَكْلَكي قبل ذلك فاتحا في جنوب افريقيا، مع انه لم يكن قد اعتمد بعد. فسأل جورج فيليپس، خادم الفرع في جنوب افريقيا، بيل عما اذا كان يرغب في قبول تعيين في ملاوي. وعندما قَبِل قيل له: «طبعا عليك ان تعتمد اولا». فاعتمد بيل ووصل الى مستودع زومبا في آذار (مارس) ١٩٣٥. وكان عمره ٢٦ سنة. وقد برهن هذا الاخ الامين عن استقامته في ملاوي تحت الكثير من الشدائد حتى ترحيله سنة ١٩٧٢.
كيف كان الامر في تلك الايام الباكرة؟ لا يزال بيل مَكْلَكي البالغ من العمر ٩٠ سنة عام ١٩٩٨ والذي يعيش في جنوب افريقيا مع عائلته يتذكر ضيق ذلك المستودع في زومبا. قال: «لم تكن غرفة النوم اكبر من موقد [٤,١ مترا (٤ اقدام و ٦ انشات)]. وكانت ايضا سيئة التهوية، لذلك كنت أُبقي النوافذ مفتوحة مساء الى ان اطلَّ شرطي برأسه من النافذة ذات مساء وقال: ‹بْوانا [سيدي]، من الافضل ان تغلق هذه النوافذ، لأن النمور تجول في هذه الشوارع مساء›. فأغلقتها».
رغم الظروف العصيبة تبين انه من الافضل ان يكون المستودع في العاصمة. فبوجود مكاتب الحكومة ومركز الشرطة الرئيسي في الجوار، كان بإمكان الاخ مَكْلَكي ان يرد بسرعة على اية تهم تُوجَّه الى الجمعية بسبب التشويش المستمر بين شهود يهوه و «حركات برج المراقبة» الزائفة. وقد عمل بيل مَكْلَكي بصبر مع المسؤولين ليزيل اية اساءات فهم، كما فعل اخوه قبله. وصار شهود يهوه يتمتعون بسمعة جيدة.
تنظيف الهيئة
عمل بيل مَكْلَكي بكد مع الاخوة لبنيان التقدير لمقاييس يهوه المذكورة في الكتاب المقدس. وشمل هذا مساعدة الاخوة ان يفهموا ان الممارسات غير المؤسسة على الاسفار المقدسة مثل الفساد الادبي الجنسي، الارواحية، واساءة استعمال الكحول لا مكان لها في حياة شهود يهوه. (١ كورنثوس ٦:٩، ١٠؛ كشف ٢٢:١٥) وكان جْرِشام كْوازيزيرا ذا عون قيِّم في هذا العمل. فقد خدم على نطاق واسع في العمل الجائل، وخصوصا في شمال البلد. ووصفه الاخ مَكْلَكي بأنه «شخص ناضج ومستقيم». وصار الاخ كْوازيزيرا معروفا بدعمه الولي في كل الاوقات لمقاييس الكتاب المقدس البارة. فكلما كان الاخ كْوازيزيرا يصادف اشخاصا متورطين في سلوك فاسد ادبيا وهم يدَّعون انهم يخدمون يهوه، كان يواجههم بجرأة. فاذا اعترفوا بسلوكهم غير المسيحي كان يأخذ مطبوعاتهم ويخبرهم بأنهم ليسوا شهودا ليهوه حقيقيين. وكان ايضا يمنعهم من الاستمرار في خدمة الحقل. ونتيجة لهذا التصرف الثابت نظَّف كثيرون حياتهم. والاخ كْوازيزيرا هو الذي اخبر بأسف بأن ريتشارد كاليندي تبنّى ممارسات لا تنسجم مع طريقة الحياة المسيحية. وهكذا لم يعد هذا الاخ الذي كان غيورا في ما مضى يمثِّل هيئة يهوه النظيفة.
بسبب هذا الموقف الثابت المتعلق بمقياس الكتاب المقدس الادبي السامي، صار شهود يهوه معروفين بأنهم اناس مستقيمون. وكثيرا ما برهن ذلك انه حماية لهم.
وصارت بركة يهوه على الهيئة النظيفة واضحة اذ ازداد عدد الذين يسبِّحونه بنشاط. فبحلول سنة ١٩٤٣ كان معدل الناشرين الشهري ٤٦٤,٢ شخصا مقترنين بـ ١٤٤ جماعة — زيادة رائعة من مجرد ٢٨ ناشرا قبل عشر سنوات!
ملاوي تستيقظ
خلال سنة ١٩٤٤ كانت العبارة «العالم الجديد»، التي كانت تتكرر في مطبوعات برج المراقبة، تجذب سكان ملاوي كثيرا. وكما هو موضَّح في هذه المطبوعات، فهي تشير الى نظام يهوه الجديد للاشياء — مجتمع بشري جديد يحكمه ملكوت اللّٰه السماوي تحت اشراف يسوع المسيح. (دانيال ٧:١٣، ١٤؛ ٢ بطرس ٣:١٣) وقد اظهرت هذه المطبوعات، حسب الكتاب المقدس، انه في العالم الجديد ستصير الارض فردوسا؛ سيعيش البشر في سلام مع الحيوانات؛ ستتوقف الحروب؛ ستكون خيرات الارض متوفِّرة للجميع؛ لن يكون هنالك مرض ولا موت في ما بعد؛ وحتى الموتى سيقامون ويُمنحون فرصة العيش الى الابد. — مزمور ٦٧:٥، ٦؛ اشعياء ٢:٤؛ ١١:٦-٩؛ لوقا ٢٣:٤٣؛ يوحنا ٥:٢٨، ٢٩؛ كشف ٢١:٣، ٤.
استخدم احد الاخوة، وهو يلقي خطابا حول هذا الموضوع، اسلوبا محليا ليوضح الامر: «عندما اخطأ آدم، لم يكن قد انجب اولادا في الجنة؛ فقد ولدوا كلهم في ‹الحرج›، وما زلنا ايها الاصدقاء في ‹الحرج› ولم نرجع بعد الى الجنة. لكننا على وشك ان نترك هذا العالم الـ ماتيكينيا الملآن بالبراغيث لندخل عالم يهوه الجديد الموطَّد كاملا».
كان للمحاضرات عن عالم اللّٰه الجديد تأثير كبير حتى انه في احد اجزاء البلد، اتَّبع حشد من المهتمين الاخوة من مكان الى آخر مستمعين باهتمام لوعود الكتاب المقدس عن الفردوس. وفي منطقة اخرى، بعد ان سمع عدد من رجال الدين المحليين خطابا عن العالم الجديد، تأثَّروا كثيرا بما تعلَّموه بحيث ذهبوا جماعيا الى مرسل اوروپي وقالوا: «لماذا اخفيت عنا هذه الامور؟ رأينا اليوم احداثا وحدثات يزورون الناس ويخبرونهم اروع ما سمعوه على الاطلاق! أما أنت فقد اعطيتنا عقائد لنكرز بها تبين الآن انها باطلة»!
في سنة ١٩٤٦ تجاوز عدد ناشري الملكوت في ملاوي الـ ٠٠٠,٣ شخص. حقا، لقد ايقظ الاخوة البلد.
طبعا لم تسعد رسالة عالم اللّٰه الجديد الجميع. ففي وقت سابق، كانت الحكومة قد حظرت استيراد مطبوعات برج المراقبة، التي كانت تخبر عن العالم الجديد. ولكن كان لذلك الامر تأثير ضعيف، لأنه كان هنالك مخزون وافر من المطبوعات في البلد. ولابطال تأثير نشاط شهود يهوه، حاول بعض رجال الدين تقليد التعابير والاساليب التي يستعملها الشهود. فادَّعوا: «نحن ايضا نكرز بالعالم الجديد». حتى ان قليلين حاولوا ان يقوموا بزيارات مكررة لاتباعهم، الا انهم سرعان ما استسلموا بعد اسابيع قليلة.
حاول القادة الدينيون ايضا اقناع وجهاء القرى ان يرفضوا السماح لشهود يهوه بأن يكرزوا في مناطقهم. فقد كان مألوفا استئذان وجيه القرية قبل القاء خطاب فيها. ولكن اذا اثَّر القادة الدينيون المحليون في وجيه القرية، فلا يكون ممكنا عقد اجتماع عام هناك.
لكنَّ زعماء قرى كثيرين رحَّبوا بحرارة بشهود يهوه. وكثيرا ما كان الاخوة يتلقون دعوات الى المجيء والقاء خطابات. وقد سمع احد زعماء القرى خطابا في بلدة صغيرة تدعى ليزولو حيث علم بالحالة الحقيقية للموتى. (جامعة ٩:٥؛ حزقيال ١٨:٤) وبُعيد ذلك، حضر مأتما اجراه بعض القادة الدينيين. فقيل للحضور ان الولد الذي مات «هو الآن ملاك في السماء». فانتصب الزعيم العجوز على قدميه مهمهما، والتفت الى وجيه قريته، وطلب منه نشوقا. ثم استنشقه بقوة وترك المأتم وهو يقول: «في ليزولو سمعنا اين هم الموتى. كل هذا اكاذيب»!
زيارة خاصة
حصل امر خصوصي جدا في كانون الثاني (يناير) ١٩٤٨، عندما زار ملاوي ن. ه. نور و م. ج. هنشل، من المركز الرئيسي للجمعية في بروكلين، نيويورك. كانت هذه اول زيارة على الاطلاق يقوم بها اخوة من المركز الرئيسي العالمي. فرُتِّب لاجتماع في مبنى البلدية في بلانتاير من اجل الاوروپيين والهنود الذين يعيشون في المدينة. وبما انه لم يكن هنالك الا ٢٥٠ اوروپيا يعيشون في بلانتاير آنذاك، فقد كان مشجعا حضور ٤٠ شخصا منهم ليسمعوا الخطاب العام. وفي اليوم التالي، حضر الاخوان الزائران محفلا عقد في الهواء الطلق من اجل الاخوة الافريقيين. وعمل الاخ بيل مَكْلَكي، الذي اصبح آنذاك يُتقن التْشيتشايوا، كمترجم. فحضر الخطاب العام بعد الظهر ٠٠٠,٦ شخص. وبما انه لم يكن هنالك اجهزة لتكبير الصوت، كان على الاخوة في البرنامج ان يتكلموا بصوت عالٍ لكي يسمع الجميع. وفي احدى المراحل قطع المطر الغزير الخطاب، وابتدأ العامة يتفرقون للاحتماء بالاشجار او البيوت المجاورة. أما الشهود فقد بقوا وأنهى الاخ نور خطابه وهو يحمل مظلة فوق رأسه. ووقوف هذا الـ مزْونڠو (الرجل الابيض) تحت المطر لينهي خطابه امام حضور افريقي اظهر للعامة ان شهود يهوه يهتمون حقا بخيرهم، فيما الاوروپيون المحليون لا يفعلون ذلك ابدا.
اعطت زيارة الاخوين نور وهنشل زخما هائلا للعمل. ففي تلك السنة، ١٩٤٨، تجاوز عدد الناشرين الـ ٦٠٠,٥ شخص، وكان الجدد ينضمون الى صفوفهم بسرعة فائقة. وفي بعض الاماكن كان من الصعب ايجاد مقاطعة تكفي للشهادة!
عمل الفرع يبدأ
في غضون ذلك، نُقل مستودع الجمعية من زومبا الى بلانتاير، مركز البلد التجاري الذي يقع نحو الجنوب. ثم في ١ ايلول (سبتمبر) ١٩٤٨، بعد ان كان نشاط شهود يهوه في ملاوي تحت اشراف فرع جنوب افريقيا لسنوات طويلة، تأسس مكتب فرع في ملاوي، وكان بيل مَكْلَكي اول خادم للفرع. وصار بالامكان الآن الاهتمام بحاجات الحقل في ملاوي مباشرة باشراف من المركز الرئيسي العالمي.
بحلول ذلك الوقت كان هنالك عدد من الاخوة الناضجين ذوي الخبرة الذين يمكنهم ان يخدموا كخدام دوائر يزورون الجماعات من اجل تشجيع الاخوة. وكانت المحافل الدائرية تعقد مرتين في السنة، وخدم جْرِشام كْوازيزيرا كخادم كورة للبلد كله. وفي المكتب، كان بيل مَكْلَكي كثير الانشغال ايضا، اذ غالبا ما كان يعمل على آلته الكاتبة حتى ساعات الفجر الاولى.
كان لا يزال هنالك الكثير لفعله، وكانت هنالك حاجة الى المزيد من المساعدة. لذلك جرى الترحيب بحرارة بـ پيتر بريدل وفريد سمدلي، متخرِّجان من مدرسة جلعاد الارسالية، عند وصولهما سنة ١٩٤٩. وقدَّما مع غيرهما من متخرجي جلعاد عونا ضروريا جدا لخادم الفرع المثقل بالعمل. والآن صار بالامكان منح المزيد من الانتباه لطريقة عمل الجماعات والمحافل.
«لن انجح ابدا!»
كان المجيء الى ملاوي، وخصوصا آنذاك، يشكِّل تحديا كبيرا لكل من يأتي من اوروپا او اميركا الشمالية. فلم تكن هنالك ايٌّ من وسائل الراحة العصرية التي ربما كان قد اعتادها شخص كهذا هناك. ولا يمكن ايجاد اجهزة كهربائية في الدغل الافريقي. فما يمكن ان يعتبره ابن البلد جزءا طبيعيا من الحياة يمكن ان يضايق الغريب. فكيف يتكيَّف مرسل جديد؟
يقول پيتر بريدل متذكرا انطباعاته الاولى عند وصوله الى ملاوي بعد رحلة مضنية في القطار من مرفإ بيرا في موزمبيق: «عندما وصلنا اخيرا الى نهر شيريه، كان الظلام يحلّ. وكانت الخنافس الكبيرة تحلق حولنا. وقد تجمعت حول المصابيح حتى اخفتها كليا. وكانت تحط على رقبة المرء وتزحف داخل وخارج ثيابه. فقلت ليهوه: ‹لا يمكنني ان اطيق هذا. سيكون هذا اكثر مما استطيع تحمله. لن انجح ابدا!› ثم عبرنا النهر واستقللنا القطار الذي كان في المحطة. كانت اضواؤه خافتة جدا. وسرعان ما ادركت لماذا — لمنع تلك الحشرات من الدخول. قُدِّم لنا الطعام الذي استُهل بالحساء. كنا لا نكاد نرى الشخص الجالس قبالتنا على الطاولة لأن الاضواء كانت خافتة جدا. واذ كنا نحتسي الحساء، كنا نمتصه بين اسناننا لنبقي الحشرات خارجا، فقلت ليهوه: ‹من فضلك، اعتقد ان ذلك اكثر بكثير مما يمكنني تحمله هذه المرة. ولن انجح!›»
وفي رحلة اخرى الى المنطقة نفسها، واجه الاخ بريدل مشاكل عند القائه الخطاب العام. لماذا؟ يوضح: «كان وجود البعوض يفوق التصوُّر. فعندما القيت خطابا ذات مساء، ادخلتُ سروالي تحت جورَبيَّ. وكانت هنالك منشفة على رأسي ادخلتها تحت قميصي. وكان حول كمَّي قميصي شرط مطاطية، بحيث لم يكن يُرى الا يداي ووجهي. القيت الخطاب بوجود مترجم. كنت اقول جملة ثم ازيل البعوض عن وجهي. ثم امسح يديَّ ووجهي ثانية. وعندما ينهي المترجم جملته كنت اذكر جملة اخرى ثم افعل الامر نفسه مجددا».
رغم هذه الاحوال، نجح پيتر بريدل وغيره بمساعدة يهوه. وقد خدم معظم المرسلين الذين عيِّنوا في ملاوي بأمانة سنوات طويلة. وجهودهم من كل النفس جلبت بركات كثيرة للحقل في ملاوي.
المزيد من الاخوة المحليين الناضجين
في غضون ذلك، كان مزيد من الاخوة المحليين يتقدمون نحو النضج المسيحي. وقد استفاد هؤلاء الاخوة ايضا من معاشرة المرسلين. وكان احد هؤلاء الاخوة الكسندر مافَمبانا — ألكس، كما كان يدعى في اغلب الاحيان. وقد كان بارعا جدا. ولد في موزمبيق وهو ابن زعيم، وكان سيصبح خليفة والده. ولكن بعد انتقاله الى جنوب افريقيا بحثا عن عمل، تعرف الكس بشهود يهوه ونال معرفة دقيقة عن حق الكتاب المقدس. واستنتج ان فعل ما كان متوقعا منه كزعيم يشمل المسايرة على حساب المبادئ المسيحية. ولتفادي المشاكل، قرَّر ان يستقر بملاوي. وسرعان ما اصبح الاخ مافَمبانا فاتحا، وبدأ في سنة ١٩٥٢ يساعد في مكتب الفرع في بلانتاير. ومعرفته عدة لغات ساعدت خصوصا في الاهتمام بالرسائل الواردة من الحقل. وسنة ١٩٥٨/١٩٥٩ أُتيحت له الفرصة لحضور مدرسة جلعاد الارسالية، فتخرَّج من الصف الذي ضمّ جاك وليندا يوهانسن، اللذين عيِّنا ايضا في ملاوي.
كِنيث تشيمبازا هو اخ آخر تعلم الحق في جنوب افريقيا. وبعد معموديته هناك سنة ١٩٤٢ عاد الى ملاوي. ولم يمضِ وقت طويل حتى اثبت الاخ تشيمبازا انه كان يُنمي صفات المسيحي الناضج. وبعد ان خدم كفاتح لفترة، خدم كناظر جائل كثير التنقل. وقد تمتع بعض المرسلين، الذين وصلوا لاحقا، بالعمل مع الاخ تشيمبازا وزوجته، إليسي، وابنهما الحدث مايِمبا. وبهذه الطريقة تعرفوا بنمط الحياة في ملاوي.
حقا، لقد برهن هؤلاء الاخوة الناضجون انهم «عطايا في رجال» لا يقدَّرون بثمن. — افسس ٤:٨.
المرسلون يعززون الزيادة
لا يزال المرسلون الذين خدموا بأمانة في ملاوي يُذكَرون بإعزاز ولا سيما من قبل القدامى الذين أُتيحت لهم الفرصة للعمل معهم في تلك الايام. وقد وجد بعض هؤلاء المرسلين ان تعيينهم الجديد تطلب صنع تغييرات جذرية في نمط حياتهم، لكنَّ محبتهم دفعتهم الى صنعها.
وصل مالكوم ڤيڠو كعازب سنة ١٩٥٧. وبعد ان تناول العشاء في اول ليلة قضاها في مكتب الفرع، اراد بتوق ان يعرف ما هو تعيينه. فأخبره لوني نايل، خريج من جلعاد وصل قبل سنة وكان آنذاك خادم الفرع، انه سيعيَّن في العمل الجائل. فهل كان سيخضع لمقرَّر لغوي او لفترة توجيه؟ كلا، لم يكن هنالك آنذاك تدبير كهذا. فكان سيبدأ في اليوم التالي مباشرة!
سرعان ما تعلم المرسلون المعيَّنون في العمل الجائل انه بالاضافة الى الخدمة في الجماعات، عليهم ان يكونوا ميكانيكيين في حال قادوا سيارة. ووجدوا ايضا ان الشوارع لم تكن غالبا سوى طرق شقتها الاقدام في الدغل. طبعا، قدَّر الاخوة المحليون جهودهم وفعلوا كل ما في وسعهم لتسهيل الحياة عليهم. وعادة كان يجري بناء منزل مرتب سقفه من العشب وحمام ليستعمله المرسل وزوجته، اذا كان متزوجا. أما بالنسبة الى الاخوات اللواتي سافرن مع ازواجهن، فإن اصوات الليل الغريبة يمكن ان تكون مروِّعة بشكل خصوصي! وقد لزم بعض الوقت لاعتياد «ضحك» الضباع المرعب و «اوركسترا» الاصوات لتنوع كبير من الحشرات.
يتذكر جاك يوهانسن ان إقامة محفل في الدغل شكَّل تحديا كبيرا. اولا كانت تُقطع الاشجار في الموقع، ثم في معظم الحالات كان كل شيء يُبنى من مواد موجودة في الدغل. لكنَّ الاخوة والاخوات، صغارا وكبارا، اسعدهم ان يقدموا دعمهم. وفي موقع المحفل قرب مولانجي، اقترب اخ كبير السن بوجهه البشوش من الاخ يوهانسن، قائلا: «ارغب انا ايضا في تقديم المساعدة في هذا العمل». لم يبدُ ذلك غريبا. لكنَّ الاخ يوهانسن علم لاحقا ان الاخ قضى شهرا تقريبا وهو يسير قاطعا مسافة ٨٠٠ كيلومتر (٥٠٠ ميل) تقريبا الى موقع المحفل، وأول ما فعله عند وصوله كان التطوع للمساعدة في تسهيلات المحفل! فبروح طوعية كهذه حوَّل الاخوة والاخوات الدغل الى «مدرَّج» فيه مقاعد تسع لـ ٠٠٠,٦ شخص!
ساهم المرسلون في تحسين تنظيم الجماعات والدوائر في ملاوي. والاخوة هيل بنتلي، ايدي دوبارت، كيث إيتُن، هارولد ڠاي، جاك يوهانسن، رود شارپ، ومالكوم ڤيڠو احسنوا العمل كنظار دوائر. وتجاوب الشهود المحليون جيدا مع المشورة والتوجيه الحبيين اللذين نالوهما. ونتيجة لذلك، صارت اجتماعات الجماعة والكرازة برسالة الملكوت منظمة بشكل افضل. وفي الوقت نفسه، صار الاخوة والاخوات موطَّدين في الحق، استعدادا للشدة الكامنة امامهم.
الشهادة للاوروپيين
عُيِّن بعض المرسلين اخيرا للعمل في مكتب الفرع، وكانوا كثيري الانشغال ايضا هناك. فأتاح ذلك الفرصة لبعض الزوجات ان يشهدن في الجزء الاوروپي من الحقل في بلانتاير وزومبا. وفيليس بريدل، ليندا يوهانسن، ليندا لويز ڤيڠو، آن إيتُن وغيرهن احسنَّ العمل جدا في هذه المقاطعة. كان الاوروپيون يتحاملون احيانا على عملنا، وغالبا نتيجة الالتباس المستمر بيننا وبين «حركات برج المراقبة». لكنَّ هؤلاء الاخوات استغللن الفرص لتقويم المسائل وللتكلم معهم عن ملكوت اللّٰه.
يعمل معظم الاوروپيين والآسيويين في ملاوي لحسابهم الخاص او لديهم عقود عمل مربحة. وعموما، هم مكتفون بوضعهم في الحياة. ومع ذلك تجاوب بعض الاوروپيين والناس المحليين الذين يتكلمون الانكليزية بشكل مؤاتٍ مع الحق. واعتمد قليلون — احدهم في حوض الاستحمام في بيت ايل!
‹تشجيع متبادل›
اذ قضى المرسلون الوقت مع الاخوة والاخوات المحليين، نما انسجام عرقي حقيقي بينهم. وهذا ما عبَّر عنه جيدا ألكس مافَمبانا في ملاحظة كتبها الى بعض اصدقائه المرسلين: «اذا كانت هنالك ‹فجوة› في العالم فهي بين الشرق والغرب. أما بالنسبة الينا، فإننا نملك الرباط الاكثر وحدة الذي يمكن ان يوجد على الاطلاق: اڠاپي!» وكم اختلف هذا الموقف عن موقف الذين هم خارج هيئة يهوه! فالاوروپيون عموما اعتبروا انفسهم اسمى من الافريقيين وقلما اختلطوا بهم. ومع ذلك هنالك امر لزم توضيحه، ويتعلق باستعمال الاخوة المحليين اللقب بوانا. فغالبا ما كان هذا اللقب يستعمل عند القاء التحية على الاوروپيين بمن فيهم المرسلون. وذلك عنى ان الاوروپيين كانوا اسياد الافريقيين. لذلك كلما كان اخ محلي يخاطب مرسلا بلقب بوانا، كان المرسل يذكِّره: «شهود يهوه هم اخوة وليسوا بوانا!»
لم تنتج الفوائد لطرف واحد فقط. فقد تعلَّم المرسلون الكثير من العمل مع اخوتهم وأخواتهم الافريقيين. وقد نشأ الكثير من الصداقات الوطيدة. وطبقا لكلمات الرسول بولس، كان هنالك ‹تشجيع متبادل›. — روما ١:١٢.
تسبيح يهوه بالترانيم
سرعان ما يلاحظ مَن يقضي الوقت في افريقيا ان الناس يحبون الغناء. ويفعلون ذلك دون اية مصاحبة موسيقية، مستخدمين فقط اصواتهم وبانسجام رائع. وليست ملاوي مستثناة. فحتى عندما لم يكن هنالك كتاب ترانيم متوفِّر بالتْشيتشايوا، ألَّف الاخوة ترانيمهم. فكانوا يأخذون الالحان الشعبية من تراتيل العالم المسيحي ويغيِّرون الكلمات ليرنِّموا مثلا عن الملكوت، الخدمة وهرمجدون. ومع ان هذه الترانيم لم تكن مكتوبة، كان جميع الاخوة يعرفونها ويرنمونها بطريقة رائعة. وفي المحافل، عندما يشتد الحماس، كثيرا ما كانوا يرنِّمون القرار بعد كل بيت، مرتين بدلا من مرة واحدة! وعندما زارهم الاخ نور سنة ١٩٥٣، تأثَّر خصوصا بهذا الانسجام الرائع. وفي تقريره قال: «لا بد ان اذكر ان الترنيم كان مبهجا جدا».
وعندما وصل الى الفرع سنة ١٩٥٠ كتاب الترانيم الانكليزي الجديد، ترانيم لتسبيح يهوه، الذي اصدرته الجمعية، تقرَّر ايضا اصدار كتاب ترانيم بالتْشيتشايوا. ولكن كيف كان سيجري تعليم الاخوة ان يقرأوا النوتات الموسيقية؟ لقد كان بإمكان الجميع ان يرنِّموا، لكنهم لم يكونوا معتادين قراءة النوتة. فقرَّر الفرع ان يعتمد اسلوب صول-فا القراري، الذي يستخدم الرموز «دو، ري، مي» للدلالة على النوتات الموسيقية. وكان قد تعلمها بعض الاخوة في المدرسة. يتذكَّر پيتر بريدل، الذي بذل قصارى جهده في هذا المشروع، ما كان يشمله الامر. يقول: «كنا نجلس مع المترجمين ونعمل على هذا المشروع. وكان علينا ان نتأكد ان الكلمات المترجمة تنسجم تماما مع الموسيقى. وتدريجيا، اصدرنا كتاب الترانيم».
غدت الطبعة بالتْشيتشايوا من ترانيم لتسبيح يهوه شعبية جدا بين الاخوة. وطبعها الفرع على آلة نسخ قديمة، مستخدما ايّ ورق يمكن الحصول عليه. ونتيجة لذلك، لم تكن كتب الترانيم الاولى هذه متينة، وكثيرا ما كان يلزم استبدالها. لكنَّ الاخوة لم يستاؤوا من ذلك. فكان مجرد الحصول على الترانيم يسعدهم. وكلما عُقد محفل كان الاخوة يحصلون على الفي نسخة او ثلاثة آلاف! اخيرا، اخذت بروكلين على عاتقها طبع كتاب الترانيم هذا، ولكن بعد طبع نحو ٠٠٠,٥٠ نسخة محليا!
تسهيلات جديدة للفرع
على مرّ السنين، كان الاشراف على عمل الملكوت في ملاوي يجري من مواقع مختلفة، وعموما من مساكن ضيقة. ولكن في اواسط خمسينات الـ ١٩٠٠ تقرَّر تشييد بناء مصمَّم خصوصا ليسع مكتب الفرع مع مساكن للعاملين في بيت ايل. ولهذه الغاية، اشتُري عقار في بلانتاير سنة ١٩٥٦. وفي ايار (مايو) ١٩٥٨ صار المبنى جاهزا للاستعمال. فكم كان فرح الاخوة عظيما!
وبعد سنوات قليلة، سكن في جوار مكتب الفرع شخص معروف جدا. فقد اصبح البناء المجاور، مودي هاوس، المقرّ الرسمي لرئيس وزراء ملاوي، الدكتور هايستنڠز كاموزو باندا.
من المؤسف ان هذا البناء الجميل لم يبقَ تحت اشراف الجمعية مدة طويلة، بعد كل العمل الشاق الذي بُذل في بناء مكتب الفرع وبيت ايل.
زيارة مشجعة
في سنة ١٩٦٣ قام مِلتون هنشل من المركز الرئيسي العالمي للجمعية بزيارة اخرى لملاوي. وقد وصل بُعيد المحفل الذي عقد في ليبيريا، حيث اساء الجنود جسديا اليه وإلى اخوة وأخوات محليين كثيرين. فعُقد محفل كبير قرب المطار، على بُعد كيلومترات قليلة من بلانتاير. وحضره اخوة من كل انحاء ملاوي، من «نْسانجي [في الجنوب] الى كارونڠا [في الشمال]،» كما عبَّر عن ذلك احد المسنين. وقدَّر حضور من نحو ٠٠٠,١٠ شخص الخطابات الرائعة التي ألقاها الاخ هنشل وخطباء آخرون. نادرا ما كانت تجمعات شهود يهوه تُذكر في الصحافة، لكن هذه المرة ظهرت مقالة عن المحفل حتى في احدى الصحف القومية.
صار الوضع السياسي في البلد متوترا، لذلك كان من المشجع خصوصا ان يحضر الاخوة هذا المحفل. فقد سمعوا كيف يتَّخذ شهود يهوه حول العالم موقفا ثابتا الى جانب مبادئ الكتاب المقدس. وفي ما يتعلق بهذا المحفل، قال الاخ مافَمبانا العريف: «تذكَّروا ان بعض المندوبين قطعوا على الدراجة اكثر من ٦٠٠ كيلومتر (٤٠٠ ميل) ذهابا ليحضروا. لقد شعروا ان حضورهم هو مسؤولية مسيحية وكانوا مستعدين لمواجهة المشقات بغية الحضور. وهذا دليل على الايمان المسيحي الثابت الذي يتمسك به كثيرون».
مؤشرات بحصول مشاكل
في اوائل ستينات الـ ١٩٠٠، تأججت روح القومية في ملاوي. وانسجاما مع اتفاق أُبرم مع بريطانيا، كانت ستُمنح الحكم الذاتي الكامل في اواسط سنة ١٩٦٤ بعد اجراء انتخاب عام. وفي غضون ذلك، تولّى الدكتور باندا منصب رئيس وزراء محلي للمستعمرة. وقبل الانتخاب العام، رتَّبت الحكومة ان يتسجل الناخبون طوعا من ٣٠ كانون الاول (ديسمبر) ١٩٦٣ الى ١٩ كانون الثاني (يناير) ١٩٦٤.
في تلك المرحلة وجد شهود يهوه في ملاوي لأول مرة انفسهم متورطين في ما وصفته لاحقا سان فرانسيسكو اكزامينر (الصادرة في الولايات المتحدة الاميركية)، بأنه «حرب دينية . . . حرب من جانب واحد، تتواجه فيها القوة مع الايمان». لم يكن شهود يهوه مَن اعلن الحرب. فهم، انسجاما مع تعاليم الكتاب المقدس، يظهرون الاحترام للقادة الدنيويين ويدفعون بضمير حي ضرائبهم. (لوقا ٢٠:١٩-٢٥؛ روما ١٣:١-٧) ولكن لأن يسوع المسيح قال ان اتباعه لن يكونوا «جزءا من العالم»، يحافظ شهود يهوه ايضا على موقف الحياد التام في ما يتعلق بحروب الامم وشؤونهم السياسية. — يوحنا ١٧:١٦؛ اعمال ٥:٢٨، ٢٩.
وفيما سرت حمى تسجيل الناخبين في البلد، مارس الشهود حقهم في ألا يتسجَّلوا. ولكن عندما لاحظ رسميون حزبيون موقفهم الحيادي انفجر اضطهاد عنيف. وبُذلت الجهود لاجبار الشهود على تغيير رأيهم وشراء بطاقات عضوية في الحزب. وخلال هذه الفترة كانت التقارير الواردة الى مكتب الفرع تظهر ان اكثر من ١٠٠ قاعة ملكوت وأكثر من ٠٠٠,١ بيت لاخوتنا أُحرقت او دُمِّرت. وأُشعلت النار في مئات الحقول ومخازن الحبوب. ومن المؤسف ان عائلات كثيرة من شهود يهوه وجدوا انفسهم نتيجة لذلك دون طعام او مأوى. وفرّ البعض انقاذا لحياتهم الى موزمبيق المجاورة. وتعرَّض كثيرون لضرب مبرِّح. ومنهم كِنيث تشيمبازا، ناظر جائل. وقد مات بعد سنوات قليلة من معاناته سوء معاملة كهذه، ومن الواضح ان ذلك كان بسبب الاذى الذي تحمّله.
الاستقامة تحت المحن
كانت اختبارات المحافظة على الاستقامة تحت الاضطهاد لا تحصى. مثلا، كانت هنالك اختان على مقربة من بلانتاير لديهما ١١ ولدا للاعتناء بهم. وقد استسلم زوجاهما للضغط السياسي واشتريا بطاقتي عضوية في الحزب. فضُغط عندئذ على الاختين لتشتريا بطاقتين. لكنهما رفضتا. فأخبرهما مسؤولون حزبيون انهم سيعودون في اليوم التالي ليروا ما اذا كانت الاختان قد بدَّلتا رأيهما. وفعلا، اتى في اليوم التالي حشد لجلبهما. فأُخذتا الى مكان عام، هُددتا بالاغتصاب، وضُربتا لرفضهما شراء بطاقتي الحزب. وبقيت الاختان ثابتتين. ثم سُمح لهما بالذهاب الى البيت فقط ليؤتى بهما في اليوم التالي. فضُربتا ثانية، وهذه المرة جُرِّدتا من ثيابهما امام الحشد. لكنَّ الاختين لم تسايرا.
عندئذ بدَّل المضطهدون اسلوبهم. فقالوا: «لقد اتصلنا هاتفيا بمكتبكم، وتحدثنا الى يوهانسن ومَكْلَكي ومافَمبانا. فأخبرونا انه ينبغي ان تشتريا بطاقتَيكما، اذ سبق ان اشتروا هم انفسهم بطاقاتهم، كما فعل سائر شهود يهوه في [ملاوي]. وأنتما الامرأتان الوحيدتان في كل البلد اللتان لم تشتريا بطاقة. فمن الافضل لكما ان تأخذا بطاقتَيكما الآن». فأجابت الاختان: «نحن نخدم يهوه اللّٰه فقط. لذلك اذا اشترى الاخوة في مكتب الفرع بطاقات، فلا يُشكِّل ذلك ايّ فرق بالنسبة الينا. فنحن لن نساير، حتى لو قتلتمونا!» (قارنوا روما ١٤:١٢.) فأُطلق اخيرا سبيل الاختين.
لم تكن هاتان الاختان الامينتان والمتواضعتان تعرفان القراءة او الكتابة، لكنهما امتلكتا محبة عميقة ليهوه ولشريعته. وموقفهما الثابت ردَّد كلمات المزمور ٥٦:١١: «على اللّٰه توكلت فلا اخاف. ماذا يصنعه بي الانسان».
جهود لتوضيح موقفنا
بازدياد حدة الحوادث الخطيرة، عملت الجمعية جاهدة على جعل السلطات توقف الاضطهاد. فجرى الاتصال بمكتب رئيس الوزراء، وسُمح بمقابلة مع الدكتور باندا في ٣٠ كانون الثاني (يناير) ١٩٦٤. وفي هذه المناسبة، تمكَّن جاك يوهانسن من توضيح موقف شهود يهوه الحيادي، مؤسسا مناقشته على روما الاصحاح ١٣. فبدا رئيس الوزراء مسرورا بما قيل، وعندما غادر الاخ يوهانسن، شكره الدكتور باندا كثيرا.
ولكن بعد اربعة ايام فقط، شُنَّ هجوم على فريق من الشهود في منطقة مولانجي. فمات ألَتون مواتْشانْدي ميتة شنيعة. وأُطلق سهم نحو عنق مونى مويواولا، شاهدة مسنة، وتُركت لتموت. والجدير بالملاحظة ان هذه الاخت نجت من الموت واستُخدمت شهادتها في وقت لاحق لمحاكمة المشاغبين. وعندما وصلت اخبار هذا الحادث المريع الى مكتب الفرع، أُرسلت برقية مستعجلة الى مكتب رئيس الوزراء.
عُقد اجتماع آخر نتيجة لذلك مع الدكتور باندا واثنين من وزرائه في ١١ شباط (فبراير) ١٩٦٤. وقد رافق هارولد ڠاي وألكسندر مافَمبانا جاك يوهانسن. لكن هذه المرة كان الجو مختلفا. قال الدكتور باندا ملوِّحا بالبرقية: «سيد يوهانسن، ما معنى ارسالك برقية كهذه؟» حاول الاخوة بهدوء ان يؤكدوا لرئيس الوزراء موقفنا الحيادي وإطاعتنا قوانين البلد. لكنَّ رئيس الوزراء ووزيريه حاجوا ان شهود يهوه كانوا يستفزون عمدا مهاجميهم. فانتهى الاجتماع بشكل سلبي، بلوم شهود يهوه على الوضع المتأزم في البلد. حتى ان الاخ يوهانسن هُدِّد بترحيله فورا. ولكن يبدو ان غضب الدكتور باندا كان منصبّا اكثر على عدم كفاءة وزيريه اللذين عجزا عن تقديم برهان قوي على الاستفزاز الذي قام به شهود يهوه.
ومن المثير للاهتمام انه في المحاكمة التي تلت مقتل الاخ مواتْشانْدي، لم يجد القاضي بالنيابة السيد ل. م. إ إميجولو ايّ دليل على ان شهود يهوه استفزوا بطريقة ما مهاجميهم، كما ادَّعت الحكومة. ذكر القاضي: «لا اجد دليلا على الاستفزاز. صحيح ان شهود يهوه نشروا بتصميم ايمانهم وسعوا الى كسب مهتدين، لكنهم كانوا يعون واجباتهم المدنية ويقومون بكل ما يُطلب منهم . . . لقد رفضوا فقط الانضمام الى ايّ حزب سياسي».
اذ خمدت حماسة تسجيل الناخبين، دعا رئيس الوزراء الى السلام والهدوء في البلد. قال: «لا مشاكل مع الاوروپيين، الشرطة، الهنود، وحتى مع شهود يهوه. سامحوهم». وفي تموز (يوليو) ١٩٦٤، في غمرة الحماس الشديد، اصبحت مستعمرة نياسالَند جمهورية مستقلة وتغيَّر اسمها الى ملاوي. وانتهى الاضطهاد اخيرا لكنه كان قد أودى بحياة ثمانية من خدام يهوه الذين ماتوا ميتة عنيفة.
فترة هدوء وجيزة
فيما كانت سنة ١٩٦٤ تقترب من نهايتها، كان اخوتنا يمرّون بفترة من الهدوء النسبي. وصار بعض ألدّ الاعداء السابقين فضوليين ليعرفوا اكثر عن «السر» الذي مكَّن ضحاياهم من اتِّخاذ موقف ثابت رغم كل الاضطهاد. ونتيجة لذلك، انطلقت رسالة الملكوت بزخم مرة اخرى.
في اوائل سنة ١٩٦٦ أُتيحت فرصة اخرى لتوضيح موقف شهود يهوه الحيادي للدكتور باندا. فقد طلبت جمعية برج المراقبة إذنا ليدخل مزيد من المرسلين الى البلد. فسأل الدكتور باندا، الذي كانت له السلطة في اصدار الاذون للاوروپيين بالدخول الى ملاوي، عن سبب الحاجة الى مزيد من المرسلين. فأدّى ذلك الى اجتماع بين الدكتور باندا ومالكوم ڤيڠو، خادم الفرع. وشدَّد الدكتور باندا انه لا يريد ان يتدخل ايّ شخص في السياسة. فأكَّد له الاخ ڤيڠو مرة اخرى اطاعتنا قوانين البلد وموقفنا الحيادي حيال المسائل السياسية. — روما ١٣:١-٧.
وبحلول سنة ١٩٦٧ ارتفع معدل عدد الناشرين الى اكثر من ٠٠٠,١٧ شخص. وخلال فترة الهدوء هذه، وصل الى البلد خريجان اضافيان من جلعاد، كيث وآن إيتُن. وعندما التقيا عائلة يوهانسن في مكتب الفرع، طمأنتهما ليندا بحماسة، «لقد اتيتما الى البلد الاكثر سلاما في افريقيا!» ولم يعلموا ان مشاكل خطيرة كانت على وشك ان تنفجر.
الحالة تتأزم مجددا
بعد مقرَّر لغوي قصير، عيِّن كيث إيتُن وزوجته آن في العمل الجائل. في البداية، حظيا بمساعدة حبية من كِنيث تشيمبازا وعائلته. وإذ كان مايِمبا الحدث مستعدا دائما للمساعدة كان يفرح خصوصا بحمل حقيبة الاخ إيتُن المخصصة للشهادة حينما كانا يشتركان معا في خدمة الحقل.
وفي نيسان (ابريل) ١٩٦٧ عندما كان الاخ إيتُن يخدم في محفل دائري في قرية تامبو في منطقة پالومبي، سمع برنامجا اذاعيا اقلقه. كان الدكتور باندا يتّهم شهود يهوه باستفزازهم عمدا مسؤولين في الحزب وأعضاء من حركات الشباب المعروفة بـ «روّاد ملاوي الشباب» و «رابطة شباب ملاوي». وادَّعى ايضا ان الشهود لم يرفضوا ان يشتروا بطاقات عضوية في الحزب فحسب بل حثّوا الآخرين ايضا ألّا يشتروا.
وكما حدث في سنة ١٩٦٤، دُفعت مسألة البطاقات الحزبية الى الواجهة. ومع ان شراء هذه البطاقات كان اختياريا، كان المسؤولون الحزبيون يعتبرون انه من المحقِّر رفض شرائها. وقيل لاحقا ان شراء بطاقة كان «طريقة يمكننا بها ان نظهر نحن، شعب هذا البلد، التقدير لـ [الدكتور باندا] لإنمائه هذا البلد، ملاوي». وإذ اغتاظ المسؤولون الحزبيون من موقف شهود يهوه الثابت من المسألة، استأنفوا جهودهم لاجبار الاخوة على الخضوع. وبدأت من جديد ترِد الى الفرع تقارير عن مضايقات وضرب.
وفي احدى المناسبات، طلب بعض المسؤولين الحزبيين من مالكوم ڤيڠو ان يزور اخا من جماعة جومبي كان قد اعتُقل لرفضه شراء بطاقة حزبية. وقبل ان يدخل الاخ ڤيڠو الى الغرفة صلى بصمت. فقد كان واضحا من البداية ان هؤلاء المسؤولين كانوا يأملون ان يقول لهم الاخ ڤيڠو ان جمعية برج المراقبة اوضحت لاتباعها انه من الخطإ شراء بطاقات حزبية. وبدلا من ذلك، شدَّد ان الجمعية لا تقول لأحد ما يجب فعله وأن كل شخص يجب ان يتَّخذ قراره الشخصي في المسألة. لم يُسعد هذا التوضيح المسؤولين الحزبيين. وكانت الاسئلة تنهمر من كل الاتجاهات. وبسبب توقهم الى الايقاع به، كانوا يطرحون سؤالا آخر حتى قبل ان يجيب الاخ ڤيڠو عن السؤال السابق. وبعد ساعتين من الاستجواب، أُطلق سراح الاخ اخيرا. ولم تُشترَ اية بطاقة حزبية.
الحظر!
بلغت الحالة ذروتها في ايلول (سبتمبر) ١٩٦٧ اثناء المؤتمر السنوي الذي عقده الحزب الحاكم، حزب الكونڠرس في ملاوي. وأحد القرارات التي أُقرّت هناك ذكر: «[نحن] نوصي بشدة باعتبار طائفة شهود يهوه غير شرعية في هذا البلد». والسبب؟ ذكر القرار: «انها تعرِّض للخطر استقرار السلام والهدوء الذي هو اساسي لسلاسة تقدُّم دولتنا». ثم اعلن الرئيس في خطابه الختامي امام المؤتمر: «شهود يهوه يسببون المشاكل في كل مكان. لذلك أَقرّ المؤتمر امس قرارا يقضي بضرورة حظر شهود يهوه. ويمكنني ان اؤكد لكم ان الحكومة ستنظر حتما في المسألة بسرعة فائقة».
هل كان شهود يهوه حقا ‹خطرا على استقرار ملاوي›؟ كلا! فقد وصف احد المعلقين لاحقا الشهود في ملاوي بأنهم «مواطنون نموذجيون، يواظبون على دفع ضرائبهم، يعتنون بالمرضى، ويكافحون الأميّة». لكنَّ الحكومة ‹نظرت [فعلا] في المسألة بسرعة فائقة›. وسرعان ما وُقِّع امر اداري يفرض حظرا، وصار ساري المفعول في ٢٠ تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٦٧. وأُشعرت الامة بكاملها بواسطة عنوان رئيسي في صحيفة مطبوع بحرف اسود ثخين: «ملاوي تحظر بدعة ‹خطرة›». ومع انه ذُكر ان الاجراء اتُّخذ لأن شهود يهوه «يشكِّلون خطرا على حكومة ملاوي الصالحة»، كان واضحا ان السبب الحقيقي هو رفضهم شراء بطاقات عضوية في الحزب. وانسجاما مع قناعاتهم الراسخة المؤسسة على الكتاب المقدس، اختار شهود يهوه ان ‹يطيعوا اللّٰه اكثر من الناس›. — اعمال ٥:٢٨، ٢٩.
الاستعداد المسبق له فوائده
قبل ان يُفرض الحظر، ادرك الاخوة في مكتب الفرع ان ثمة اجراء رسميا كان سيُتَّخذ بحق شهود يهوه. ومع انهم لم يتوقعوا حظرا تاما، بدأوا باتخاذ تدابير وقائية. فعُقدت اجتماعات خصوصية في انحاء مختلفة من البلد لمنح التوجيه والتشجيع لنظار الدوائر والكور. وأُعطيت خطوط ارشادية عملية تتعلق باجتماعات الجماعة، خدمة الحقل، مخزون المطبوعات، وإرسال الرسائل. وبازدياد الحالة سوءا تبرهن ان هذه المعلومات لا تقدَّر بثمن.
اتَّبعت الجماعات باجتهاد الاقتراحات فيما كانت تتوارد اليها تدريجيا. ولم تعد اية نماذج للجمعية تستعمل. وبدلا من ذلك، كانت تقارير خدمة الجماعة تكتب على ورقة عادية وترسل الى مكتب الفرع بواسطة سعاة. وتغيَّرت اوقات الاجتماع وفق حاجات كل جماعة. فقررت احدى الجماعات ان تدير اجتماعاتها عند الساعة الخامسة والنصف صباح الاحد، قبل ان يستفيق سكان القرية. أما بالنسبة الى العمل الكرازي، فلا يمنع ايّ حظر شهود يهوه من نشر بشارة الملكوت. وتماما كما كانت الحالة ايام الرسل، اتَّخذ اخوتنا واخواتنا الامناء هذا الموقف: «لا نقدر ان نكفَّ عن التكلم بما رأينا وسمعنا». — اعمال ٤:٢٠.
وقبيل الحظر، تلقى مكتب الفرع معلومات من مصدر موثوق به تفيد ان الجريدة الرسمية كانت تستعد لاعلان حظر على شهود يهوه. لذلك، نقل الاخوة بسرعة كل الملفات والوثائق المهمة، حتى بعض التجهيزات، الى بيوت اخوة عديدين. وشُحنت ايضا كميات كبيرة من مخزون المطبوعات من الفرع الى الجماعات في كل انحاء البلد. ووضعت احدى الجماعات الكتب داخل صفيحتَي زيت كبيرتَين لتحمي هذا الطعام الروحي القيِّم، وطمرتها كي تستعملها في وقت لاحق. وعندما وصلت الشرطة اخيرا الى الفرع في تشرين الثاني (نوفمبر) لتصادر الاملاك، بدا انها فوجئت بالكمية القليلة جدا من المطبوعات، والملفات والتجهيزات.
ترحيل المرسلين
كما كان متوقَّعا، أُمر المرسلون الاجانب بمغادرة البلد. ولكن قبل رحيلهم فعلوا كل ما في وسعهم لتقوية الاخوة والاخوات الاعزاء جدا عليهم. فزار مالكوم ڤيڠو الاخوة الذين دمَّر المشاغبون بيوتهم ومنحهم التشجيع. وكان احدهم فينلي موينْييري، وهو ناظر دائرة. قال الاخ ڤيڠو: «عندما وصلنا رأينا الاخ موينْييري واقفا ينظر الى بيته المحروق. كانت الروح التي اظهرها مشجعة. فقد كانت رغبته ان يعود فورا ويقوي الآخرين في دائرته الذين عانوا المشاكل. فلم يكن مهتما اكثر من اللازم بخسارته الشخصية».
وسافر الاخ جاك يوهانسن الى شمال ليلونڠواي ليزور نحو ٠٠٠,٣ اخ وأخت كانوا محتجَزين. وتمكن من التحدث الى كثيرين منهم وتشجيعهم. وكانوا لا يزالون بحالة نفسية جيدة. وفي الواقع، رحل وهو يشعر بالانتعاش ووصف الامر بأنه اختبار مقوٍّ للايمان. وأَخبر ضابط مسؤول في وقت لاحق الاخ يوهانسن ان الوضع حرج. وذكر الضابط، متحدثا عن مجرد نتيجة واحدة للحظر، انه عندما تتعطل الامدادات الكهربائية في ليلونڠواي، فعلى الارجح لن يجري اصلاحها ابدا، لأن افضل العمال والاكثر اعتمادا عليهم كانوا في السجن!
لم يترك المرسلون الاجانب الثمانية ملاوي طوعا. فبالنسبة اليهم لم يقوموا بأيّ عمل خاطئ. وقد أُخذت عائلة شارپ وعائلة يوهانسن مباشرة الى المطار بمواكبة الشرطة ووُضعوا في طائرة تغادر البلد. أما العائلتان الاخريان فقد أُخذتا الى سجن تشيتشيري في بلانتاير، حيث قضوا بضع ليالٍ — مالكوم وكيث في زنزانة وليندا لويز وآن في زنزانة اخرى. ثم بمواكبة الشرطة أُخذوا الى المطار ورُحِّلوا الى موريشيوس. اخيرا أُعيد تعيين عائلة ڤيڠو وعائلة يوهانسن في كينيا وعائلة إيتُن في روديسيا.
بقلوب حزينة ترك المرسلون وراءهم اخوتهم وأخواتهم الاعزاء. لكنَّ الشهود الملاويين لم يُتركوا دون مساعدة. فقد كان هنالك رعاة روحيون، نظار محبون في ٤٠٥ جماعات في كل انحاء البلد. (اشعياء ٣٢:٢) وقد اشرف ألكس مافَمبانا على العمل محليا، ونُقل الاشراف على الحقل في ملاوي الى فرع زمبابوي (التي كانت تدعى آنذاك روديسيا). وفي السنوات التالية، رتَّب الفرع في هاراري، زمبابوي، ان يسافر نظار الدوائر الملاويون وآخرون ممَّن يأخذون القيادة الى زمبابوي لحضور محافل كورية ومقررات منعشة. وبواسطة هؤلاء الاخوة الامناء، كانت برامج المحافل الدائرية والكورية تُنقل الى الجماعات.
موجة جديدة من الاعمال الوحشية
لكن ما ان شاع الحظر حتى قاد مسؤولون وأعضاء حزبيون في «روّاد ملاوي الشباب» و «رابطة الشباب» موجة جديدة من الاضطهاد المريع. وكانت الشرطة والمحاكم، التي اظهرت احيانا تعاطفا، عاجزة عن ايقاف العنف بعدما صُنِّف شهود يهوه بأنهم غير شرعيين في البلد.
وإذ اشتد الاضطهاد، دُمِّرت في كل انحاء البلد قاعات ملكوت، بيوت، مخازن حبوب، ومحلات شهود يهوه. حتى انه في بعض الاماكن وصل المهاجمون بالشاحنات لأخذ ممتلكات الشهود. وفي حين ان قيمة هذه الخسارة ربما كانت من الناحية المادية زهيدة، فقد كانت بالنسبة الى اخوتنا واخواتنا الملاويين كل ما يملكونه.
ووردت ايضا تقارير عن اعمال ضرب من كل انحاء ملاوي. وقد ألحق الاضطهاد ببعض اخواتنا العزيزات اذى شديدا. فقد وردت تقارير كثيرة عن اغتصاب، تشويه وضرب نساء مسيحيات. ولم يكن المهاجمون الساديون يرحمون احدا. فالمسنّون والصغار وحتى بعض الاخوات الحوامل عانين هذا التعذيب الوحشي. وأجهضت بعضهن تلقائيا نتيجة لذلك. ومجددا، أُجبر الآلاف على الهرب من قراهم. ووجد كثيرون ملجأ في الدغل. وذهب آخرون وقتيا الى موزمبيق المجاورة. وبحلول نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٦٧ حصدت موجة الهجوم الوحشية على شهود يهوه حياة خمسة آخرين على الاقل.
ردّ الفعل على الحظر
حتى الضربات الوحشية لم تردع شهود يهوه. ولم يساير الا قليلون. سامسُن كُمبانييوا، هو احد الذين دُمرت بيوتهم وأثاثهم، ومُزقت كل ثيابه لكنَّ ايمانه لم يفنَ. وباقتناع قال: «اعلم اني لست وحدي ابدا، وأن يهوه حماني». ان استقامة رجال ونساء الايمان هؤلاء هي مفخرة ليهوه — جواب عن سخرية الشيطان: «كل ما للانسان يعطيه لأجل نفسه». — ايوب ٢:٤.
ايقظ الاضطهاد ايضا بعض المستقيمي القلوب في ملاوي. وذلك انسجاما مع ما تنبأ به يسوع المسيح نفسه. فبعد ان حذَّر اتباعه انهم سيُضطهدون ويُساقون ايضا امام الحكام، ختم بهذه الكلمات المشجعة: «فيؤول بكم ذلك الى تأدية شهادة». — لوقا ٢١:١٢، ١٣.
ثمة زوج، كان لبعض الوقت يقاوم نشاط زوجته كشاهدة، جرت مساعدته على رؤية المسائل بوضوح اكثر بسبب الاضطهاد. فذات صباح، بعد اقل من اسبوعين من فرض الحظر، نزل رعاع الى منزله. وكانوا يعرفون ان الرجل لم يكن شاهدا، فصاحوا انهم اتوا من اجل زوجته فقط. في البداية لم يفتح الباب. ولكن بعد ان هدَّدوا بحرق البيت بكل مَن فيه، ادخلهم مكرها. وسرعان ما وجد نفسه مكبَّلا بالسلاسل وأُمر ان يشتري بطاقة حزبية. ادرك عندئذ ان زوجته كانت فعلا تنتمي الى الدين الحقيقي. فرفض ان يشتري بطاقة ذلك اليوم، مما ادى الى ضربه وزوجته. ولكن مباشرة بعد ذلك، بدأ يدرس الكتاب المقدس. وفي السنة التالية نذر هذا الرجل حياته ليهوه، منضما الى زوجته كخادم ليهوه.
ومن داخل ملاوي وخارجها على السواء، عبَّر الناس عن قلقهم حيال ما كان يحدث للمسيحيين الابرياء. وسُمع البعض يقولون: «الآن، وبعد ان حُظر شعب اللّٰه في بلدنا، عرفنا انه لا بد اننا نقترب من نهاية العالم»! وأثارت المقالات التي ظهرت في اعداد شباط (فبراير) ١٩٦٨ من برج المراقبة و استيقظ! صرخة عامة من حول العالم. وانهمرت آلاف الرسائل التي تعبِّر عن الغضب والتي تحث الحكومة على اتِّخاذ اجراء لايقاف الاعمال الوحشية. وفي بعض مكاتب البريد، لزمت مساعدة اضافية للاهتمام بهذا الدفق البريدي المفاجئ. فقد كان ردّ الفعل العالمي حيال هذا الوضع شديدا واستمر فترة طويلة حتى ان الرئيس اصدر اخيرا مرسوما يقضي بضرورة ايقاف الاضطهاد. وفي وقت لاحق قال الدكتور باندا ايضا انه لا ينبغي اجبار احد على شراء بطاقة عضوية في الحزب. قال: «اريد ان يكون الناس احرارا في تجديد البطاقات، ان يفعلوا ذلك من كل قلبهم، لا ان يُجبروا على ذلك». عندئذ بدأت موجة اخرى من الاضطهاد تخمد تدريجيا. فسمح ذلك بعودة بعض اخوتنا الى بيوتهم ومتابعة العمل المهم للكرازة بالبشارة — انما باستخدام وسائل اقل لفتًا للنظر، لأن الحظر لم يكن قد رُفع.
العمل تحت الحظر
خلال هذا الوقت، اهتم الاخ مافَمبانا بأمانة بالعمل المحلي. وبقي على اتصال بفرع روديسيا الذي كان يتلقى منه التوجيه في حينه. ولكن رجال الشرطة كانوا له دائما بالمرصاد، الامر الذي اجبره على اخذ الحذر. وكاد، في حوادث عديدة، يُلقى القبض عليه. من المحزن انه مات سنة ١٩٦٩ مما تبين انه سرطان. بعد ذلك اشرف كِنيث تشيمبازا على عمل شهود يهوه في ملاوي الى مماته سنة ١٩٧١ من جراء نزف في دماغه. من المؤكد ان يهوه لن ينسى الاعمال الصالحة الكثيرة التي قام بها هذان الاخوان المحافظان على الاستقامة عند «قيامة الابرار». — لوقا ١٤:١٤؛ عبرانيين ٦:١٠.
تأقلم الاخوة في ملاوي مع الوضع الجديد عندما تحسنت الاوضاع. وسرعان ما انتجت الشهادة غير الرسمية ثمارا. فبالرغم من الحظر ازدهر عمل الفتح. ففي سنة ١٩٧١ كان هنالك ٩٢٥ فاتحا غيورا يعلن البشارة برفقة آلاف الناشرين في الجماعات. حتى انه كان هنالك فاتح خصوصي واحد — جْرِشام كْوازيزيرا الذي كان لا يزال يخدم بأمانة وهو متقدم في السن بالرغم من المشقات الكثيرة والمحن الشخصية العديدة التي تكبَّدها. فقد استمر يخدم يهوه بأمانة حتى مماته سنة ١٩٧٨.
وإذ برهن الاخوة انهم ‹حذرون كالحيات›، استمرت تقارير الجماعات والرسائل الاخرى ترد مكتب الفرع في روديسيا. (متى ١٠:١٦) وقد اظهرت هذه التقارير ان عمل الكرازة الغيور تحت الحظر كان فعالا جدا. فقد بلغت ذروة الناشرين ٥١٩,١٨ مباشرة قبل ابتداء الحظر سنة ١٩٦٧. ولكن سنة ١٩٧٢، وبالرغم من وطأة الحظر وهرب العديد من الاخوة الى موزمبيق، جرى بلوغ ذروة جديدة من ٣٩٨,٢٣ ناشرا قدموا تقريرهم وقد صرفوا اكثر من ١٦ ساعة كمعدل في الخدمة كل شهر.
«مقاطعات جديدة» تنال شهادة
رغم ان الشهود كانوا حذرين جدا في كرازتهم، أُوقف البعض منهم والقوا في السجن. وحتى هناك لم يتثبطوا، بل واظبوا على الكرازة مستخدمين السجن كمقاطعة جديدة.
قضى باستون موزِس نيريندا سنة ١٩٦٩ سبعة اشهر في السجن. وسأله بعض المساجين الآخرين لمَ لا يلتحق بكنيستهم المتحدة. ويا لها من فرصة حسنة للشهادة! فبيَّن لهم حقائق الكتاب المقدس بواسطة كتاب مقدس قديم اكل الدهر عليه وشرب، يستعمله كل السجناء وفيه بعض الصفحات المفقودة. وأدى ذلك الى درس في الكتاب المقدس. وحتى قائد الكنيسة درس. وقبل اطلاق سراحه من السجن فرح الاخ نيريندا لأنه تمكن من مساعدة اربعة اشخاص على فهم كلمة اللّٰه بشكل جيد.
النشاط في الجماعة الانكليزية
جرى ترحيل كل المرسلين الاجانب بسبب الحظر، ولكن بيل مَكْلَكي الذي تزوج دنيس من جنوب افريقيا، بقي في بلانتاير. وهناك كان يدير مشروعا تجاريا صغيرا من اجل الاعتناء بمسؤوليات العائلة. فأصبح بيت عائلة مَكْلَكي مكان الاجتماع الجديد لجماعة بلانتاير الانكليزية. طبعا، كان يجب عقد هذه الاجتماعات بشكل غير رسمي كي لا تلفت الانتباه، فلم يكن هنالك ترانيم او تصفيق بالايدي.
وفي هذه الاثناء بدأ ڠيدو اوتو، الذي كان يخدم في فرع روديسيا، يُدخل المطبوعات الى ملاوي سرا. كان والد ڠيدو يدير فندقا صغيرا على ضفاف بحيرة ملاوي، والزيارات التي كان يقوم بها ڠيدو لم تبدُ غير عادية بالنسبة الى الرسميين. ولم يعرفوا امر الكميات الكبيرة من مطبوعات الكتاب المقدس التي كان ڠيدو يُدخلها كل مرة! كانت المطبوعات تخزَّن في قبو سرّي تحت منزل عائلة مَكْلَكي. وعندما كان يُحفر، كان المارة احيانا يسألون ما هو هذا. فيُقال لهم: «انه حمام».
في احدى الليالي وفي منتصف الاجتماع اقتربت سيارة من باب البيت. فمن يكون هذا؟ هل هي الشرطة؟ لم يعرف الاخوة ماذا يفعلون بكتبهم الدراسية. ولكن الباب فُتح ودخل الاخ ڠيدو اوتو مبتسما. وكم ارتاح الاخوة!
بعد هذه الحادثة، توضح دنيس: «قال بيل للإخوة ان اول شيء عليهم القيام به اذا حاول احد اقتحام البيت هو وضع كل كتبهم في سلة مجهزة. ثم كان عليَّ ان أُنزل السلة الى القبو من خلال فوهة في ارض غرفة نومنا. وكانت تُحضَّر ادوات الشاي ايضا في كل مرة نعقد فيها الاجتماع. فإذا دخل احد، يبدو الامر وكأننا في زيارة نتناول الشاي!».
ولكن عندما ازدادت الحالة صعوبة تعذر عقد الاجتماعات في مجرد مكان واحد. ولذلك استُخدمت بيوت متنوعة. وفي بعض الاحيان كان الفريق يجتمع في الغابة، مرتدين ثياب نزهة.
رغم هذه الصعوبات، تمكن الاخوة من الوصول الى محبي الحق من خلال الشهادة غير الرسمية للاشخاص الذين يتكلمون الانكليزية. وأتى قليلون الى الحق. وبينهم كان ڤيكتور لولكر، دانيال مارن، ومايك شارما الذين يخدمون في جماعة بلانتاير الى هذا اليوم.
دعاوى قضائية في بلانتاير
عندما اقتحمت الشرطة منزل عائلة مَكْلَكي سنة ١٩٧١ وجدت بعض مطبوعات الجمعية هناك. فاتُّهم الاخ مَكْلَكي وطُلب منه المثول امام محكمة الجزاء في ليمبي وبلانتاير. فعرف الاخوة المحليون بالامر وخرجوا بأعداد كبيرة لمساندة عائلة مَكْلَكي معرضين بالتالي حريتهم للخطر. وعندما اعلنت محكمة الجزاء الحكم بأنه «غير مذنب»، حدث تصفيق مدوٍّ بين الاخوة! لكنَّ الحكم استُؤنف، ورُفعت القضية الآن الى المحكمة العليا. وهذه المرة وُجد بيل مَكْلَكي مذنبا وحُكم عليه بالسجن سبع سنوات. لكنهم لم يريدوا سجنه فعلا، وعوضا عن ذلك أُمر بأن يغادر البلد.
وهكذا في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٧٢ انتهت خدمة بيل مَكْلَكي الولية في ملاوي بعد ٣٧ سنة. ورتب قبل رحيله ان يأتي الاخوة ويأخذوا بهدوء كل المطبوعات من قبوه السري. فأخذ الاخوة كمية كتب تملأ سيارة. ولاحقا أُوقف بعض الاخوة عند حواجز التفتيش لكن الشرطة لم تنتبه لأي من الصناديق الكرتونية. وقبل ان تغادر عائلة مَكْلَكي البلد جرى اقفال مدخل القبو بالاسمنت. وسيجري دائما تذكُّر خدمة الاخ بيل مَكْلَكي الامينة والمتسمة بالتضحية بالذات في تاريخ شهود يهوه في ملاوي.
ابتداء موجة العنف الثالثة
ما ان اعتاد الاخوة نمط حياة جديدا حتى اندلعت المشاكل مرة اخرى. ففي الاجتماع السنوي لحزب الكونڠرس في ملاوي سنة ١٩٧٢ جرى تبني العديد من القرارات المزعجة جدا. وأحد هذه القرارات كان طرد كل شهود يهوه من اماكن عملهم. وجرى تنفيذ ذلك دون رحمة او استثناء. حتى الشركات التي ارادت استبقاء العمَّال الشهود الموثوق بهم لم يُسمح لها بذلك. ووضعت الدولة يدها على شركات الاخوة وصادرت ممتلكاتهم وأموالهم. لكنَّ الاسوأ كان سيلي.
نصَّ قرار آخر جرى تبنيه في الاجتماع على ما يلي: «يجب طرد كل [شهود يهوه] العائشين في القرى». وفي الواقع دعا ذلك الى نبذ شهود يهوه من المجتمع. فحُرقت الآلاف من بيوتهم او سُويت بالارض. وأُتلفت محاصيلهم وحيواناتهم. ومُنعوا من سحب الماء من الآبار في القرى. لقد خسروا حرفيا كل شيء امتلكوه بسبب عمليات النهب التي اجتاحت البلاد.
ومرة اخرى تزعَّم اعضاء من حركات الشباب موجة الاضطهاد هذه، والتي كانت الاكثر شدة ووحشية الى يومنا هذا. وإذ نظموا بعضهم البعض في مجموعات تتراوح من نحو ١٢ شخصا الى حوالي المئة شخص اخذوا يبحثون عن شهود يهوه من قرية الى قرية.
في كل البلاد كانت تجري مطاردة اخوتنا. ففي بلانتاير أُلقي القبض على عدد من الاخوة وسيقوا الى المركز الرئيسي للحزب، الذي كان قبل مصادرته سنة ١٩٦٧ مكتب فرع الجمعية. وبين الاخوة كان ڠريسون كاپينينڠا، الذي خدم قبل الحظر في الفرع كمترجم. وبعد ان رفض الاخوة بثبات شراء بطاقات عضوية في الحزب فرك المضطهدون خليطا من الملح والفلفل الحار في اعينهم. ثم ضربوا الاخوة بألواح خشبية يتخللها مسامير كبيرة. وعندما كان احد الاخوة يصرخ متألما كان المجرمون يضربون بقوة اكثر قائلين: «ليأتِ الهك ويخلصك».
وقد حصدت هذه الاعتداءات الوحشية حياة العديد من الاخوة. وفي كَيپ ماكلير عند طرف بحيرة ملاوي الجنوبي رُبطت حزم من الحشيش حول زيلفات مْبايكو. وسكب البنزين على الحشيش ثم اشعل. فمات حرقا.
والاخوات ايضا عانين الكثير. فبعد رفضهن شراء بطاقات الحزب جرى اغتصاب العديدات منهن تكرارا من قبل رسميي الحزب. ففي ليلونڠواي حاولت الاخت ماڠولا الهرب مع العديد غيرها. ولكنها كانت حاملا ولم تستطع ان تركض بسرعة كبيرة. فوقعت في ايدي رعاع اشبه بكلاب مسعورة، فأوسعوها ضربا حتى ماتت.
وفي حرم كلية بوندا للزراعة في ضواحي منطقة ليلونڠواي قُتل ستة اخوة واخت واحدة وشوِّهت جثثهم بشكل فظيع. استنكر شخصيا مدير الكلية ثيودور پيني الاعمال الوحشية امام الدكتور باندا. والنتيجة؟ رُحِّل من البلد.
الآلاف يهربون
وإذ بدا ان الابادة الجماعية تلوح في الافق، بدأ في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٧٢ خروج جماعي لشهود يهوه. فقد هرب الآلاف نحو الغرب الى زامبيا. وعلى الحدود اكَّد مراقب للامم المتحدة ان «العديد من اللاجئين كانوا مصابين بجروح بليغة بواسطة الـ پانڠا، سكين كبير معروف في [افريقيا]».
وُضع الاخوة في مخيَّمات للاجئين في سيندا ميسال، المنطقة الواقعة في مثلث بين حدود ملاوي، موزمبيق، وزامبيا. ولكن الامراض انتشرت بسرعة بسبب الظروف غير الصحية. وفي فترة قصيرة مات اكثر من ٣٥٠ شخصا غالبيتهم من الاولاد. وسرعان ما وصلت اخبار سوء حال اللاجئين الى اخوتهم المسيحيين في اماكن اخرى. فأتت مؤن الاغاثة بكميات هائلة. وتبرع شهود يهوه في جنوب افريقيا بأطنان من الخيم، الملابس، والحاجات الاخرى الضرورية جدا. وصل الى المخيَّمات عدد من الشاحنات يترأسها كارِل دو ياهِر ودنيس ماكدونالد من فرع جنوب افريقيا. ولم تُهمل الحاجات الروحية. فجلبت احدى الشاحنات ٢١ صندوقا كرتونيا يتضمن كتبا مقدسة ومساعدات على درسه. وكم كان الاخوة الملاويون سعداء برؤية البرهان على المحبة المسيحية الحقيقية التي وصفها يسوع! — يوحنا ١٣:٣٤، ٣٥.
ولكن سرعان ما ادرك الاخوة انهم زُوَّار غير مرحب بهم في زامبيا. وبحلول كانون الاول (ديسمبر) ارغمت السلطات في زامبيا اللاجئين على الرجوع الى ملاوي. فيا لها من خيبة امل! وهل كان الاخوة سيستسلمون اذ بدا انه لا مجال للهرب؟ يصف مايكل يادانڠا الحالة هكذا: «خسرت اسناني بسبب رفضي شراء بطاقة. وخسرت عملي بسبب رفضي شراء بطاقة. وضُربت بعنف، أُتلفت ممتلكاتي، أُجبرت على الفرار الى زامبيا — كل ذلك بسبب رفضي شراء بطاقة. فلن اشتري واحدة الآن». لقد حافظوا على استقامتهم. وهكذا يصحّ قول صاحب المزمور: «كثيرة هي بلايا الصدِّيق ومن جميعها ينجِّيه الرب». — مزمور ٣٤:١٩.
لقد برهن الشهود الملاويون هؤلاء، رجالا ونساء، عن ايمان يضاهي ايمان خدام اللّٰه المذكورين في الكتاب المقدس في العبرانيين الاصحاح ١١. ومثل عباد يهوه هؤلاء في الماضي، عُذب الاخوة الملاويون «لأنهم كانوا لا يقبلون فداء»، بواسطة المسايرة او نكران ايمانهم بيهوه اللّٰه. ومثلهم ‹عانوا امتحان السخرية والجَلد فضلا عن القيود والسجون›. ومثلهم ايضا «لم يكن العالم يستحقهم». — عبرانيين ١١:٣٥، ٣٦، ٣٨.
اللجوء الى موزمبيق
ومرة اخرى واجهوا اضطهادا شديدا في ملاوي عند عودتهم من زامبيا. فغدا البقاء في ملاوي مستحيلا. ولذلك هربوا من جديد ولكن هذه المرة الى موزمبيق. وفي ذلك الوقت كانت موزمبيق لا تزال تحت سيطرة الپرتغال. فعاملت السلطة هناك الاخوة معاملة جيدة. والاخوة العائشون في جنوب البلاد هربوا عبر الحدود بالقرب من مولانجي الى مخيَّمات اللاجئين في كاريكو حيث بقي كثيرون حتى سنة ١٩٨٦.
من السهل الدخول الى موزمبيق عبر حدود ملاوي الغربية بين مدينتي ديدزا ونتشو. ومن هناك كان على الاخوة عبور الطريق الرئيسي، الذي كان بمثابة الحدود، من اجل ايجاد الامان. كانت المخيَّمات في هذا الجزء من موزمبيق تقع بالقرب من ملانڠيني حيث هرب الاكثرية.
أوت مخيَّمات كاريكو والمخيَّمات القريبة من ملانڠيني حوالي ٠٠٠,٣٤ رجل، امرأة، وولد. وقد نزحت جماعات بكاملها من شعب اللّٰه مع شيوخها الى المخيَّمات. وأمرت سلطات ملاوي ان لا يساعد احد الاخوة في تنقلاتهم.
فرض الاستقرار في المخيَّمات طريقة حياة جديدة على خدام يهوه هؤلاء. ففي بادئ الامر كان الامر صعبا من الناحية المادية، فقد كانوا يبتدئون من الصفر. ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى بُنيت البيوت في خطوط مستقيمة. وقد جرت المحافظة على نظافة المخيَّمات وترتيبها. وابتدأ العديد من الاخوة يزرعون محاصيلهم الخاصة زيادة على حصص الطعام التي توزعها عليهم الجمعية ومنظمات الاغاثة الدنيوية. وتمكن البعض من بيع منتوجات يدوية او العثور على وظائف في دوام جزئي في القرى المجاورة. ورغم انهم لم يكونوا اغنياء ماديا، فقد كان اخوتنا مكتفين بضروريات الحياة. (١ تيموثاوس ٦:٨) وكانوا اغنياء روحيا.
التنظيم داخل المخيَّمات
خدم شيوخ امثال كنيدي أليك ديك، موريس مابڤومبي، ويلارد ماتينغو — وغيرهم لاحقا — كلجنة البلد. وكانوا محترمين ومحبوبين بسبب جهودهم المتواصلة من اجل تأمين الحاجات الروحية للاخوة. فهؤلاء الشيوخ الاولياء عملوا بحسب حض الكتاب المقدس: «ارعوا رعية اللّٰه التي في عهدتكم». (١ بطرس ٥:٢) وقد نظموا العديد من النشاطات الروحية في المخيَّمات. ورتب الشيوخ بداية روحية لكل يوم اذ كانوا يناقشون الآية اليومية متَّبعين الروتين المألوف في معظم بيوت شعب يهوه. وكانت دروس الكتاب المقدس من خلال مجلة برج المراقبة والخطابات العامة وحتى المحافل تعقد بشكل منتظم. فقد شعر اللاجئون بأن تدابير روحية كهذه كانت ضرورية.
في البداية كانت كل الاجتماعات تعقد في مكان واحد في وسط المخيَّم — المنصة في الوسط. وهنا كان يجتمع الآلاف يوميا من اجل تلقي الارشادات من الكتاب المقدس وأيضا لنيل التوجيه في ما يتعلق بمهمات متنوعة في المخيَّمات. لاحقا شُجعت الجماعات على بناء قاعات ملكوت لها وعقد الاجتماعات هناك. وأخيرا نُظمت خمس دوائر في مختلف المخيَّمات.
لقد استفاد كثيرا الاخوة في لجنة البلد واخوة آخرون من التدريب الذي نالوه من المرسلين قبل الحظر. فقد ساعدهم ذلك على تنظيم المخيَّمات. وبشكل عام نُظِّمت المخيَّمات بطريقة مماثلة لتنظيم محفل كوري كبير. وفُرزت اقسام عديدة للاهتمام بحاجات متنوعة مثل التنظيف، توزيع الطعام، وطبعا الامن.
رغم ان معظم شهوه يهوه كانوا في هذا الوقت عائشين خارج ملاوي لم يجلب ذلك الاكتفاء لبعض المضطهدين. فمن وقت الى آخر كان الاعداء يعبرون الحدود ويعتدون على الاخوة العائشين في المخيَّمات القريبة. لذلك كان لا بد من اتخاذ بعض التدابير الوقائية الخصوصية من اجل حماية شعب يهوه.
عيَّنت لجنة البلد عددا من الاخوة ليكونوا حراسا على جميع مداخل المخيَّمات. وعُين الاخ باتسون لونڠوي ليشرف على الحراس في مخيَّم ملانڠيني. وشمل تعيينه الكثير من التنقل في المخيَّم لتفقُّد الاخوة في مواقعهم المتعددة. وسرعان ما اكتسب اللقب «٧ الى ٧». فكل يوم كان الاخ الامين لونڠوي يشاهَد في ارجاء المخيَّم من الصباح حتى المساء (من السابعة الى السابعة) وهو يقوم بدوره في حماية اخوته واخواته المسيحيين. وما زال معظم الاخوة ينادون الاخ باتسون لونڠوي بلقب «٧ الى ٧». ومع ان البعض ربما نسوا اسمه الحقيقي، فإن كل من قضى وقتا في مخيَّم ملانڠيني يتذكر الخدمة الامينة التي قام بها هذا الاخ.
لم يؤمِّن الانتقال الوقتي الى موزمبيق الراحة من الاضطهاد فحسب ولكنه ساعد على تجهيز الاخوة من اجل مواجهة التجارب والتحديات الكامنة امامهم. فقد قرَّبهم ذلك اكثر من اخوتهم واخواتهم، وتعلموا الاتكال اكثر على يهوه. قال ليمون كابوازي الذي خدم لاحقا كناظر جائل: «كانت هنالك حسنات وسيئات. من الناحية المادية كنا فقراء ولكن روحيا كان يجري الاعتناء بنا جيدا. ولأننا عشنا معا، تعرفنا بإخواننا اكثر وازدادت محبتنا لهم. وقد ساعدنا ذلك بعد ان عدنا الى ملاوي».
مطارَدون من جديد!
للأسف، كانت فرصة اللاعنف هذه قصيرة. فعندما نالت موزمبيق استقلالها في حزيران (يونيو) ١٩٧٥ سيطرت روح القومية على هذا البلد ايضا. ولم يفهم حكام هذا البلد الجدد حياد شعب يهوه. وعندما رفض الاخوة المسايرة أُرغموا على الرحيل من ملانڠيني عبر الحدود الى ايدي مضطهِديهم.
صادف اللاجئون العائدون على الحدود وزير المنطقة الوسطى السيد ج. ت. كومبويزا باندا. فقال لهم: «غادرتم ملاوي من تلقاء نفسكم والآن ترجعون من تلقاء نفسكم. عودوا الى ضيعكم وتعاونوا مع الحزب هناك». واضاف مشيرا الى روّاد ملاوي الشباب واعضاء رابطة الشباب: «ان اولادي موجودون كي يتأكدوا من تعاونكم مع الحزب». لم يعطِ ذلك اي امل بأن الاوضاع ستتحسن.
تمكن بعض الذين أُرغموا على العودة الى ملاوي من عبور البلد والخروج منه عبر الحدود الجنوبية الشرقية للانضمام الى اخوتهم في مخيَّمات ميلانڠي في موزمبيق. ولكن هذا لم يكن حلا لكل المشاكل. على سبيل المثال، ان فيدِسي ندالاما، الذي خدم كناظر دائرة في هذه المنطقة الى ان انحلت مخيَّمات ميلانڠي في اواخر ثمانينات الـ ١٩٠٠، خسر زوجته عندما هاجمت عصابات المخيَّم. لكن هذا الاخ الوديع يستمر في خدمة يهوه بغيرة.
اضطر الذين أُجبروا على العودة الى ملاوي سنة ١٩٧٥ الى البقاء هناك. وغصَّت الطرقات بالآلاف من هؤلاء وهم يقومون بالرحلة المضنية رجوعا الى قراهم. وكان ذلك بالنسبة الى كثيرين منهم بمثابة انتحار.
في البداية سُمح للغالبية بأن يعودوا الى قراهم. ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى وصل «الشباب» محاولين ارغام شهود يهوه على ‹التعاون مع الحزب›. فأحاطت مجموعات من رابطة الشباب ببيوت الاخوان مطالبينهم بشراء بطاقات عضوية في الحزب. وكان الرفض لسان حال الجميع. فجلب عليهم هذا الرفض كل انواع المعاملة الوحشية. وقد شاركت حتى النساء والاولاد في ضرب هؤلاء المسيحيين الابرياء. وحصلت ايضا اعتداءات جنسية منحرفة على الرجال كما على النساء. وحصلت ايضا حوادث مثيرة للاشمئزاز لرجال ونساء مسيحيين جرى ربطهم معا في محاولة لارغامهم على اقتراف الفساد الادبي.
وحتى في الروتين الطبيعي للحياة اليومية واجه شهود يهوه تحديا مستمرا لاستقامتهم. ففي المستشفيات، الاسواق، المدارس، ووسائل النقل العام كانت رابطة الشباب بالمرصاد لكل من لا يحمل بطاقة الحزب. وتماما كما ذكرت الكلمات في كشف ١٣:١٦، ١٧ لم يقدر احد ان «يشتري او يبيع» او يتابع حياته العادية دون امتلاك ‹سمة الوحش›، برهانا انه مؤيد لنظام العالم السياسي.
ثبت شهود يهوه خلال كل هذه المعاناة ولم يسايروا على الاطلاق. ولكنَّ المضطهدين لم يستسلموا بل كان المزيد سيأتي.
الالقاء في السجون
جرى القاء القبض على جماعات بكاملها لشهود يهوه وسيقوا الى مراكز اعتقال احيت ذكريات معسكرات الاعتقال النازية. من المحزن انه في بعض الحالات أُبعد الاولاد والاطفال عن والديهم المضطربين. وقد تُرك بعض هؤلاء الصغار في عناية الاقارب غير الشهود. وتُرك البعض الآخر دون عناية احد. وبحلول كانون الثاني (يناير) ١٩٧٦ كان هنالك اكثر من ٠٠٠,٥ رجل وامرأة في سجون ومعسكرات البلد.
في البداية كانت الاوضاع رهيبة. وقد سبب الاكتظاظ امراضا مميتة. وقساوة الحراس زادت الطين بلَّة. فقد عيَّر احدهم الشهود قائلا: «كما امرت الدولة سنجعلكم جَرّاراتنا». يتذكر باستون موزِس نيريندا انه كثيرا ما أُجبر ان يعمل من قبل شروق الشمس الى ما بعد غروبها دون ايّ توقف للراحة او للطعام!
تمكَّن اخ من تهريب رسالة صغيرة على ورق الحمام من مخيَّم دزاليكا للاعتقال الرديء السمعة، تقول: «يُجبر المرء على العمل رغم كونه او كونها مريضا جدا. والاولاد المرضى يجري ارسالهم الى مستشفى دُوا . . . ولكنهم لا يعتنون بالمرضى الذين هم من شعب يهوه. لذلك نحن ندعو مستشفى دُوا مسلخ شعب يهوه».
وبدا كأن حراس السجن كانوا يجربون كل وسيلة ممكنة من اجل تثبيط عزيمة اخوتنا وأخواتنا وكسر استقامتهم. لكنهم لم ينجحوا. فقد تعلم شعب يهوه تحمل الشدائد. تذكر ملاحظة مقوية للايمان كُتبت على قُصاصة من كيس اسمنت: «اخبار سارة. ان اوجه الاخوة والاخوات كلها سعيدة بالرغم من الاضطهاد وحمل الحجارة».
غصَّ مكتب الرئيس الدكتور باندا برسائل الاستنكار التي اتت من بلدان عديدة — من شهود يهوه واشخاص عديدين آخرين. لكن لم تلقَ هذه الرسائل اذنا صاغية وبقي اخوتنا في السجن.
«كلمة اللّٰه ليست مقيَّدة»
تمكن الاخوة بالرغم من هذه الحالة من عقد الاجتماعات المسيحية في السجون. فقد كانت المطبوعات تهرَّب وتوزع على الاخوة. وكيف ذلك؟ يقول باستون موزِس نيريندا عن الكتاب السنوي الذي وصل الى سجن دزاليكا:
«كان هنالك اخ ليس سجينا يعتني بحدائق السجن. ولأن الحراس كانوا معتادين رؤيته داخلا وخارجا دائما، لم يكونوا يفتشونه. فخبأ الكتاب تحت قميصه عندما كان يأخذ الخُضر للحراس. وتمكن قبل ذهابه ان يسلم الكتاب لأحد الاخوة. وكم اسعدنا الحصول على الكتاب السنوي لأنه كان يحتوي في ذلك الوقت على كل الآيات اليومية والتعليقات عليها. وكان علينا العمل بسرعة من اجل نسخ الآيات والتعليقات على قطع من ورق الحمام. واستهلكنا العديد من اللفائف. وبعد اسبوعين كشف احد الحراس امر الكتاب. ولكن بحلول ذلك الوقت كنا قد وزعنا نسخا منه في كل المخيَّم. حتى اننا تمكنّا من ارسال نسخ منه الى القسم الذي احتجزت فيه اخواتنا».
جرى الاحتفال بذكرى موت المسيح في فرق صغيرة داخل دزاليكا. وقد وصلت رسالة الى الجمعية تقول ان «٦٠١,١ حضروا الاجتماع الذي عُقد في اليوم المحبب، ١٤ نيسان (ابريل)». وكان هنالك ١٣ شخصا تناولوا من الرمزين في دزاليكا. وذكر التقرير ايضا: «رنمت كل زنزانة تقريبا ترانيم قبل الخطاب، وكذلك بعد الاجتماع».
مع الوقت اخذت الاوضاع تتحسن الى حدّ ما داخل السجن. وأصبح بعض الحراس وديين مع الاخوة. حتى ان حارسا منهم اعتنق الحق بعد ان تقاعد عن عمله في السجن، وهو الأخ ماكومبا. وابنه ايضا نذر حياته ليهوه. فقد تمت كلمات الرسول بولس: «كلمة اللّٰه ليست مقيَّدة». — ٢ تيموثاوس ٢:٩.
خدمة يهوه تحت الحظر
ومرة اخرى اخذت وطأة الاضطهاد تخف بشكل تدريجي. وبحلول سنة ١٩٧٩، كان قد اطلق سراح معظم شهود يهوه من السجن. وقد اثار ذلك فضول جيرانهم. «لماذا دخلتم السجن؟»، «لماذا يضطهد كل واحد شهود يهوه؟». وقد مهَّدت اسئلة كهذين الطريق لمناقشات في الكتاب المقدس، وأصبح العديد منهم خداما ليهوه. لقد استطاعوا ان يفهموا بوضوح انه إذا اصبحوا شهودا ليهوه فسيصيرون هم ايضا مبغضين كما انبأ يسوع؛ وأدركوا ان شهود يهوه يمارسون حقا الدين الحقيقي. (لوقا ٢١:١٧؛ يعقوب ١:٢٧) ومن المثير للاهتمام ان عدد المعتمدين الجدد الذين اتوا من خلال تقديم الشهادة لهم يفوق عدد المعتمدين من اولاد شهود يهوه.
ولكن كيف كانت مطبوعات الكتاب المقدس التي استُعملت في الاجتماعات وفي خدمة الحقل تدخل البلاد في ذلك الوقت؟ في اواخر سبعينات الـ ١٩٠٠ أُوكل الى فرع زامبيا الاهتمام بحقل ملاوي وذلك لأن زامبيا وملاوي تتشاركان في الحدود نفسها على خلاف زمبابوي. وكانت مواقع عدد من مخازن المطبوعات في زامبيا موجودة بمحاذاة حدود ملاوي. وكان الاخوة القليلون جدا الذين عندهم عربات آلية يذهبون الى زامبيا ويأخذون صناديق المطبوعات الكبيرة التي كانت تهرَّب بعد ذلك الى ملاوي. وكانت هذه الوسيلة فعالة جدا لأن حواجز التفتيش كانت قليلة في بداية سنوات الحظر.
وإذ توفَّرت الكتب والمجلات الضرورية بين ايدي الاخوة، صار بالإمكان عقد الاجتماعات. وطبعا كان من المستحيل الاجتماع علانية في قاعة الملكوت. ولكن عوضا عن ذلك، كان الاخوة يجتمعون في السر، وغالبا ليلا، بعيدا عن مسامع الجيران وغيرهم من القرويين. وكان بعض الاخوة يملكون اراضي خارج القرى ورثوها عن اجدادهم. فشكلت هذه مكانا ملائما للاجتماع. كان الاخوة يذهبون الى الاجتماعات بفرق صغيرة وذلك لأن سير عدد كبير من الناس الى الاجتماع في الوقت نفسه كان سيلفت الانتباه طبعا. وكان الاجتماع يبدأ حين يصل الجميع. لم تكن ترانيم الملكوت ترنم بأصوات عالية بل بأصوات خافتة. ولم يكن هنالك تصفيق مدوٍّ بعد خطاب جيد، بل مجرد حف لليدين بنعومة.
ورغم ذلك قدَّر كل من في الاجتماعات الطعام الروحي في حينه وشعروا بأنهم متحدون بإخوتهم وأخواتهم حول العالم الذين يتمتعون بالبرنامج التعليمي نفسه. وقد جهزت هذه الاجتماعات الاخوة بشكل جيد لعمل الكرازة المهم جدا. وكان عليهم القيام به بحذر شديد.
سعاة شجعان
رغم ان المطبوعات كانت تدخل ملاوي بسهولة لفترة من الوقت، غير ان الحالة تغيرت في اواسط ثمانينات الـ ١٩٠٠. فقد بدأت الحواجز تظهر في كل انحاء البلاد. وصار رجال الشرطة اكثر حذرا وهم يفتشون السيارات. فلم يعد باستطاعة الاخوة استعمال السيارات في نقل المطبوعات من المخازن في زامبيا. فما العمل؟
استُعملت الدراجات بشكل مكثف. وتمكن الاخوة من تحاشي الحواجز وعبور الحدود راكبين الدراجات عبر الدغل. فكان يلزم الكثير من الشجاعة والايمان القوي كي يخدم المرء كساعٍ. ولكن خدمتهم الولية كافأها يهوه اللّٰه بشكل واضح. تأملوا في هذين الاختبارين:
كان ليتسون ملونڠوتي على دراجته في منطقة ليلونڠواي ومعه في الخلف حقيبة فيها مطبوعات. فخاف كثيرا عندما شاهد حشدا كبيرا من الناس بمن فيهم رجال الشرطة وروّاد ملاوي الشباب مصطفّين على الطرقات يترقبون زيارة الرئيس. وما ارعبه هو ان الحقيبة وقعت فيما كان ينعطف. فوقعت المجلات على الارض امام الجميع. وعندما تجمَّع الناس حوله توقع الاسوأ. ولكن سرعان ما ادرك انهم كانوا فقط يحاولون مساعدته على وضع المجلات في الحقيبة من جديد. فكم ارتاح رغم انه كان خائفا بعض الشيء! ثم انطلق في سبيله شاكرا يهوه لأنه اعمى عيون رجال الشرطة وروّاد ملاوي الشباب.
كان فْرِد لاميك ڠويريزا يحمل وديعة مهمة من بريد الجماعة. وفيما هو منحدر بسرعة من تل بالقرب من كاسونڠو على دراجته صادف حاجزا لرابطة الشباب. وقبل الوصول اليه توقف وعاد مسرعا من حيث اتى. فصرخ اعضاء من رابطة الشباب طالبين منه ان يتوقف. وسألوه بصوت عال: «الى اين انت ذاهب؟». اجاب الساعي: «كنت مسرعا جدا، ولذلك تجاوزت المنعطف!». ولدهشته قبلوا حجته. فشكر يهوه على حمايته.
ولكن أُلقي القبض على عدد من هؤلاء الاخوة الشجعان وقضوا وقتا في السجن. وكان معظمهم ارباب عائلات.
«سائح» دائم
ابتداء من سنة ١٩٨٧، قام ادوارد فينتش، عضو في لجنة الفرع في زامبيا، بزيارات منتظمة لملاوي. فقد كانت ملاوي مقصدا مفضَّلا عند السياح، وكان احد اقرباء الاخ فنيتش يعيش في بلانتاير، لذلك سَهُل عليه ان يدخل البلد لقضاء «عطلة». عندما كان إد فينتش بعمر ١٩ سنة فقط ويخدم كفاتح في روديسيا، بلده الأم، انضم الى ڠيدو أوتو في بعض رحلاته الى ملاوي لملء قبو عائلة مَكْلَكي السري. والآن اذ تخرَّج الاخ فينتش من مدرسة جلعاد عُيِّن له دور اضافي يتعلق بملاوي.
كان الدافع وراء زياراته قلق الفرع في زامبيا ازاء عدم دخول ما يكفي من مطبوعات الكتاب المقدس الى ملاوي. وعندما التقى الاخ فينتش لجنة البلد، تأثَّروا بوجود ضيف اجنبي هناك ليشجعهم وليزوِّد توجيها اضافيا. فعُقدت سلسلة من الاجتماعات السرية مع لجنة البلد، نظار الدوائر والكور والسعاة. كان الجميع متحمسين للقيام بدورهم في الاعتناء بحاجات الجماعات. والمطبوعات التي كانت قد تكدَّست في المستودعات في زامبيا قرب حدود ملاوي عادت وتدفقت الى ملاوي بانتظام.
كان الاخ فينتش يقوم برحلات «سياحية» تشجيعية كثيرة الى ملاوي، وغالبا برفقة زوجته ليندا. فسافر في طول البلد وعرضه، لا لارتياد الاماكن السياحية، بل لتشجيع وتدريب اكبر عدد ممكن من الاخوة. وقد قدَّر زياراته بشكل خصوصي الاخوة الذين كانوا يأخذون القيادة خلال الحظر. فكانوا شاكرين على المحبة والصبر اللذين اظهرهما عندما عمل معهم.
مساعدة السعاة
طبعا، كان من المستحيل ان يبلغ السعاة على دراجاتهم كل الجماعات في ملاوي. لذلك جرى شراء شاحنة صغيرة سنة ١٩٨٨ واستُخدمت لتوزيع المطبوعات داخل البلد على نطاق واسع. وصار السائقون يعرفون المناطق التي كانت تُقام فيها الحواجز فيتجنبونها بحذر. وقدَّم ايضا اخوة آخرون شجعان خدماتهم. منهم ڤيكتور لولكر، الذي خدم في الجماعة الانكليزية في بلانتاير. فغالبا ما كان، في جُنح الليل، ينقل المطبوعات الى المستودعات السرية في البلد مستخدما سيارته الخاصة ومعرِّضا نفسه لخطر كبير. وقبل سنة ١٩٧٢ قدَّم سيريل لونڠ، الذي يعيش اليوم في جنوب افريقيا، مساعدة مماثلة. وتمكَّن ايضا من ان يجلب لإخوتنا مواد طبية ضرورية جدا وبأسعار مخفَّضة من صيدلية متعاطفة.
والعامل المهم في تزويد الطعام الروحي هو الموافقة التي منحها المركز الرئيسي للجمعية في بروكلين على طبع المجلات على الورق المخصَّص لطبع الكتاب المقدس، والكتب بغلف ورقية، ومقالات درس برج المراقبة بتصميم خاص صار يُعرف بالمجلات المصغَّرة. وعندما التقى إد فينتش سرًّا السعاة في نيسان (ابريل) ١٩٨٩ وأخبرهم عن هذه الطبعات الخصوصية الجديدة من مطبوعاتنا، تأثَّروا الى حد انهم ذرفوا الدموع. فكم قدَّروا تدابير يهوه الحبية! لقد صار بإمكانهم الآن ان يحملوا ضعفَي ما كانوا يحملونه من مطبوعات.
كان من السهل ثَني هذه المطبوعات وإخفاؤها. حتى انه كان يمكن قراءة المجلات المصغَّرة علنا في وسائل النقل العامة، ودون ان يدري احد ما هي هذه! لقد عمل «العبد الامين الفطين» حقا وفق التفويض المعطى له بأن يعطي ‹الطعام الروحي في حينه›. (متى ٢٤:٤٥-٤٧) وقد ساعد هذا «الطعام» الثمين خدام يهوه على المحافظة على استقامتهم تحت الشدائد.
جماعة فريدة
من المؤسف انه في سنة ١٩٩٠ اصطدمت الشاحنة الصغيرة التي كانت الجمعية تستخدمها بسيارة للشرطة. وعندما اكتشفت الشرطة ما كان موجودا في الشاحنة، أُوقف الاخوان على الفور وأُرسلا الى السجن. وكان احدهما ليمون كابوازي.
عند الوصول الى سجن تشيتشيري، لاحظ الاخ كابوازي ان الاخوة العشرة الذين سبق ان احتُجزوا هناك كانوا بحالة يُرثى لها. فقد كان السجناء «الأقدم» يسرقون كل الحِرامات ولا يسمحون للاخوة بعقد اجتماعاتهم. فأدرك الاخ كابوازي انه لا بد من فعل شيء ما. لذلك طلب من زوجته كريسي عندما زارته ان تُحضر الى السجن بعضا من ثيابه الخاصة. فوزَّعها على اخوته ليتمكنوا من ارتداء ثياب جيدة. فتأثَّر السجناء الآخرون. ثم حاول الاخ كابوازي ان يصادق السجناء «الأقدم» الذين كانوا يحتكرون كل الحِرامات. فكيف فعل ذلك؟ يقول الاخ كابوازي: «رتَّبت ان يشتري لي احد الاخوة عشرة كيلوڠرامات [٢٠ پاوندا] من السكر. فكان كل كيلوڠرام [٢ پاوندا] من السكر يشتري غطاء». و «اشترى» ايضا صداقة السجناء «الأقدم»، الذين سمحوا عندئذ بعقد الاجتماعات دون عائق.
وهكذا بإدارة اجتماعات قانونية في فناء السجن، سرعان ما تشكَّلت جماعة. وما كان اسمها؟ جماعة الزاوية — لأن الاجتماعات كانت تُعقد في احدى زوايا فناء السجن. وعلى مرّ الوقت، صارت جماعة الزاوية تضم اكثر من ٦٠ شخصا يحضرون قانونيا. وبوجود ثلاثة شيوخ وخادم مساعد جرى الاعتناء جيدا بهذه الجماعة الجديدة. وكانت مقاطعتها ايضا مثمرة جدا. فكان هنالك دائما شخص «في البيت» للتحدث اليه! ومن الدروس الخمسة في الكتاب المقدس التي ادارها الاخ كابوازي هناك، اعتمد شخصان!
طعام «صحي»
لكنَّ احدى المشاكل التي واجهت جماعة الزاوية هي طريقة ادخال مخزون المطبوعات الى السجن لاستخدامه في الاجتماعات. هنا ايضا دبَّر الاخ كابوازي خطة. فقد رتَّب ان يعود اخ أُطلق سراحه من السجن قبل وقت قصير ومعه حزمة من الطعام. وعندما فتَّش حراس السجن الحزمة، لم يروا الا جذور المنيهوت، طعام شعبي اساسي في ملاوي. لكنهم لم يعرفوا الى ايّ حد كان هذا المنيهوت «مغذيا» و «صحيا»! فكانت قطع رقيقة قد أُزيلت من وسط كل جذر منيهوت. وفي هذه الجذور وُضعت المجلات المصغَّرة ملفوفة، وأجزاء صغيرة من كتاب المباحثة و فاحصين الاسفار المقدسة. وبعد توزيع هذا الطعام «الصحي» مرتين صار لدى الاخوة كل ما يحتاجون اليه لاستخدامه في اجتماعاتهم ودروس الكتاب المقدس. يتذكَّر الاخ كابوازي انه كانت في حوزتهم اعداد كثيرة جدا من المجلات المصغَّرة حتى انهم لم يضطروا ولا مرة واحدة خلال فترة الثمانية اشهر التي قضاها في السجن الى تكرار مقالة في درس برج المراقبة.
من المفرح ان جماعة الزاوية لم تعد موجودة اليوم. فشعب يهوه في ملاوي ليسوا مجبرين على عقد اجتماعاتهم خلف قضبان السجن بعد الآن!
اخواننا يكسبون الاحترام
صارت الهجومات على شهود يهوه متقطعة تدريجيا. ومع ذلك كانت اخبار الحوادث لا تزال تتوارد من وقت الى آخر. الا ان اخوتنا ثبتوا كالعادة. ونتيجة لذلك، بدأ كثيرون يُظهرون الاحترام لشعب يهوه.
في منطقة متْشِنجي، ارسل الزعيم مْزاما رسالة «الى شعب اللّٰه الاحباء الذين يعيشون ضمن نطاق سلطتي». ذكر فيها: «كل الشهود الذين يعيشون في منطقتي التي تتألف من ١٣ قرية هم شعب صالح جدا». وبعد ان مدح الشهود على صدقهم في دفع الضرائب، التصاقهم بالمقاييس الادبية السامية، نظافتهم، احترامهم واجتهادهم، ختم: «اشجعكم كلكم يا شهود يهوه على الاستمرار في الالتزام بقوانينكم».
في اوائل سنة ١٩٩٠، كان أوستن تشيڠودي بين الـ ٢٢ شخصا الذين اعتقلهم اعضاء من «رابطة الشباب» في محفل دائري في ناتِنجي، على مقربة من بلانتاير. وبعد ان قضى الاخ تشيڠودي سنة ونصفا في السجن، وكان آنذاك في اواخر سبعيناته، أُطلق سراحه. فتأثَّر بعمق بعض اعضاء «رابطة الشباب» برؤية هذا الرجل المسن لا يزال حيًّا وأمينا لالهه. حتى انهم طلبوا دروسا في الكتاب المقدس. إلّا ان الاخ تشيڠودي كان حذرا جدا، ولم يرغب في تعريض اخوته للخطر. لكنَّ الشباب اصرّوا. اخيرا، بدأ عقد الدروس. ومن المفرح ان بعضهم تقدَّم الى المعمودية، حتى ان قليلين يخدمون اليوم كشيوخ وخدام مساعدين.
صموئيل دزاوُنونڠا هو اخ امين آخر احتمل اربع عقوبات سجن في دزاليكا بسبب موقفه الحيادي. ثم في سنة ١٩٨٩ اعتُقل للمرة الخامسة بسبب اصراره مرة اخرى على عدم شراء بطاقة حزبية. فأخذه اعضاء من «رابطة الشباب» الى مخفر الشرطة في ساليما. وكم اندهشوا عندما قال لهم الضابط المسؤول: «اذا اردتم ان يدخل هذا الرجل السجن مجددا، فمن الافضل ان تستعدوا للانضمام اليه. ومن الافضل ان تعلموا ما تحمَّله هذا الرجل دون ان يساير ابدا على ايمانه. فهل انتم مستعدون للقيام بذلك»؟ فأجابوا «كلا». عندئذ أضاف الضابط: «في هذه الحالة، من الافضل ان تُعيدوا هذا الرجل الى قريته وتكفّوا عن ازعاجه. فهو لن يساير ابدا على ايمانه». وهكذا أُعيد الاخ دزاوُنونڠا بالسيارة الى قريته. وعند وصولهم، استُدعي وجيه القرية وحُذِّر الا يسمح بازعاج اخينا مجددا. ومن ذلك الحين فصاعدا صار بالامكان رؤية الاخ دزاوُنونڠا يقرأ مجلتَي برج المراقبة و استيقظ! ويشهد لجيرانه — علنا ودون خوف من ان يُزعج.
الشهادة غير الرسمية
خلال الحظر جرى القيام بالشهادة غير الرسمية. ولكن عندما لم تكن المقاومة شديدة جدا كان يجري القيام بها بجرأة اكبر. وفي اوائل سنة ١٩٩٠، قُدِّم في بلدة نتشو كتاب الاستماع الى المعلم الكبير الى شابة اظهرت اهتماما بحق الكتاب المقدس. وبما انها لم تكن تُجيد القراءة، شجَّعها الاخوة ان تطلب من شخص ان يقرأ عليها الكتاب. وحذَّرها الاخوة: «ولكن ينبغي ان تجدي شخصا تثقين به». فوضعت ثقتها في اخيها سايمون الذي كان آنذاك يعيش معها. وسرعان ما ادرك سايمون رنة الحق وهو يقرأ على اخته. وعلى مرّ الوقت ابتُدئ معه درس قانوني في الكتاب المقدس. قال سايمون: «رأيت انا بنفسي من الكتاب المقدس ان المسيحيين الحقيقيين سيُضطهدون. وهكذا عرفت ان شهود يهوه هم الدين الحقيقي». (٢ تيموثاوس ٣:١٢) وإذ احرز سايمون مانڠاني تقدُّما سريعا اعتمد في تلك السنة عينها، وهو يخدم اليوم في بيت ايل في ليلونڠواي.
في بلانتاير، حملت عاصفة ماطرة مفاجئة نتائج غير متوقعة لـ بِستُن مادييا، فاتح قانوني. فاحتمى تحت شرفة كنيسة صغيرة. وبينما كان ينتظر انحباس الامطار، سمع صدفة بعض الناس يسألون القسيس، «هل يذهب كل الصالحين الى السماء»؟ فلم يستطع القسيس الاجابة. وإذ تاق الاخ مادييا الى مساعدتهم دخل الكنيسة وعرض ان يجيب عن السؤال. ولدهشته قبلوا. فتبع ذلك اسئلة كثيرة اضافية، ولم يمضِ وقت طويل حتى ابتدئ بإدارة سبعة دروس في الكتاب المقدس.
انتهز الاحداث في المدرسة ايضا الفرص لتقديم الشهادة. فعندما طُلب من دوروثي ناكولا ان تقدِّم مقالة، قرَّرت ان تكتب عن اصل عيد الميلاد. فتأثَّر استاذها جدا حتى انه جعل الاساتذة الآخرين يرون المقالة. فسألوا: «من اين حصلت على المعلومات؟». ونتيجة لذلك، وزَّعت دوروثي ١٧ مجلة على اساتذتها.
«عمي العزيز»
مع انه كان على خدام يهوه ان يحتملوا الكثير من الضيق، لم يشعروا قط بأنهم وحدهم. فقد كانوا يعلمون ان يهوه يدعمهم، وكانوا يثقون بمحبة ودعم معشر الاخوة العالمي.
فضلا عن الامور التي قام بها الفرعان في روديسيا (الآن زمبابوي) و زامبيا، عمل الاخوة المحليون الناضجون بكد ليتأكدوا ان الرعية في ملاوي كانت تنال العناية الحبية والطعام الروحي. ولعبت لجنة البلد، او مكتب المستخدَمين كما كانت تُدعى، دورا مهما في ذلك. فماذا شمل عملهم؟ يوضح ليمون كابوازي الذي خدم في لجنة البلد طوال سنوات عديدة: «في البداية كانت مسؤوليتنا التأكد من وصول المطبوعات الى اخوتنا. لذلك قضينا وقتا طويلا في تنظيم عمل السعاة ونظار الدوائر وتشجيعهم. وزرنا ايضا الاخوة الذين كانوا ضحايا الاضطهاد لنعرف كيف يمكننا ان نساعدهم ونقويهم».
كانت الرسائل التشجيعية والمطبوعات ترسَل الى مختلف الجماعات. وكان استعمال الخدمات البريدية خطرا، لذلك طوَّر الاخوة رموزا وألقابا خصوصية لتجنب فضح واحدهم الآخر. فكانت الرسائل من لجنة البلد توقَّع بالحرفين «م. م.» وبهذه الطريقة لا تتمكن السلطات من فهم ما تعنيه هذه الرسائل حتى لو وقعت احداها بين ايديهم. وكان نظار الدوائر يُعرفون برقم الدائرة التي يخدمونها، وكان يُشار الى الزيارات الدائرية بأنها «اسابيع خصوصية». وحتى اليوم، لا يزال يُسمع البعض وهم يقولون، «سيزورنا م-١١ قريبا من اجل اسبوعنا الخصوصي». وماذا عن لجنة البلد نفسها؟ كانت الرسائل من كل انحاء البلد توجَّه الى «عمي العزيز»، وكانت الاجوبة تُرسل الى «ابناء اخوة» و «بنات اخوة» مختلفين. وقد ساعد اقتراب حذر كهذا على المحافظة على الاتصال خلال سنوات الحظر الطويلة.
والشيوخ الذين خدموا في لجنة البلد اظهروا حقا ما يعنيه طلب مصالح الملكوت اولا. (متى ٦:٣٣) والبعض، مثل إليسون ندجونڠا، هاڤري كْوييا، أدسون مبنديرا، وليمون كابوازي ما زالوا يخدمون يهوه كخدام كامل الوقت. وأمثلتهم الامينة شجعت كثيرين آخرين ان يضعوا الملكوت اولا في حياتهم وأن يحافظوا على الاستقامة رغم الشدائد.
تغييرات سياسية
عندما بدأت موجة جديدة من «الديموقراطية» تجتاح افريقيا الجنوبية، أخذت ملاوي ايضا حصتها. فخلال سنة ١٩٩٢، ازداد الضغط الدولي على الحكومة لتحسِّن سجلها المتعلق بحقوق الانسان. وتجاوبا مع ذلك، أعلن الرئيس، الدكتور باندا: «ايّ شخص يُجبِر الناس على شراء بطاقات حزبية . . . انما هو يعمل ضد قوانين حزب الكونڠرس في ملاوي». وأضاف: «هذا الامر مرفوض رفضا باتا . . . وأنا لم آمر قط ايّ شخص بأن يقوم بمثل هذا الامر». وهكذا أوقف الدكتور باندا امرا سبَّب طوال ٢٥ سنة الكثير من الألم لإخوتنا الامناء في ملاوي.
بعد ذلك وجد شهود يهوه انه بإمكانهم عقد معظم اجتماعاتهم ومحافلهم علنا وبحرية. ولم تعد ترد تقارير عن ايّ ازعاج او اضطهاد. وأخيرا صار هنالك مقدار من الحرية، وقد استفاد الاخوة من ذلك. لكنهم لم يكونوا مستعدين لِما كان سيحدث.
«يهوه اله رائع»!
١٢ آب (اغسطس) سنة ١٩٩٣ — هو يوم لن ينساه ابدا شعب يهوه في ملاوي! فالحظر الذي دام ٢٦ سنة تقريبا رُفع اخيرا. في البداية لم يصدق الاخوة ذلك. ففي سنة ١٩٦٧، السنة التي فُرض فيها الحظر، نشرت الصحف في كل انحاء البلد عناوين رئيسية كُتبت بالاسود تتعلق بالاجراء الذي اتُّخذ بحق «البدعة ‹الخطرة›» — شهود يهوه. والآن، بعد ان رُفع الحظر لم يُنبس بكلمة. حقا، لقد كان بالصدفة ان احد الاخوة اكتشف الاعلان الصغير في الجريدة الرسمية. وعندما تواردت الاخبار الى الاخوة طاروا من الفرح، إلّا انهم لم يصدقوا كاملا ما حصل. لماذا؟ قال الاخ كابوازي: «كنا نصلي ان يُرفع الحظر يوما ما. لكننا لم نفكِّر قط ان ذلك سيحدث والدكتور باندا على قيد الحياة». وأضاف: «يهوه اله رائع»!
في سنة ١٩٦٧، قبل الحظر، كان نحو ٠٠٠,١٨ ناشر يعاشرون بنشاط الجماعات. فكم صار عددهم اليوم، بعد ٢٦ سنة من المقاومة التي غالبا ما كانت وحشية؟ ذروة جديدة من ٤٠٨,٣٠ اشخاص! لقد انتصرت استقامة إخوتنا وأخواتنا على كل الشدائد، وذلك لتمجيد اسم يهوه العظيم!
لقد فرح شهود يهوه كثيرا بحريتهم الجديدة. لكنهم ادركوا ايضا ان عملا اضافيا لم يسبق له مثيل يكمن امامهم.
حملة خصوصية
ما ان وصلت الاخبار الى مكتب الفرع في زامبيا، حتى أُرسل إد فينتش الى ملاوي، ليس كسائح، بل ليعاون على اعادة تثبيت عمل شهود يهوه شرعيا في ملاوي. وخلال زيارته، أُتيحت له ولليندا الفرصة للعمل مع الجماعة الانكليزية في بلانتاير. لم يكن معظم الناشرين هناك قد شهدوا يوما من بيت الى بيت. لذلك ليس مستغربا ان يكونوا متوتري الاعصاب. ولكن كل ما لزم ليذهب كل الناشرين الى الخدمة كان القليل من الاقناع من عائلة فينتش. وكم كان الامر مؤثِّرا عندما عادوا بعد ساعتين ليتحدثوا عن اختباراتهم! فقد استمع اصحاب بيوت كثيرون بشوق. وهنَّأهم آخرون بالحرية التي صار شهود يهوه يتمتعون بها الآن. وبعد ذلك وجد الاخوة انه من الاسهل بكثير الانخراط في الخدمة.
تبيَّن في البداية ان تسجيل عمل شهود يهوه ثانية في ملاوي هو صعب الى حد ما. فلم يكن هنالك دليل في ايّ مكتب حكومي على ان الجمعية قد تسجلت يوما في ملاوي. ثم ذات يوم، لاحظ إد فينتش مجموعة من المجلدات القديمة في دائرة تسجيل العقود في بلانتاير. فتناول المجلد المكتوب عليه «ب». نعم، لقد كان التسجيل الاصلي موجودا! فبوشرت الآن بسرعة الاجراءات القانونية. وبحلول ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٩٣، أُعيد تسجيل جمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس في پنسلڤانيا، الوكالة الشرعية التي يستخدمها شهود يهوه، واعتُرف شرعيا من جديد بشهود يهوه كدين في ملاوي.
ونحو نهاية تلك السنة، شُنَّت حملة خصوصية لتوزيع النشرات في كل ارجاء البلد. وعلى نحو ملائم، قُدِّمت النشرة بماذا يؤمن شهود يهوه؟ باللغات الثلاث الرئيسية. وقد خدمت قصدين. اولا، ساعدت الاخوة والاخوات على الانهماك ثانية في الخدمة العلنية. وثانيا، ساعدت الناس ان يعرفوا هم بأنفسهم الوقائع عن شهود يهوه. فوُزِّعت اكثر من مليون نسخة، وانهالت على مكتب الفرع في زامبيا رسائل كثيرة تعبِّر عن الاهتمام. ومجددا، بدأت المناداة العلنية بتسبيح يهوه تُسمع من بيت الى بيت وفي شوارع ملاوي!
إعادة تنظيم العمل
كان الصف الاول لمدرسة تدريب الخدام لافريقيا الجنوبية يُعقد في زامبيا عندما وصلت اخبار رفع الحظر الى هناك. فولَّد ذلك الكثير من الحماسة بين العاملين في بيت ايل والتلاميذ على حدٍّ سواء. وكم فرح تلميذان منهم عندما نالا تعيينيهما في ملاوي! فقد كانا اول خادمَين كامل الوقت اجنبيَّين يعيَّنان في البلد منذ سنة ١٩٦٧. وهذان الاخوان، اندرو بِرد وكارل أوفمن، يخدمان في الوقت الحاضر في بيت ايل في ليلونڠواي. ويخدم الآن برنارد مازوندا، وهو أول اخ ملاويّ يتلقى تدريبا كهذا وفي الصف نفسه ايضا، كناظر دائرة مع متخرجين من صفوف لاحقة للمدرسة.
وفي غضون ذلك، استمر الاخوة من فرع زامبيا في معالجة المشاكل المتعلقة بإعادة تنظيم العمل في ملاوي. وسرعان ما اكتشفوا ان شهود يهوه، مع انهم لم يعودوا تحت الحظر، بقيت مطبوعاتهم للكتاب المقدس محظورة. فعُقد اجتماع مفيد جدا مع وزير العدل لحل المسألة. فاتَّخذ على الفور خطوات لرفع الحظر عن مطبوعات الجمعية. وأكثر من ذلك، عرض مساعدته في العثور على ارض ملائمة لمكتب فرع جديد. ونتيجة لذلك، عُرضت للبيع في ليلونڠواي قطعة ارض جيدة تبلغ مساحتها ١٢ هكتارا (٣٠ اكرا). والعمل جارٍ الآن لبناء تسهيلات فرع جديد في هذا الموقع المركزي.
عندما بدأت الجماعات تجتمع علنا مرة اخرى، سرَّ كثيرون للقاء اصدقاء لم يروهم منذ فترة ما قبل الحظر. فكانت الاجتماعات تتجاوز الوقت المحدَّد، لكنَّ احدا لم يكن لينزعج. ولم يعد الحضور يكتفون بمجرد حفّ ايديهم تقديرا لخطابات الاخوة، بل كانوا يصفقون بحماس كلما ظهر شخص على المنصة. ولم تعد ترانيم الملكوت ترنَّم بأصوات خافتة، بل صار بإمكان الاخوة الآن ان يرنِّموا بملء فمهم. والترنيمة التي سرعان ما صارت المفضَّلة لدى الجميع هي «نشكرُكَ يا يهوه».
ومع ذلك ادرك الاخوة انهم يحتاجون الى المساعدة ليبقوا على اطلاع على احدث المسائل التنظيمية. فقبِل الشيوخ بتواضع وتوق توجيه مكتب الجمعية والاخوة الآخرين المدرَّبين تدريبا خصوصيا. ولم يمرّ وقت طويل حتى لوحظت التحسينات السريعة في الاجراءات التنظيمة داخل الجماعات. واستمر عدد الناشرين ايضا في الارتفاع. ففي سنة الخدمة التي تلت رفع الحظر، اعتمد ٢٤٧,٤ تلميذا جديدا، وحضر ٩٠٣,٨٨ اشخاص ذكرى موت المسيح.
مساعدة اضافية تصل
عمَّ البلد فرح كبير عندما ذاع خبر عودة زوجين مرسلين سبق ان خدما في ملاوي قبل الحظر. فقد وصل في ١ شباط (فبراير) ١٩٩٥ كيث وآن إيتُن، اللذان كانا آنذاك يخدمان في زمبابوي، ليساعدا في العمل المكتبي في ليلونڠواي. وعُيِّن لاحقا في بيت المرسلين في بلانتاير جاك وليندا يوهانسن، اللذان كانا في زائير (الآن جمهورية الكونڠو الديموقراطية). وقد استعادوا كلهم الإذن ليكونوا مقيمين دائمين في البلد. فكم كانت الفرحة كبيرة عندما اجتمع هؤلاء المرسلون القدامى بالاخوة والاخوات الملاويين الذين خدموا معهم قبل الحظر!
في شباط (فبراير) ١٩٩٥، حصل مالكوم ڤيڠو على امتياز زيارة ملاوي كأول ناظر اقليم بعد سنوات كثيرة جدا. وهو يخدم الآن في فرع نيجيريا بعد ان كان خادم الفرع في ملاوي عندما فُرض الحظر. وقد رافقته زوجته ليندا لويز. وماذا كان ردّ فعله؟ «لقد كان ذلك اختبارا مؤثِّرا وامتيازا! شعرت كأنني عدت الى وطني».
في غضون ذلك، عُيِّن ايضا في ملاوي مرسلون وإخوة اكفاء آخرون من الفروع المجاورة. وانهالت الرسائل من الحقل. فلا شك في انه كان هنالك الكثير لفعله «بعمل الرب». — ١ كورنثوس ١٥:٥٨.
«المسبِّحون الفرحون»
تصوَّروا كيف شعر الشهود الملاويون عندما صار بإمكانهم ان يعقدوا، خلال تموز (يوليو) و آب (اغسطس) ١٩٩٥، المحافل الكورية لأول مرة بعد ٢٨ سنة. وكما في معظم المحافل في افريقيا، جلبت العائلات معها كل الـ كاتوندو (الامتعة) التي يملكونها، بما فيها الحِرامات، القدور والمقالي، وحتى الحطب ليعدّوا طعامهم.
لا يتذكَّر معظم هؤلاء الحاضرين آخر سلسلة محافل عُقدت قبيل الحظر. فإما انهم كانوا صغارا جدا، او ولدوا بعد ذلك التاريخ، او لم يكونوا قد تعرَّفوا بالحق بعد. لذلك بالنسبة الى الاكثرية، كان هذا محفلهم الكوري الاول. وكم كان المحور «المسبِّحون الفرحون» ملائما! فعندما وصل البعض الى مواقع المحفل، فركوا اعينهم غير مصدقين وقالوا: «ألعلِّي في حلم؟» لقد فرحوا بالاتِّحاد بالعبَّاد الرفقاء حول العالم لحضور برنامج المحفل هذا. وقد عُقد ما مجموعه تسعة محافل في مختلف انحاء البلد، وكان عدد الحضور في هذه المحافل يفوق الـ ٠٠٠,٧٧ شخص! واستُقبل بحماس كتاب المعرفة التي تؤدي الى الحياة الابدية، اداة جديدة لاستخدامها في خدمة الحقل. ومع انه صدر في المحفل بالانكليزية فقط، سرّ الاخوة بأن يعرفوا انه يُترجَم الى التْشيتشايوا.
عُقد ايضا محفل بالانكليزية. ومع ان العدد كان قليلا، فقد كان له طابع اممي. فأتى زائرون من جنوب افريقيا، زائير، زامبيا، زمبابوي وموزمبيق. والمثير للاهتمام ان هذا المحفل عُقد في مركز المؤتمرات في كواتشا، في بلانتاير، المركز الذي شيَّده الدكتور باندا خصوصا لعقد بعض تجمعاته الحزبية السياسية. اصغى الزائرون بحماس فيما جرت مقابلة اثنين من الاخوة المحليين، هما ويداس مادونا ولاكسون كونجي، ليسردا اختباراتهما خلال سنوات الحظر. كان إد فينتش موجودا ايضا، وقال في ما يتعلق بهذه المناسبة السعيدة: «لطالما صلينا جميعا ان يأتي هذا اليوم! لقد انهمرت دموع الفرح على وجوه هؤلاء المجتمعين. واغرورقت اعيننا وكانت في حلقنا غُصَّة كبيرة فيما كنا نشاهد ڤيكتور لولكر يعمِّد ابنته أنجلين، لا سرًّا في حوض استحمام، بل علنا». وبانتهاء المحفل بالترنيمة المؤثِّرة «نشكرُكَ يا يهوه»، ابتهجت القلوب ثانية وسالت الدموع بغزارة. سيتذكَّر طويلا المسبِّحون الفرحون كل هذه المحافل التسعة التي حضروها.
اعمال الفرع تُستأنف
في ١ ايلول (سبتمبر) ١٩٩٥ صار الفرع في ملاوي يعمل مجددا تحت توجيه الهيئة الحاكمة. إلّا ان المكتب كان هذه المرة في ليلونڠواي. وبوجود ٥٤٢ جماعة وأكثر من ٠٠٠,٣٠ ناشر كان هنالك الكثير لفعله.
والآن بدأ العمل يتقدَّم حقا! في بادئ الامر كان على العاملين العشرة في بيت ايل ان يعملوا بكد لإنجاز كل العمل. ومنذ ذلك الحين استُقدم للمساعدة مزيد من العاملين في بيت ايل، وقدَّم اخوة آخرون دعمهم طوعا. وفريقا الترجمة بالتْشيتشايوا والتمبوكا نُقلا ايضا من زامبيا الى «موطن» هاتين اللغتين.
كان الفرع منشغلا بمساعدة الاخوة على مواجهة حالات جديدة تمتحن ولاءهم. وشمل ذلك تحية العلم، الفساد الادبي، اساءة استعمال المخدِّرات، والمعاشرات الرديئة. وتأسس مكتب خدمات معلومات المستشفيات لمساعدة الذين يواجهون مسائل تتعلق بنقل الدم.
كان اخوان مع زوجتيهما مصدر عون كبير. فقد عُيِّنا مجددا في ملاوي بعد ان خدما في العمل الجائل في جنوب افريقيا. وهما يُحسنان العمل كناظري كورة.
ومؤخرا، في ٢٠ آذار (مارس) ١٩٩٧، حصلت حادثة اخرى مثيرة. فخلال نشرة اخبار الظهيرة، ابتهج الشهود في كل انحاء ملاوي لسماعهم ان الحكومة ستُعيد الى الجمعية الملكية التي كان الفرع السابق يشغلها. فقد صادرتها الحكومة السابقة سنة ١٩٦٧ واستخدمتها كمركز رئيسي اقليمي جنوبي لحزب الكونڠرس في ملاوي. لكنها أُعيدت الآن الى مالكيها الشرعيين — بعد انقطاع دام نحو ٣٠ سنة. فيا للشهادة التي قُدِّمت للبلد بكامله عندما كان هذا الخبر يتكرَّر طوال اليوم في كل نشرة اخبار وباللغات الرئيسية! وفي الوقت الحاضر يُستخدم هذا البناء من جديد لعقد الاجتماعات المسيحية القانونية لشهود يهوه.
يهوه ينمّي
يبارك يهوه حقا عمل خدامه في ملاوي منذ رُفع الحظر. ويدعو اصحاب بيوت كثيرون بتوق شهود يهوه الى بيوتهم ويقبلون مطبوعاتهم وعرضهم لدرس بيتي مجاني في الكتاب المقدس. وفي احد محافل «الايمان بكلمة اللّٰه» الكورية التي عُقدت مؤخرا، دُهشت امرأة لرؤية حشد كبير من شهود يهوه مجتمعين قرب بلدة تدعى ناميتيتي. فسألت: «من اين اتى كل هؤلاء الألوف. انه لأمر مدهش! فقد كنتم لفترة طويلة تحت الحظر». وإذ تأثَّرت بما رأته، انضمت هذه المرأة الى الحشد السعيد من العبَّاد وأصغت الى البرنامج. بعد ذلك وافقت هي ايضا على درس الكتاب المقدس.
تجاوب ايضا مع الحق بعض الاعداء السابقين، واندفع بعضهم الى الاعتذار عمَّا صدر منهم خلال الحظر. قالوا: «لم نفعل ذلك من تلقاء نفسنا. لقد اجبرتنا الحكومة على الاساءة اليكم». وكان الاخوة سعداء للغاية بأن يرحِّبوا بمثل هؤلاء الافراد في اجتماعاتنا. حتى ان وزير حكومة سابقا يدرس الكتاب المقدس مع فاتح من ليلونڠواي، وهو الذي كان قد «استقبل» اخوتنا لدى عودتهم مرغمين من موزمبيق سنة ١٩٧٥ وطلب منهم ان يعودوا الى قراهم ويتعاونوا مع الحزب السياسي الحاكم.
لا يضمر ايّ شاهد الضغينة. ولا يسعى ايّ منهم الى الثأر. (روما ١٢:١٧-١٩) فكل ما يريدون ان يقوموا به هو تسبيح يهوه اللّٰه الآن بعد ان حصلوا على حريتهم ليفعلوا ذلك. وهم يتوقون الى التعلُّم كيف يستخدمون اية اداة تساعدهم ان يكونوا معلِّمين فعَّالين في الخدمة. فباستخدامهم ادوات مثل المباحثة من الاسفار المقدسة و المعرفة التي تؤدي الى الحياة الابدية، بالاضافة الى كاسيتات ڤيديو الجمعية، يساعدون آلاف المهتمين على الابتداء بدرس في الكتاب المقدس.
لا نعرف لِكم من الوقت سيسمح يهوه لنا بأن نستمر في البحث عن ‹الميَّالين بالصواب الى الحياة الابدية›. (اعمال ١٣:٤٨) لكنَّ الواضح هو وجود امكانية رائعة لحصاد روحي في هذا البلد. فقد شهد حزيران (يونيو) ١٩٩٨ ذروة جديدة مفرحة من ٧٧٠,٤٢ ناشرا يقدِّمون تقريرهم! أما بالنسبة الى محافل «طريق اللّٰه للحياة» الكورية التي عُقدت سنة ١٩٩٨، فقد كان مجموع الحضور ٧٤٦,١٥٢ شخصا، وحضر ذكرى موت المسيح التي جرى الاحتفال بها في اوائل تلك السنة ٤١٢,١٢٠ شخصا!
نعم، يرى شهود يهوه في ملاوي مستقبلا باهرا جدا حقا. وقبل مجيء يوم يهوه، يتوقَّعون ان يتمكنوا من مساعدة آلاف كثيرة اخرى على نيل المعرفة الدقيقة لكلمة اللّٰه. ويتطلعون ايضا الى اليوم الذي فيه يستقبلون اعضاء العائلة والاصدقاء الاعزاء العائدين من الموت — الاخوة والاخوات المسيحيين الذين كانوا على استعداد ليموتوا بدلا من ان يسايروا على حساب ايمانهم الثمين. وبترقّب شديد، ينتظرون اليوم الذي فيه تكون ملاوي جزءا من فردوس عالمي يعيش فيه الجميع بأمان ويتمكن كل الذين يحبون يهوه ويخدمونه من التمتع بحياة كاملة الى الابد.
احتمل شهود يهوه في ملاوي تحديات صعبة لايمانهم. واستقامتهم تحت الشدائد كانت مصدر تشجيع لكامل معشر الاخوة العالمي الذي يشكِّلون جزءا منه. وتوقهم الى الكرازة بالبشارة في «وقت مؤات وفي وقت محفوف بالمتاعب» هو مثال جدير بالاقتداء. (٢ تيموثاوس ٤:٢) والذين يتعرَّفون بهم لا يسعهم الا ان يشعروا بأنهم وجدوا فيهم «قلب افريقيا الدافئ».
[الخريطة في الصفحة ١٩١]
(اطلب النص في شكله المنسق في المطبوعة)
زامبيا
مخيَّمات سيندا ميسال
ملاوي
بحيرة ملاوي
ليلونڠواي
زومبا
بلانتاير
جبل مولانجي
موزمبيق
مخيَّمات ميلانڠي
مخيَّمات ملانڠيني
موزمبيق
[صورة تغطي كامل الصفحة ١٤٨]
[الصورة في الصفحة ١٥٣]
جْرِشام كْوازيزيرا الذي اعتمد سنة ١٩٢٥
[الصورة في الصفحة ١٥٧]
بيل مَكْلَكي في مكتب الجمعية في زومبا
[الصورة في الصفحة ١٦٢]
قرية نموذجية في ملاوي
[الصورة في الصفحة ١٦٥]
الكس مافَمبانا
[الصورتان في الصفحة ١٧٠]
شهود يصلون الى المحفل قرب جبل مولانجي سنة ١٩٦٦
[الصور في الصفحة ١٧٧]
حظر الشهود؛ بوابة الفرع مقفلة
[الصورة في الصفحة ١٧٨]
مع ان منزل فينلي موينْييري دُمِّر، كان مهتما بتقوية اخوته
[الصورة في الصفحة ١٨٦]
بيل مَكْلَكي مع زوجته دنيس
[الصورة في الصفحة ١٩٢]
المنصة في الوسط، حيث كان يُعطى الارشاد من الكتاب المقدس والتعيينات في المخيَّم
[الصورة في الصفحة ١٩٣]
باتسون لونڠوي، المعروف بـ «٧ الى ٧»
[الصورة في الصفحة ١٩٤]
مخيَّم اللاجئين في نازيپولي بالقرب من ملانڠيني، حيث بنى الشهود بيوتا لعائلاتهم
[الصور في الصفحتين ٢٠٠ و ٢٠١]
بالرغم من سجنهم سابقا بسبب ايمانهم، استمر الشهود يخدمون بفرح
[الصورة في الصفحة ٢٠٢]
السعاة الذين خاطروا بحريتهم من اجل تزويد الطعام الروحي لاخوانهم
[الصورة في الصفحة ٢٠٤]
خلال الحظر، كان إد وليندا فينتش زائرَين دائمَين لملاوي
[الصورة في الصفحة ٢١٠]
شيوخ مجتمعون لحضور المدرسة في غرفة صف في الهواء الطلق
[الصورة في الصفحة ٢١٥]
(من اليسار) كيث وآن إيتُن، ليندا وجاك يوهانسن — سعداء بالعودة الى ملاوي
[الصور في الصفحة ٢١٦]
لجنة الفرع (من الاعلى الى الاسفل): ليمون كابوازي، كيث إيتُن، كولِن كارسون
[الصورتان في الصفحة ٢١٧]
الى الاعلى: شهود تطوعوا بحماس لينظفوا الملكية التي كانت للفرع السابق عندما جرت استعادتها
الى اليمين: اخوة يأخذون من الفرع مخزون مطبوعات الجماعة
[الصورة في الصفحة ٢١٨]
مالكوم ڤيڠو يلتقي من جديد ويداس مادونا، الذي خدم معه في الفرع قبل الحظر
[الصورة في الصفحة ٢٢٠]
قاعة ملكوت سقفها مصنوع من القش. وهنالك حاجة الى قاعات ملكوت من اجل ٦٠٠ جماعة اخرى!
[الصور في الصفحة ٢٢٣]
شهود فرحون يستمرون في المناداة ببشارة الملكوت في ملاوي