رواندا
رواندا هي من اصغر بلدان افريقيا وأكثرها جمالا. انها «ارض الالف هضبة» التي تزهو بمعالمها الطبيعية الخلابة من جبال وغابات وبحيرات وشلالات، وتنبض بغنى حياتها النباتية والحيوانية. فهنا تمتد جبال ڤيرونڠا المهيبة لتفصلها عن جمهورية الكونغو الديموقراطيةa غربا وأوغندا شمالا. وهناك يشمخ جبل كاريسيمبي على كل قمم هذه السلسلة بارتفاعه البالغ ٤٨٠,٤ مترا تقريبا. وهو بركان خامد يكسوه الثلج والبَرَد معظم ايام السنة. وتلتحف سفوح جبال ڤيرونڠا، بأجمات الخيزران الكثيفة وبغابة مطيرة تتأرجح بين اشجارها ونباتاتها المعترشة قرود الطّمارين الذهبية. في هذه البيئة الخصبة يُحتضَن احد اهم كنوز رواندا — غورلا الجبال.
تمتد النباتات الخضراء النضرة بأنواعها الغريبة حتى ضفاف بحيرة كيڤو وغابة نيونڠوي، حيث تعيش قرود الشمپانزي، وقرود القُطرب البيضاء والسوداء، وأكثر من ٧٠ نوعا من الثدييَّات. هذا بالاضافة الى نحو ٢٧٠ نوعا من الاشجار وما يقارب ٣٠٠ نوع من الطيور. وتزيد الفراشات والسحلبيات التي لا تعد ولا تحصى من جمال هذه المحمية.
من قلب غابة نيونڠوي يجري نهر صغير شرقا، ثم تنضم اليه جداول وأنهار اخرى قبل ان يصبّ في بحيرة ڤيكتوريا. ومن هناك يتدفق الماء بقوة وبسرعة اكبر ليتابع مسيرته نحو الشمال مرورا بإثيوبيا فالسودان، حتى يبلغ اخيرا مصر حيث يصبّ في البحر الابيض المتوسط. وعلى الرغم من بدايته المتواضعة في تلال افريقيا الوسطى المكسوة بالاشجار، يمتد هذا النهر، ليصبح نهر النيل، مسافة تقارب ٨٢٥,٦ كيلومترا، ما يجعله احد اطول انهر العالم.
اوقات عصيبة
من المؤسف ان صغر مساحة رواندا لم يعفِها من مقاساة اكثر أنواع العنف فظاعة. فقد ذُبح مئات الآلاف من الرجال والنساء والاولاد بشكل وحشي في احدى اسوإ الابادات الجماعية التي شهدتها ايامنا. كما نُشِرت حول العالم مشاهد مريعة عن هذا العنف غير المكبوح، ما زرع الرعب في قلوب كثيرين إذ رأوا الوحشية التي يعامل بها الانسان اخاه الانسان. — جا ٨:٩.
ولكن، ماذا حلّ بخدام يهوه الامناء خلال هذه الاوقات العصيبة والسنوات التي تلتها؟ تماما كما صمد النهر الصغير، الذي بدا مجرد مجرى ماء ينبع من غابة نيونڠوي، امام كل العوائق وواصل مساره تحت الحرّ اللاذع لشمس افريقيا ليتحول الى نهر عظيم، كذلك ثابر شعب يهوه في رواندا على خدمتهم. فقد تحملوا اضطهادات شديدة ومصاعب جمّة وألهموا اخوتهم وأخواتهم حول العالم القوة والشجاعة. ولا شك ان روايتهم التي تتجلى فيها محبتهم وإيمانهم وولاؤهم ستمس قلبك. كما نأمل ان تدفعك الى توطيد علاقتك بيهوه وتقدير معشر اخوتنا المسيحي تقديرا عميقا.
ومضات النور الباكرة
ورد اول تقرير عن عمل البشارة في رواندا في الكتاب السنوي لشهود يهوه ١٩٧١. ذكر التقرير: «في آذار (مارس) من هذه السنة [١٩٧٠]، تمكَّن فاتحان خصوصيان من دخول رواندا والبدء بعمل البشارة في العاصمة كيڠالي. فوجدا الناس متحمسين لرسالة الملكوت ومتجاوبين معها، حتى ان احد المهتمين باشر حالا بالكرازة. ومع ان عدد الاشخاص الذين يتكلمون السواحلية محدود، استطاع الفاتحان عقد عشرة دروس. وهما الآن يبذلان جهدا كبيرا لتعلُّم اللغة الكينيارواندية بغية إعطاء شهادة أوسع».
ان الفاتحَين الخصوصيَّين المذكورَين في هذا التقرير هما أودِن مَوايْسوبا وزوجته أيْنِيا، من تنزانيا. ولأنهما لم يكونا قد تعلَّما بعد اللغة المحلية، الكينيارواندية، بدآ بزيارة الاشخاص الذين يتكلمون السواحلية، وكان كثيرون منهم قادمين من الكونغو او تنزانيا. وبحلول شباط (فبراير) ١٩٧١، كان أربعة اشخاص يقدِّمون تقارير خدمتهم كناشرين. لكن عائق اللغة وعدم توفُّر المطبوعات بالكينيارواندية ابطأ نمو العمل.
سنة ١٩٧٤، قام ستانلي ماكومبا، ناظر دائرة شجاع في كينيا، بزيارة رواندا للمرة الاولى. يخبر قائلا: «بما ان عدد الباصات التي تنقل المسافرين من الحدود الأوغندية–الرواندية الى روهنڠاري في رواندا كان محدودا، اضطررت ان اقف دون حراك في شاحنة تعج بالناس، في حين جلست زوجتي في الكرسي الامامي الى جانب السائق. وعندما بلغنا وجهتنا، بالكاد تعرَّفَت إليَّ من الغبار الذي غطى وجهي وشعري. إثر هذه الرحلة المتعبة، بدأت أعاني آلاما في الظهر ما ألزمني الجلوس اثناء إلقاء الخطابات خلال الاسبوع الذي سبق المحفل الدائري الصغير وخلال فترات المحفل ايضا. اما في ما يختص بزيارة الاخوة، فلم اتمكَّن من تحديد موعد وصولي لعدم تمكني من معرفة اية وسيلة نقل متوفرة».
عودة احد ابناء البلد
في هذه الاثناء، كان الرواندي ڠاسپار رْوَاكابوبو يعمل ميكانيكيا في مناجم النحاس في الكونغو. يذكر: «خلال مدرسة خدمة الملكوت التي حضرتها في كولْويزي عام ١٩٧٤، قال لي أحد الاساتذة ويدعى مايكل پَتيدج ان مكتب الفرع في كينشاسا يبحث عن شيخ رواندي الاصل يرغب في العودة الى بلده الام للمساعدة في عمل الكرازة. ثم سألني إن كنت أرغب في ذلك. فأجبته بأني اودّ ان اناقش المسألة مع زوجتي ميلاني.
«وفي الوقت نفسه، أرسل إليّ رب عملي في شركة التعدين دعوة للتدرُّب في المانيا. فقد كنت بارعا في عملي وأُعطى دائما عِلاوة على مرتّبي الشهري. ولكننا لم نملك سوى ايام قليلة لنتخذ قرارنا. فأخبرت الاخ پَتيدج بأنني سألبِّي الدعوة وأعود الى رواندا. لم يستطِع ربّ عملي تفهّم قراري هذا، فسألني: ‹ألا تستطيع ان تكون شاهدا ليهوه هنا؟ لماذا يجب ان تعود الى رواندا؟›. حتى ان بعض الاخوة حاولوا بحسن نية ان يثنونا عن العودة. قالوا لي: ‹فكِّر في اولادك الاربعة. اقرأ لوقا ١٤:٢٨-٣٠، ثم اجلس وتأمل فيها جيدا›. رغم ذلك، لم نتردد لحظة.
«تحمّل ربّ عملي كل تكاليف السفر جوًّا الى رواندا. وعندما وصلنا الى كيڠالي، في ايار (مايو) ١٩٧٥، استأجرنا منزلا كُسيت جدرانه وأرضه بالطين. وكم كان مختلفا عن المنزل المجهّز الذي سكنّا فيه اثناء عملي في شركة التعدين! إلا اننا كنا على استعداد لهذا التغيير ومصممين على النجاح».
وبما ان الفاتحين الخصوصيين الذين اتوا من بلدان اخرى استخدموا السواحلية كلغة تواصل، ظنّ كثيرون من الناس انهم قدِموا ليعلِّموا هذه اللغة. إلا ان تفكيرهم انقلب مع وصول ڠاسپار وعائلته الذين تمكَّنوا من تعليمهم حق الملكوت باستخدام الكتاب المقدس بالكينيارواندية.
زِد على ذلك ان الاخ رْوَاكابوبو ترجم كراس «بشارة الملكوت هذه» المؤلف من ٣٢ صفحة الى الكينيارواندية. وصدوره سنة ١٩٧٦ استرعى الكثير من الانتباه. فقرأه الناس في الباصات والشوارع. كما أدى ورود الاسم يهوه فيه الى الكثير من المناقشات.
روانديون يعتنقون الحق
في تلك الفترة، بلغ عدد الناشرين في البلاد نحو ١١ ناشرا فقط، اغلبهم من خارج رواندا. وكان جاستن رْواڠاتور من أوائل الروانديين الذين تعرَّفوا على الحق. وهو شخص ودود ولطيف درس مع الفاتحَين الخصوصيَّين من تنزانيا باللغة السواحلية، لأنهما لا يتكلمان الفرنسية او الكينيارواندية. ثم اعتمد عام ١٩٧٦ وعاش في سايڤ، حيث سمح ملك رواندا للمرة الاولى بإنشاء ارسالية كاثوليكية عام ١٩٠٠. يروي جاستن ان الناس كانوا فضوليين ويريدون ان يعرفوا ما يعلِّمه الكتاب المقدس حقا. لكن رجال الدين اكنوا العداء لشهود يهوه ومنعوا رعاياهم من الاستماع لهم او قبول مطبوعاتهم.
وكان الأخ الدؤوب فرديناند موڠارورا هو ايضا بين أوائل الذين قبلوا الحق. فسنة ١٩٦٩، فيما كان لا يزال يعيش شرقي الكونغو، حصل على نسخة من كتاب الحق الذي يقود الى الحياة الابدية باللغة السواحلية. ولاحقا، علم بأن اقرب مكان يتواجد فيه الشهود يبعد ٨٠ كيلومترا. لذا، كان هو وشخصان آخران يغادرون المنزل كل يوم جمعة، ويسيرون هذه المسافة مشيا على الاقدام كي يحضروا الاجتماعات ويُدار معهم درس في الكتاب المقدس، ثم يعودون ادراجهم يوم الاثنين. والجدير بالملاحظة ان فرديناند اعتمد في اليوم نفسه عام ١٩٧٥ هو وأحد التلميذَين اللَّذين كان يدرس معهما. وحين عُيِّن ليخدم فاتحا خصوصيا في رواندا سنة ١٩٧٧، تذكر انه سمع قبل سنة عن محفل دائري عُقد في غرفة الجلوس في منزل الاخ رْوَاكابوبو، حيث بلغ عدد الحضور ٣٤، واعتمد ثلاثة منهم.
منع المرسلين من دخول رواندا
لطالما كانت الهيئة الحاكمة متيقظة لحاجات الحقل العالمي، لذا عيَّنت مرسلين الى رواندا. ففي عام ١٩٦٩، دُعي أربعة متخرِّجين من الصف الـ ٤٧ لمدرسة جلعاد برج المراقبة للكتاب المقدس كي يخدموا هناك.
يذكر نيقولاس فون: «في أواخر كانون الثاني (يناير)، حين كان الاخ نور يوزِّع على تلامذة الصف تعييناتهم، سمعناه يقول لپول ومارِلين إيڤانز انه تمَّ تعيينهما في رواندا. ثم قال لي ولزوجتي: ‹انتما ايضا ستذهبان معهما!›. من شدة حماسنا، اسرعنا بعد الاجتماع الى مكتبة جلعاد وأخرجنا اطلسا كبيرا للبحث عن موقع رواندا. إلا ان فرحتنا لم تدم طويلا، اذ تسلمنا لاحقا رسالة تُعلِمنا بأن الاخوة لم يتمكَّنوا من الحصول على تأشيرة لنا كي ندخل رواندا. ورغم خيبة املنا، قبِلنا بكل طيب خاطر تعييننا الجديد وذهبنا مع پول ومارِلين الى الكونغو».
بعد تخرُّج الصف الـ ٦٠ لجلعاد سنة ١٩٧٦، عُيِّن اثنان آخران مع زوجتَيهما في رواندا. وهذه المرة سُمح لهؤلاء المرسلين الاربعة بدخول البلاد. فانتقلوا الى هناك واستأجروا منزلا، ثم راحوا يكرزون بكل جرأة، وابتدأوا بتعلّم الكينيارواندية. وبعد ثلاثة اشهر انتهت مدة تأشيرة الدخول، فأُعيد تعيينهم في بوكاڤو شرقي الكونغو بعد ان رفضت دائرة الهجرة تجديد اقامتهم.
«لقد عملوا بجدّ»
في منتصف سبعينات القرن العشرين، بدأ الفاتحون الخصوصيون من تنزانيا والكونغو بمغادرة رواندا لأسباب عديدة. وفي تلك الاثناء، راح الاخوة الروانديون ينخرطون بعمل الفتح ويوسعون نشاطهم الكرازي الى كل انحاء البلاد. ولاحقا، سنة ١٩٧٨، ترجموا كتاب الحق ونشرتَين اخريين الى الكينيارواندية. كما أصدروا طبعة شهرية من مجلة برج المراقبة. وقد ساعدت هذه المطبوعات على ترويج عمل الكرازة بالملكوت. ذكر المرسل مانفرِت توناك عن الفاتحين الروانديين في تلك الفترة: «لقد عملوا بجدّ، وخصَّصوا الكثير من وقتهم للخدمة، راسمين مثالا حسنا للجدد».
يتذكر ڠاسپار نيونْڠيرا كيف ان البشارة انتشرت في تلك الحقبة: «عندما اعتمدت سنة ١٩٧٨، كان رجال الدين متخوفين من رؤية هذا العدد الهائل من الناس يعتنقون الحق. فقد حضر محافلنا مئات الاشخاص. وفي الخدمة كنا نبدو كسرب من الجراد، اذ جرت العادة ان ننطلق نحو ٢٠ ناشرا من وسط مدينة كيڠالي ونبدأ بالكرازة اثناء سيرنا حتى نصل الى كانومبي، قاطعين مسافة تسعة كيلومترات. وبعد ان نتوقف لتناول الغداء، كنا نكمل مسيرة سبعة كيلومترات اخرى حتى ماساكا، ثم نعود ادراجنا بالباص الى كيڠالي عند المساء. وقد قامت فرق من الناشرين بالامر عينه في انحاء اخرى من البلد. فاستنتج الناس ان عدد الشهود يبلغ الآلاف، وراحت الاتهامات تنهمر على رؤوسنا، ما حدا بالسلطات الى حرماننا من الاعتراف الشرعي».
أراد الاخوة الممتلئون حماسة للحق ان يتذوّقوا فرح الاجتماع مع إخوة من بلدان اخرى. لذلك، في كانون الاول (ديسمبر) ١٩٧٨، سافر حوالي ٣٧ شخصا، بمن فيهم الاولاد، الى نيروبي عاصمة كينيا عبر أوغندا، قاطعين مسافة تزيد على ٢٠٠,١ كيلومتر ليحضروا المحفل الاممي «الايمان الظافر». لم تكن هذه الرحلة سهلة عليهم، لأنهم لم يتمكنوا من الاتكال على وسائل النقل التي تتعطل باستمرار. هذا اضافة الى عدم استقرار الوضع السياسي في أوغندا. فعندما بلغ المندوبون حدود كينيا، اتّهمهم المسؤولون على الحدود الأوغندية بأنهم جواسيس، فأوقفوهم وساقوهم الى مركز قيادة الجيش في كامپالا بأوغندا. وهناك استجوبهم شخصيا عيدي امين، رئيس جمهورية أوغندا آنذاك. ثم اعطى أوامره بإطلاق سراحهم بعد ان لمس صدقهم. ومع ان هؤلاء الاخوة لم يتمكنوا من حضور اليوم الاول من المحفل في نيروبي، إلا انهم فرحوا جدا برؤية آلاف الاخوة من مختلف البلدان مجتمعين بسلام.
الجهود المبذولة لنيل الاعتراف الشرعي
لم ترق للجميع حقائق الكتاب المقدس والمقاييس الادبية النبيلة التي يعلِّمها شهود يهوه. فرجال الدين على وجه الخصوص هلِعوا عندما رأوا هذا التجاوب الكبير مع الحق. يستذكر الاخ رْوَاكابوبو: «قدّم العديد من الكاثوليك والبروتستانت والمجيئيين الناشطين كتاب استعفاء الى كنائسهم السابقة. وكان تأثير عمل الكرازة، على حد قول احد الاخوة، اشبه بنار أُشعِلت في الاديان القائمة. فعدد الذين يحضرون الاجتماعات في جماعة كيڠالي ارتفع بسرعة بالغة الى اكثر من مئتي شخص. في البداية، لم يُعرنا رجال الدين اي اهمية تُذكر نظرا الى قلة عددنا. اما الآن وقد ازداد عددنا، بدأ البعض يتهمنا بأننا نشكّل خطرا على البلاد. واللافت ان ڤنسان نْسِنْڠيومْڤا، رئيس الاساقفة في الكنيسة الكاثوليكية برواندا، اصبح وقتئذ عضوا في اللجنة المركزية للحزب السياسي الحاكم.
«انشأت الزيادات السريعة في صفوفنا الحاجة الى إعطاء عملنا صفة شرعية لإحضار مرسلين، بناء قاعات ملكوت، وعقد محافل كبيرة. لذلك نسّق الفرع في كينيا مع أرنست هُوِيسا من بلجيكا، كي يتصل بالمسؤولين الحكوميين بغية منحنا الاعتراف الشرعي، إلا ان جهوده لم تفلح. ولاحقا، عام ١٩٨٢، نصحنا مكتب الفرع في كينيا ان نكتب رسالة الى وزيرَي العدل والداخلية نطلب فيها منحنا اعترافا شرعيا. فوقَّعتُ انا وفاتحان خصوصيان آخران على هذه الرسالة، انما لم نلقَ اي ردّ عليها».
في تلك الاثناء، زادت حدّة المقاومة. يخبرنا انطوان روڠْويزا، اخ هادئ ووقور، ان الرئيس اعلن ذات مرة في برنامج على الاذاعة الوطنية انه لن يتسامح مع الذين يسيئون الى «ايمان الشعب الرواندي». فأدرك الجميع انه قصد بكلامه شهود يهوه. ولم يمر وقت طويل على هذا الخطاب حتى حُظر على الاخوة الاجتماع معا، كما أُشيعت اقاويل حول اعتقالات وشيكة. كما دُعي الاخ رْوَاكابوبو مرتين للمثول امام وكالة امن الدولة للاستجواب.
ثم في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٨٢، قدِم كيالا موانڠو برفقة زوجته إلاين من نيروبي ليشرف على سير المحافل الدائرية في بوتاري وڠيسِنْيي وكيڠالي. وكان الاخ رْوَاكابوبو العريف في هذه المحافل. وما لبث ان انتهى المحفل في كيڠالي حتى استُدعي للمرة الثالثة الى مقر وكالة امن الدولة. ولكن هذه المرة من غير رجعة! ولم تمضِ أربعة ايام حتى اعتُقل الفاتحان الخصوصيان الآخران اللذان وقَّعا على طلب الاعتراف الشرعي. فسُجن ثلاثتهم من دون ان يحاكموا او حتى ان يُسمح لهم بالدفاع عن انفسهم. وسرعان ما تبع ذلك العديد من الاعتقالات. كما أُغلقت قاعة الملكوت وأُقفلت ابوابها. هذا وقد أرسل ايضا وزير العدل مذكِّرة الى كافة المديريات اصبح شهود يهوه بموجبها تحت الحظر.
وأخيرا، في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٨٣، تمّت محاكمة الاخوة الثلاثة الذين وقّعوا على طلب الاعتراف الشرعي. فوجهت المحكمة اليهم تهما بالاحتيال على الناس وخداعهم، تهما لا اساس لها من الصحة. وخلال محاكمتهم، لم يُقدَّم اي شاهد او وثيقة كدليل ضدهم. رغم ذلك، حُكم عليهم بالسجن مدة سنتين. وعندما صدر عفو عام، أُطلق سراح كل المجرمين المحكوم عليهم ما عدا هؤلاء الاخوة الامناء. وفي ڠيسِنْيي، تحمّل خمسة شهود آخرون ما يقارب السنتين في السجن من دون اي محاكمة او حكم شرعي صادر عن محكمة.
الحياة في السجن
كانت الحياة في السجن قاسية جدا. فقد اقتصرت وجبة الطعام الوحيدة في اليوم على المنيهوت والفاصولياء، واللحم مرة في الشهر تقريبا. اما السرير فكان مليئا ببقّ الفراش ومياه الاغتسال شحيحة. كما تشارك الاخوة الزنزانات مع مجرمين عنفاء ومحكوم عليهم بالاعدام. وبسبب الازدحام، نام عدد من المساجين على الارض. من ناحية اخرى، كان حراس السجن في اغلب الاحيان عديمي الرحمة، باستثناء جان فاتاكي، الذي اظهر اللطف للإخوة. وقد قبل درسا في الكتاب المقدس، وأصبح في النهاية شاهدا معتمدا. وهو لا يزال حتى هذا اليوم يخدم بأمانة كفاتح.
يروي الاخ رْوَاكابوبو: «اثناء وجودنا في السجن، اقام رئيس الاساقفة قداسا هناك. وفي معرض حديثه قال لسامعيه ان يحترسوا من شهود يهوه. فما كان من بعض الكاثوليك الحاضرين إلا ان سألونا عقب انتهاء القداس عن سبب هذا الكلام، إذ رأوا ان شهود يهوه ليسوا خطيرين البتة».
في غضون هذه الفترة، وصل الى كيڠالي روجيه ونويلا پولز من بلجيكا، وكان روجيه قد وقَّع على عقد للعمل في رواندا. وآنذاك كان الاخوة الثلاثة لا يزالون في السجن، لذا طلب روجيه مقابلة وزير العدل ليشرح له معتقداتنا ويستفسر بلباقة عن مأخذ الحكومة على شهود يهوه. فاختصر الوزير المحادثة قائلا: «سيد پولز، لقد سمعت منك ما فيه الكفاية! ستعود الى بروكسل على متن اول طائرة. فأنت مطرود من البلاد!».
بما ان الاخوة الثلاثة حافظوا على موقفهم الثابت ولم يرهبهم اي تهديد، بقوا في السجن طوال مدة حكمهم التي دامت سنتين. ومن الجدير بالذكر انهم في السنة الثانية نُقلوا الى سجن آخر افضل حالا. وقد أُطلق سراحهم في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٨٤.
الاضطهاد يزداد حدّة
لم يكن من أمل ان تتوقف المقاومة، فقد اعلن احد البرامج الاذاعية ان شهود يهوه ليسوا اشخاصا صالحين ووصفوهم بالمتطرفين. وبحلول آذار (مارس) ١٩٨٦، عمَّت الاعتقالات كافة انحاء البلاد. ومن بين الاشخاص الذين اعتُقلوا أوڠوستين مورايي الذي طُرد من منصبه كمدير عام في وزارة التعليم الابتدائي والثانوي بسبب حياده المسيحي، وهوجم في الصحف وفي البرامج الاذاعية.
علاوة على ذلك، اعتُقل اخوة وأخوات آخرون، حتى الحوامل منهنّ مع اولادهنّ الصغار. ومع نهاية عام ١٩٨٦، نُقلوا الى السجن المركزي في كيڠالي بانتظار المحاكمة. ولأن الاخوة لم ينشدوا الاناشيد الوطنية، ولم يضعوا الشارة التي تؤيد الرئيس، ولم يشتروا بطاقة الحزب السياسي، استنتج الناس خطأ ان شهود يهوه يعارضون الحكومة وينوون الإطاحة بها.
يستعيد فوكاس هاكيزوموامي ذكرياته وعلى شفتيه ابتسامة عريضة: «كان الاخوة في الجماعة في نيابِسيندو اول مَن اعتُقل. وبما اننا توقعنا إلقاء القبض علينا في اية ساعة، ادركنا ان مقاطعتنا ستتغير من خارج السجن الى داخله. لذلك، قررنا ان نقوم بحملة كرازية واسعة النطاق في مقاطعتنا ‹الخارجية› اولا. فذهبنا الى الاسواق ووزعنا الكثير من المجلات والكتب. كما صلينا الى يهوه ليساعدنا على تغطية المقاطعة قبل ان نُساق الى السجن. وبالفعل مدّنا يهوه بالمساعدة اللازمة، اذ انهينا المقاطعة في ١ تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٨٥. وبعد سبعة ايام زُج بنا في السجن».
في السنة التالية، قامت عناصر من سلك امن الدولة باعتقال پالاتين نْسانْزورْويمو وزوجته فاتوما. وبعدما استجوبوهما مدة ثماني ساعات وفتشوا منزلهما تفتيشا دقيقا، اخذوهما الى السجن مع اولادهما الثلاثة. وفي طريقهم الى السجن، تبعهم اخو پالاتين الاصغر وأخذ اثنين من الاولاد (صبيا وفتاة بعمر خمس وأربع سنوات) ليتولّى العناية بهما. فسُجن پالاتين وفاتوما مع طفلتهما البالغة اربعة عشر شهرا. ولاحقا، نُقلت فاتوما الى سجن آخر ولم يُطلق سراحها إلا بعد تسعة اشهر.
في هذه الاثناء، طُرد اولاد جان تْشيتِيا الاربعة من المدرسة. وبُعيد ذلك، اكتشف عندما عاد الى بيته، ان منزله تمّ تفتيشه وأن زوجته اعتُقلت تاركة الاولاد وحدهم. ولم يمضِ وقت طويل حتى اعتُقل هو ايضا وزُجَّ في سجن بوتاري الى جانب زوجته وإخوة آخرين. ثم نُقل كل السجناء الشهود الى السجن المركزي في كيڠالي. اما الاولاد، فقد اعتنى بهم الاخوة في كيڠالي.
يقول الاخ تْشيتِيا عن تلك الفترة: «عندما كان الاخوة والاخوات يصلون من السجون الاخرى الى السجن المركزي في كيڠالي، كانوا يحيّون واحدهم الآخر بفرح قائلين: ‹كوميرا!› التي تعني ‹تشجعوا!›. وعندما سمع احد حراس السجن ذلك صرخ بهم: ‹انتم مجانين! كيف يمكنكم ان تتشجعوا وأنتم في السجن؟›».
رغم الاعتقالات، لم يتثبط ذوو القلوب الطيبة. فغالبا ما جلب الاضطهاد نتائج ايجابية. تخبر أوديت موكاندِكِزي، اخت نشيطة وودودة اعتُقلت في تلك الحقبة: «خلال الاضطهاد كان الاخوة يُعتقلون ويُضربون. وفي احد الايام، التقينا فتاة صغيرة تدعى جوزفين كانت ترعى قطيعا من الماشية وفي حوزتها كتاب مقدس. وقد قرأت فيه ان المسيحيين الاوائل عانوا الافتراء، الاضطهاد، الجلد، والسجن. وبما انها علمت بالاضطهاد الذي يتعرض له الشهود، استنتجت انهم ينتمون الى الدين الحقيقي وطلبت درسا في الكتاب المقدس. وهي الآن اخت معتمدة».
خلال الحظر، كان ڠاسپار نيونْڠيرا يعمل سائق شاحنة، ما اضطره في اغلب الاحيان ان يذهب الى نيروبي في كينيا. لذا، تمكن من تهريب المطبوعات الى رواندا في صندوق خاص بالشاحنة يسع ستة صناديق من المطبوعات. وفي الوقت عينه، كان هنري سِنْيونڠا، الذي يعيش في جنوب غرب أوغندا، يُحضِر بانتظام المجلات على دراجته النارية.
اما الاجتماعات فعُقدت في فرق صغيرة، لأن السلطات كانت تقوم فورا بحملة تفتيش اذا ما اشتبهت ان شهود يهوه مجتمعون. يذكر الاخ نيونْڠيرا: «لقد اضفتُ بناء جديدا على منزلي حيث تمكنّا من عقد اجتماعاتنا في السرّ. كما وضعنا المطبوعات في اكياس بلاستيكية وطمرناها تحت الارض ثم غطيناها بالفحم».
فور بدء موجة الاعتقالات، تمكّن جان ماري موتِزينتار، الذي كان قد اعتمد حديثا، من حضور المحفل الاممي «المحافظون على الاستقامة» في نيروبي في كانون الاول (ديسمبر) ١٩٨٥. وفي طريق عودته الى رواندا، جمع هو والاخ إيساي سيبومانا المجلات من الاخوة في غربي أوغندا. وعندما بلغا الحدود، اكتشف المسؤولون المجلات التي كانت في حوزتهما، فأوقفوهما وكبلوهما. وبعد ان استجوبوهما اقتادوهما الى زنزانة قضيا فيها ليلة قارسة البرد. وسرعان ما أُرسلا الى السجن المركزي في كيڠالي، حيث التقيا بنحو ١٤٠ اخا وأختا. وكم امتلأ هؤلاء الشهود فرحا عندما سمعوا منهما مباشرة تقريرا عن المحفل في نيروبي! ولا شك، ان ما قالاه كان مشجعا ومقويًّا للإخوة في السجن.
اضافة الى عقد الاجتماعات وتنظيم نشاط الكرازة، علَّم الاخوة المعتقلون المساجين القراءة والكتابة. كما انهم اداروا دروسا في الكتاب المقدس مع المهتمين وأعدّوا عددا من الناشرين الجدد للمعمودية. وفي حين درس البعض منهم الكتاب المقدس قبل ان يُلقى القبض عليهم، اعتنق البعض الآخر الحق في السجن.
ناظر دائرة يزور السجن
وصف احد الاخوة الاحداث التي جرت في السجن سنة ١٩٨٦ بالكلمات التالية: «كان عدد الشهود كبيرا هناك. لذا عقدنا اجتماعا لنناقش كيف سنساعد الاخوة خارج السجن. فقررنا ان نكتب لهم رسالة تشجيع. وأخبرناهم اننا سنعود الى ديارنا حالما ننهي المقاطعة داخل السجن. فكنا نكرز من سرير الى سرير ونعقد دروسا في الكتاب المقدس. ولم نكتفِ بذلك بل اردنا ايضا ان يزورنا ناظر الدائرة، اذ سمعنا انه يزور الجماعات خارج السجن. لذا جعلنا هذه المسألة موضوع صلاة ليهوه. وبعد مدة قصيرة، أُلقي الاخ رْوَاكابوبو، للمرة الثانية في السجن. وبما انه كان ناظر الدائرة آنذاك، اعتبرنا ذلك استجابة لصلواتنا. نعم، لقد زارنا ناظر الدائرة!».
خلال الاضطهاد، لم يساير إلا اخ واحد فقط على ايمانه، بوضعه شارة الحزب السياسي. ونتيجة ذلك، قام المساجين غير الشهود بضربه وركله وإهانته ونعتوه بالجبان. اما زوجته، التي كانت تدرس الكتاب المقدس في تلك الفترة، فسألته لماذا لم يحافظ على ولائه. وفي وقت لاحق، كتب رسالة الى القضاة يعلِمهم بها انه اخطأ ولا يزال واحدا من شهود يهوه. كما كتب ايضا رسالة اعتذار الى مكتب الفرع في كينيا. وهو الآن يخدم يهوه بولاء من جديد.
مواصلة الكرازة خارج السجن
وماذا عن اولئك الذين لم يُسجنوا؟ لقد واصلوا الكرازة بغيرة لا تخبو، اذ بلغ معدل ساعات خدمتهم نحو ٢٠ ساعة في الشهر. يخبر ألْفرد سِمالي الذي بقي خارج جدار السجن: «رغم اني لم أُسجن قط، توقعت ذلك واستعددت له. وبما ان قاعة الملكوت كانت قد أُقفلت، بتنا نجتمع في فرق صغيرة وداومنا على عمل البشارة. فكنت اضع المجلات في ظرف كاكي اللون، وأذهب الى المدينة كما لو انني ابحث عن عمل. ثم أتحيّن الفرص لعرض المطبوعات ومناقشة الكتاب المقدس.
«سنة ١٩٨٦، زُجّ في السجن عدد كبير من الاخوة والاشخاص المهتمين، ولم يُستثنَ حتى الذين بدأوا لتوّهم درس الكتاب المقدس. وقد حافظ هؤلاء على ثباتهم بطريقة مذهلة. في غضون هذا الوقت، كتب الشهود من مختلف البلدان حول العالم رسائل الى رئيس جمهورية رواندا يحتجون فيها على المعاملة الظالمة التي يلقاها الشهود. وأعلنت نشرات الاخبار على الراديو ان الرئيس تسلَّم مئات الرسائل يوميا، امر كان له وقع ايجابي. ففي السنة التالية، أُطلق سراح اخوتنا وأخواتنا والمهتمين بموجب مرسوم رئاسي. فغمر الفرح قلوبنا!». وما إن أُخلي سبيل الشيوخ حتى صنعوا الترتيبات كي يعتمد ٣٦ شخصا في كيڠالي. وقد قدَّم ٣٤ منهم طلبا للفتح الاضافي.
في ذروة الاضطهاد سنة ١٩٨٦، وصل معدل الناشرين الى ٤٣٥ اخا وأختا كان نحو ١٤٠ منهم معتقلين. وقد شكّل هؤلاء الشهود جزءا مهما من هيئة يهوه في رواندا، بعد ان ‹امتُحن› إيمانهم وبرهنوا عن ولائهم. — يع ١:٣.
وأخيرا، بعد السنوات المضطربة التي وسمت ثمانينات القرن العشرين، تمتعت الجماعات في رواندا بفترة من السلام والنمو النسبيين. ولكن ماذا خبَّأ لها المستقبل؟ صحيح ان المزيد من الناس اعتنقوا الحق، ولكن هل كان هؤلاء الجدد سيبرهنون انهم هم ايضا بنوا ايمانهم بمواد مقاومة للنار؟ (١ كو ٣:١٠-١٥) وهل مكّنهم إيمانهم من احتمال التجارب التي انتظرتهم؟ لنتابع الرواية ونرَ.
الحرب والاضطرابات السياسية
بحلول سنة ١٩٩٠، وصل عدد الناشرين النشاطى في رواندا الى ٠٠٠,١ شخص تقريبا. لكنّ البلد بدأ يشهد اضطرابات سياسية. ففي تشرين الاول (اكتوبر)، اجتاحت قوات الجبهة الوطنية الرواندية شمال رواندا عبر الحدود الأوغندية.
عندما بدأ الاجتياح، كان فرديناند موڠارورا يعيش في روهنڠاري، وهو اخ شجاع سُجِن مرتين بسبب ايمانه. يتذكر قائلا: «انتشرت الضغينة والقَبَلية. رغم ذلك، حافظ شهود يهوه على موقفهم الحيادي، ولم يشتركوا في النزاع السياسي والتحامل العرقي. ولأن الاخوة رفضوا التخلي عن حيادهم، اضطر بعضهم الى الهرب من منازلهم في حين خسر آخرون وظائفهم».
أبلغ ناظر احدى المدارس السلطات العسكرية عندما رفضت أخت تعمل كمعلِّمة تقديم المساعدات للجيش. وقد كانت الاخت أرملة وأما لثلاثة اولاد. فاعتُقلتْ ورُميتْ في السجن مرة ثانية (كانت الاولى في ثمانينات القرن العشرين). وعندما وصلت قوات الجبهة المسلحة الى المدينة، اقتحموا السجن وهرب كل المساجين ما عداها. وعندما انسحبت القوات، أُلقي القبض عليها من جديد ونُقلت الى السجن المركزي في كيڠالي. في السجن، صلّت الى يهوه ان تعرف تاريخ الذِّكرى اذ لم ترغب ان يفوتها الاحتفال. وكم دُهشت عندما أُطلق سراحها في اليوم نفسه للذِّكرى! وبسبب موقفها الحيادي خسرت منزلها ووظيفتها، لكنها انخرطت في عمل الفتح وخدمت يهوه بغيرة.
بسبب التدخلات الدولية، توقف وقتيا اجتياح قوات الجبهة من أوغندا. وسنة ١٩٩١، بدأت التحركات لاعتماد سياسة التعددية الحزبية. فتأسست عدة احزاب رئيسية اضافة الى بعض الاحزاب الصغيرة، الامر الذي ساهم في خلق نزعة إقليمية وقَبَلية. وفي حين اتسمت بعض الاحزاب بالاعتدال، كانت أخرى متطرفة وذات نزعة حربية. وللمرة الاولى اصبحوا ينظرون الى موقف شهود يهوه الحيادي بطريقة ايجابية. فهم ما عادوا اعداء في نظر الحكومة والشعب عموما، لأنهم لم ينحازوا في النزاعات السياسية والقَبَلية.
وفي ايلول من تلك السنة، وصل وفد من الاخوة من عدة بلدان وقاموا برفقة اخوَين من رواندا، هما ڠاسپار رْوَاكابوبو وتارسيس سِمينيڠا، بزيارة وزراء حكوميين بارزين في كيڠالي. فتكلَّم الوفد مع وزير العدل الجديد الذي بدوره استمع اليهم بتعاطف. فشكره الاخوة على الخطوات الايجابية التي سبق ان اتخذها، وطلبوا منه ان يساعدهم اكثر لنيل الحرية الدينية الكاملة.
وقبل ان يُمنح الاخوة الاعتراف الشرعي، عقدوا محفلا كوريا في كيڠالي، في كانون الثاني (يناير) ١٩٩٢. يتذكر ڠادفري وجِني بينت ما حدث: «في ذلك الوقت، كنا نخدم في أوغندا. ولدهشتنا، وصلتنا رسالة من مكتب الفرع في كينيا يطلب فيها منا الذهاب الى رواندا مدة ثلاثة اسابيع للمساعدة في الترتيب للمحفل وتسجيل المسرحية. غمرنا الاخوة بضيافتهم، فكل يوم كانت تدعونا عائلة لتناول وجبة الغداء معها. وعندما وصلنا، كان الاخوة قد استأجروا ملعبا لكرة القدم وقاموا بالاستعدادات اللازمة، وحضّروا تسجيلات المسرحية. وقد جرى كل شيء بسلاسة رغم ان المعدات المتوفرة كانت محدودة. وعلى الرغم من اغلاق الحدود مع أوغندا وبوروندي وعدم تمكن شهود كثيرين قاطنين في شمالي البلاد من الحصول على موافقة السلطات للسفر، فقد بلغ عدد الحضور يوم الاحد ٠٧٩,٢ واعتمد ٧٥ منهم».
وأخيرا، الاعتراف الشرعي!
بعد عدة اشهر، في ١٣ نيسان (ابريل) ١٩٩٢، سُجِّل عمل شهود يهوه شرعيا في رواندا للمرة الاولى. وهكذا، انتهى الصراع الطويل لإعلان البشارة في وجه الحظر والاضطهاد والسجن. وها الاخوة ينتظرون بشوق عصرا جديدا من النمو والتوسع الثيوقراطيين.
لم تتوانَ الهيئة الحاكمة في تعيين مرسلين في البلاد. وأول مَن حصل على تأشيرات الاقامة كان هانك ڤان بوسل، الذي خدم سابقا في جمهورية افريقيا الوسطى وتشاد، وڠادفري وجِني بينت، اللذان خدما في زائير (الآن جمهورية الكونغو الديموقراطية) وأوغندا. كما تمّ تعيين لجنة بلد للإشراف على عمل الكرازة.
يروي الاخ بينت ما حدث عندما وصلوا الى رواندا: «وجدنا على الفور منزلا ملائما قريبا من قاعة الملكوت وجعلناه بيتا للمرسلين. وسرعان ما بدأنا نتعلم الكينيارواندية، وقد واجهنا، مثلنا مثل الفاتحين الخصوصيين الاوائل الذين اتوا سنة ١٩٧٠، تحديا كبيرا خصوصا في ما يتعلق باللفظ الصحيح. مثلا، وردت في احد الكتب التعليمية النصيحة التالية: ‹ان الحرفين CW معا يلفظان تْشِه!›. وقالت لنا الاخت التي كانت تعلِّمنا: ‹لن تتمكَّنوا من التلفظ جيدا بحرف «ش» في كلمة «إيسينڠشِه» [الارض الجديدة]، اذا لم تبتسموا!›».
في وقت لاحق من تلك السنة، سجّل عدد الناشرين ذروة جديدة من ٦٦٥,١ ناشرا. وفي كانون الثاني (يناير) ١٩٩٣ عُقد محفل كوري آخر في كيڠالي، حضره كيالا موانڠو كممثل للهيئة من مكتب الفرع في كينيا. وقد بلغ هذه المرة عدد الحضور ٤٩٨,٤ وعدد المعتمدين ١٨٢. ولم يتصور احد من الحضور آنذاك ان قطعة الارض مقابل الملعب حيث يُعقد المحفل سيُبنى فيها مكتب للفرع عام ٢٠٠٦.
ورغم تعرُّض البلاد لاجتياح آخر من الشمال، لم يخمد نشاطنا الكرازي. فبحلول سنة ١٩٩٣، وصلت جنود قوات الجبهة الوطنية على بُعد كيلومترات قليلة من كيڠالي. وكانت الحدود مع أوغندا لا تزال مغلقة، وأصوات المدفعيات الثقيلة تدوي من فوق التلال التي تطلّ على المدينة. لذلك اضطر نحو مليون شخص الى النزوح من شمال البلاد. وكان بين النازحين ٣٨١ اخا وأختا، اعتنى بهم الاخوة في كيڠالي ومحيطها. ولكن بفضل الجهود لتحقيق السلام تمّ التفاوض في أروشا بتنزانيا على وقف اطلاق النار، وإنشاء منطقة فاصلة. كما وافقت الحكومة على تقاسم السلطة مع قوات الجبهة الوطنية وعدد من الاحزاب السياسية الكبيرة والصغيرة.
محفل مميَّز جدا!
في تلك السنة تمّ تحديد يوم لعقد محفل خصوصي في مدرَّج كيڠالي الاقليمي. إلا ان المدرَّج كان محجوزا لمباراة في كرة القدم عند الثالثة من بعد ظهر اليوم نفسه. وبعد ان حضر الاخوة الفترة الصباحية من المحفل، وقبل ان تبدأ فترة بعد الظهر، بدأ هواة كرة القدم بالتوافد، ولم تتمكن الشرطة من إيقافهم. فقال مدير المدرَّج للشهود ان المباراة لن تنتهي قبل السادسة مساء. فما كان من الاخوة إلا ان غادروا المكان، ثم عادوا عند السادسة على امل الاستماع الى ما تبقى من فترات البرنامج.
لكن الاخوة كانوا قلقين بعض الشيء. فبسبب حظر التجوّل المفروض آنذاك، مُنع على المركبات التنقّل بعد السادسة مساء، ولم يُسمح للناس بالبقاء خارجا بعد التاسعة. ولكن نحو الساعة السابعة، أُذيع إعلان مفاده انه تمّ إرجاء حظر التجوّل الى الحادية عشرة. من جهة اخرى، لم تتوفر الكهرباء لإضاءة المدرَّج. لذا رتّب رئيس بلدية كيڠالي، تعويضا عن خرقه لشروط عقد الايجار، ان يزودهم بالإنارة. كما انه اهتم بتأمين المواصلات للاخوة مجانا بعد انتهاء البرنامج. وهكذا، تمكَّنوا من حضور كامل فترات المحفل. تخيّل دهشتهم فور خروجهم من المدرَّج عندما رأوا عددا كبيرا من الباصات بانتظارهم.
يستعيد ڠونتر راشكي ذكريات زيارته لرواندا في ايلول (سبتمبر) عام ١٩٩٣، قائلا: «أرسلني مكتب الفرع في كينيا الى كيڠالي لأعلِّم في مدرسة خدمة الملكوت الى جانب الاخ رْوَاكابوبو. في تلك المرحلة، لم يوجد في رواندا سوى ٦٣ شيخا، مع ان عدد الناشرين ارتفع الى ٨٨١,١. وكان التوتر يعم البلاد، وسمعنا اشاعات عن اشتباكات في الشمال. بالطبع لم يتوقع احد مدى صعوبة الاوقات التي تنتظرنا. رغم ذلك، تبيَّن ان الطعام الذي زوّدته المدرسة هو فعلا في حينه. فقد قوّى إيمان الشيوخ وجهّزهم كرعاة، الامر الذي كانوا بأمسّ الحاجة اليه اذ بدأت سحابة الحرب تلوح في الافق».
خطة لإنشاء مكتب للبلد
في نهاية آذار (مارس) ١٩٩٤، قدِم لِنارد إليس وزوجته نانسي من نيروبي لحضور المحافل الخصوصية ومساعدة مكتب الترجمة. وكان الفرع في نيروبي قد أوصى بأن يُدمج بيت المرسلين ومكتب الترجمة في رواندا. ويوم الاثنين ٤ نيسان (ابريل)، حضر درس برج المراقبة فريق ترجمة موسّع، ولجنة البلد، والمرسلون، والزوجان إليس. وكم كان مثيرا ان نشهد بداية مزيد من التوسع!
بعد ان انهى الزوجان إليس عملهما غادرا كيڠالي يوم الثلاثاء. وقد تبيَّن لاحقا ان الطائرة التي سافرا على متنها كانت آخر طائرة تنطلق من هناك. فقد توقفت الرحلات بعدها لأشهر عديدة. وبعد ظهر يوم الاربعاء، اتصل الاخ رْوَاكابوبو ببيت المرسلين ليخبرهم بأن السفارة الروسية تنازلت عن قطعة الارض التي كنا نأمل بناء مكتب للبلد فيها، وأنه اصبح بإمكان الشهود الحصول عليها. وقد حُدد موعد للاجتماع مع المسؤولين في صباح اليوم التالي، اي الخميس ٧ نيسان (ابريل). إلا ان هذا اللقاء المنتظر لم يتم!
الابادة الجماعية!
مساء الاربعاء، الواقع فيه ٦ نيسان (ابريل) ١٩٩٤، قُصفت طائرة تحمل رئيسَي رواندا وبوروندي قرب كيڠالي، وقُتل جميع مَن كان على متنها إثر تحطمها. ولم يعرف في تلك الليلة سوى قليلين من الناس بما حدث، لأن الاذاعة الرسمية لم تعلن الخبر.
لن ينسى المرسلون الثلاثة، الزوجان بينت والاخ هانك، ما جرى في الايام التالية. يشرح الاخ بينت: «في الصباح الباكر من ٧ نيسان (ابريل)، استيقظنا على اصوات اطلاق نار وتفجيرات القنابل اليدوية. لم يفاجئنا هذا الامر، لأن الوضع السياسي في البلاد لم يكن مستقرا البتة في الاشهر الاخيرة. وفيما كنا نعدّ الفطور، تلقينا اتصالا هاتفيا من ايمانويل نْڠيرِنْتي من مكتب الترجمة، يخبرنا فيه ان الاذاعة المحلية اعلنت وفاة الرئيسَين في حادث تحطّم طائرة. كما ان وزير الدفاع حذّر الجميع في كيڠالي من مغادرة منازلهم.
«نحو الساعة التاسعة صباحا، سمعنا الناهبين يقتحمون منزل جيراننا. فسرقوا سيارة العائلة وقتلوا الوالدة.
«وسرعان ما أتى بعض الجنود والناهبين الى منزلنا، وراحوا يدقون بعنف على البوابة الحديدية ويقرعون الجرس. إلا اننا حافظنا على هدوئنا ولم نخرج لنفتح لهم البوابة. لسبب او لآخر، لم يحاولوا فتح البوابة عنوة بل انتقلوا الى المنزل التالي. في هذه الاثناء، كانت اصوات الاسلحة الاوتوماتيكية والتفجيرات تُسمَع من كل حدب وصوب، ولم تتوفر اي وسيلة للهروب. وبما ان ازيز الرصاص لم يكن بعيدا، اجتمعنا في رواق الغرف في وسط المنزل لتفادي الرصاص الطائش. وبعدما ادركنا ان الوضع لن يهدأ بسرعة، قررنا ان نحضّر وجبة واحدة في اليوم ونتقاسمها جميعا لئلا تنفد مؤن الطعام لدينا. وفي اليوم التالي، فيما كنا نستمع الى الاخبار على الإذاعة بعد تناول وجبة الغداء، صرخ هانك: ‹انهم يتجهون نحو السياج!›.
«فما كان منا إلا ان توجهنا دون تفكير الى الحمام وأغلقنا الباب. ثم صلينا معا، طالبين من يهوه ان يساعدنا على تحمّل ما سيحدث لنا مهما كان. وقبل ان ننهي صلاتنا، سمعنا الميليشيا وعددا من الناهبين (نحو ٤٠ رجلا وامرأة وولدا) يقتحمون البيت عبر الابواب والشبابيك. وفي دقائق معدودة، اصبحوا داخل المنزل وراحوا يصرخون ويقلبون الاثاث رأسا على عقب. كما اخذوا يطلقون النيران وهم يتشاجرون حول الاغراض التي وجدوها.
«بعد مرور نحو ٤٠ دقيقة بدت وكأنها دهر، حاولوا خلع باب الحمام. فأدركنا انه يجب علينا ان نخرج ونظهر أنفسنا. كان الرجال تحت تأثير المخدِّرات ويتصرفون بجنون. فهددونا بالسواطير والسكاكين. وكانت جِني تصرخ بأعلى صوتها الى يهوه، فيما لوَّح احدهم بساطوره وضرب هانك بجهته غير المسنونة فأصابه عند اسفل رقبته. فوقع هانك في حوض الاستحمام. بطريقة او بأخرى، تمكّنت من إيجاد بعض المال فأعطيته للمعتدين، الذين راحوا يتقاتلون عليه.
«وفجأة رأينا احد الشبان يحدِّق الينا. لم نكن نعرفه، انما هو تعرّف إلينا ربما بسبب عملنا الكرازي. فأمسك بنا ودفعنا داخل الحمام وطلب منا ان نغلق الباب. ثم قال لنا انه سيأتي لإنقاذنا.
«استمر صوت ضجيجهم ٣٠ دقيقة تقريبا، ثم ساد السكون. فعاد الشاب ليعلِمنا انه بإمكاننا الخروج الآن. وأصرّ ان نخلي المكان فورا، فقادنا خارج المنزل دون ان نأخذ معنا شيئا. وفي الطريق هالَنا منظر جثث جيراننا الملقاة هنا وهناك. اصطحَبَنا اثنان من الحرس الجمهوري الى منزل مسؤول عسكري في الجوار، وهو بدوره أخذنا الى فندق ميل كولين حيث لجأ كثيرون. وأخيرا، في ١١ نيسان (ابريل)، تمَّ ترحيلنا الى كينيا بعد ساعات من القلق والاجراءات العسكرية المضنية لنقلنا من المدينة الى خلف المطار عبر طريق فرعية. وصلنا الى بيت ايل في نيروبي ودخلنا باحة الاستقبال شعرُنا مشعَّث وثيابنا غير مرتبة. اما هانك الذي كان قد انفصل عنا خلال ترحيلنا، فوصل الى نيروبي بعد ساعات قليلة. وفي بيت ايل غمرنا اعضاء العائلة باهتمامهم ودعمهم الحبيّين».
صلاة فتاة صغيرة تنقذ العائلة
بعد يوم من تحطّم الطائرة التي اودت بحياة رئيسَي رواندا وبوروندي، داهم ستة جنود حكوميين منزل الاخ رْوَاكابوبو. كانت عيونهم محتقنة بالدماء، وتفوح من نَفَسهم رائحة الكحول، ودلت تصرفاتهم انهم تحت تأثير المخدِّرات. طلبوا من الاخ ان يسلمهم الاسلحة. فأخبرهم بأنه وعائلته من شهود يهوه ولا يملكون اسلحة.
عرف الجنود ان شهود يهوه بسبب حيادهم رفضوا دعم الحكومة ولم يقدِّموا المساعدات للجيش، ما أثار حنقهم. وتجدر الاشارة ان ڠاسپار وميلاني رْوَاكابوبو لم يكونا من التوتسي، لكن ميليشيا الانترَهاموِ التابعة للهوتو لم تقتل التوتسي فقط بل الهوتو المعتدلين ايضا، خصوصا اولئك الذين اشتُبه بأنهم تعاطفوا مع التوتسي او مع قوات الجبهة.
فضرب الجنود ڠاسپار وميلاني بالعصي ثم اخذوهما مع اولادهما الخمسة الى غرفة النوم، نزعوا الشراشف عن الأسِرَّة، وراحوا يغطون بها العائلة. بدت نواياهم واضحة جدا للاخ ڠاسپار، إذ رأى البعض منهم يحملون قنابل يدوية في ايديهم. لذلك سألهم: «من فضلكم، هل تسمحون لنا ان نصلي؟».
رفض احد الجنود طلبهم بازدراء. ولكن بعد مناقشة قصيرة، وافقوا على مضض ان يسمحوا لهم بالصلاة. فقالوا لهم: «حسنا، يمكنكم الصلاة لدقيقتين فقط».
صلّت العائلة بصمت، باستثناء ديبورا ذات السنوات الست التي صلّت بصوت عالٍ وقالت: «يا يهوه، انهم يريدون ان يقتلونا. فكيف سأتمكن من زيارة الاشخاص الذين بشّرتهم مع أبي ووزّعت لهم خمس مجلات؟ انهم ينتظرون ان نعود لزيارتهم، فهم بحاجة الى معرفة الحق. أعدك يا يهوه انهم اذا لم يقتلونا فسأصبح ناشرة وأعتمد وأنخرط في الفتح! خلِّصنا يا يهوه، أرجوك!».
ذهل الجنود عند سماعهم صلاتها. فقال احدهم: «بسبب صلاة هذه الفتاة الصغيرة، لن نقتلكم. وإذا أتى آخرون إليكم، فقولوا لهم اننا كنا هنا».b
الاوضاع تتأزّم
ازدادت حدة الحرب فيما كانت قوات الجبهة الوطنية الرواندية تتقدّم نحو العاصمة كيڠالي، ما حدا برجال ميليشيا الانترَهاموِ اليائسين الى قتل المزيد والمزيد من الناس.
وقد اقام الجنود ورجال ميليشيا الانترَهاموِ المسلَّحون مع السكان المحليين حواجز في كل ارجاء المدينة وعلى مختلف مفارق الطرق. وأُجبر كل الرجال على الوقوف ليل نهار عند هذه الحواجز مع الانترَهاموِ بهدف التحقق من هوية ابناء التوتسي وقتلهم.
ومع استمرار القتل في كل انحاء البلاد، ترك مئات آلاف الروانديين منازلهم. ولجأ عدد منهم، بينهم شهود ليهوه ايضا، الى الكونغو وتنزانيا المجاورتين.
في مواجهة الحرب والموت
في ما يلي، روايات عن اخوة وأخوات شهدوا انهيار العالم من حولهم. تذكّر ان شهود يهوه في رواندا عانوا امتحانات قاسية في ثمانينات القرن العشرين، امتحانات قوّت ايمانهم ومحّصته وزادت من شجاعتهم. فإيمانهم ساعدهم ألا يكونوا «جزءا من العالم»، وذلك برفضهم الاشتراك في الانتخابات، والوقوف للدفاع عن مناطقهم، والتدخل في الشؤون السياسية. (يو ١٥:١٩) اما شجاعتهم فساعدتهم على تحمل ما قاسوه من ازدراء وسجن واضطهاد وموت جراء رفضهم هذا. وهاتان الصفتان، الى جانب محبتهم للّٰه وللقريب، لم تمكِّناهم من الامتناع عن الاشتراك في الابادة الجماعية فحسب، بل ايضا من المخاطرة بحياتهم في سبيل حماية واحدهم الآخر.
لم نأتِ على ذكر كافة الاختبارات التي حدثت. فأغلب الاخوة يفضّلون نسيان التفاصيل المروِّعة، لأنهم لا يسعون الى الانتقام. لكننا نأمل ان تشجعنا روايات الإيمان هذه على اظهار المحبة التي تميزنا كتلاميذ حقيقيين ليسوع المسيح. — يو ١٣:٣٤، ٣٥.
قصة جان وشانتال
بدأ جان دو ديو موڠابو بدرس الكتاب المقدس مع شهود يهوه عام ١٩٨٢. وقد اخذ مواقف حيادية حتى قبل معموديته عام ١٩٨٤، وسُجن ثلاث مرات بسببها. وفي عام ١٩٨٧، تزوج هذا الاخ المرح والمحب من شانتال، اخت اعتمدت هي ايضا سنة ١٩٨٤. وبحلول الوقت الذي بدأت فيه الابادة الجماعية، كان لديهما ثلاث بنات. فلازمت الفتاتان الأكبر سنا منزل جدِّهما وجدتهما خارج المدينة، اما الصغرى التي لم تتجاوز الستة اشهر فبقيت مع جان وشانتال.
في اليوم الاول من الابادة الجماعية، اي في ٧ نيسان (ابريل) ١٩٩٤، راح الجنود والانترَهاموِ يهاجمون كل منازل التوتسي. فاعتُقل جان وضُرب بالهراوى، إلا انه تمكن من الهرب ولجأ مع اخ آخر الى قاعة ملكوت مجاورة. في تلك الاثناء، سارعت شانتال، دون ان تعلم ما حل بزوجها، الى مغادرة المدينة مع طفلتها لتنضم الى ابنتيها الاخريين.
يروي جان ما حدث له: «اختبأنا انا والاخ مدة اسبوع في قاعة الملكوت. وكانت احدى الأخوات من الهوتو تحضر لنا الطعام كلما رأت الوضع آمنا. ثم اضطررنا الى الاختباء في السطح بين ألواح التسقيف الحديدية والسقف، فكدنا نحترق من شدة حر الشمس. لذا حاولنا ايجاد مخبإ افضل بأية وسيلة ممكنة. وبما ان قاعة الملكوت كانت في السابق فرنا لا تزال مدخنته الكبيرة موجودة، قمنا برفع بعض قطع القرميد من المدخنة واختبأنا اكثر من شهر بداخلها ونحن نجلس القرفصاء.
«هذا وقد اقامت ميليشيا الانترَهاموِ حاجزا قريبا من القاعة، وغالبا ما كان المسلحون يدخلون للتشاور او للاحتماء من المطر. فكنا نسمعهم من فوق يتكلمون. واستمرت الاخت بإحضار الطعام كلما سنحت الفرصة. وفي بعض الاحيان شعرت ان قدرتي على الاحتمال قد نفدت مني، لكني واظبت على الصلاة الى يهوه كي يمنحني القوة. وأخيرا، في ١٦ ايار (مايو)، اخبرتنا الاخت ان الجبهة الوطنية الرواندية سيطرت على المدينة وأنه بإمكاننا الآن الخروج من مخبئنا».
ولكن ماذا حل بشانتال زوجة جان؟ لندعها هي تكمل الرواية: «تمكنت انا وطفلتي من مغادرة المنزل في ٨ نيسان (ابريل). فالتقيت أختَين هما إيماكولي (من الهوتو) وسوزان (من التوتسي). كنا سنتوجه الى بوڠَسيرا التي تبعد حوالي ٥٠ كيلومترا عن كيڠالي وحيث يقطن والداي، إلا ان ذلك لم يحدث. فقد سمعنا انهم اقاموا حواجز لسد كل الطرقات المؤدية الى خارج المدينة. لذا قررنا ان نتجه الى قرية في ضواحي كيڠالي، حيث يعيش احد اقرباء إيماكولي واسمه ڠاهيزي، وهو ايضا من شهود يهوه. فرحب ڠاهيزي بنا وبذل كل ما في وسعه لمساعدتنا رغم تهديدات جيرانه. لكنه قُتل على يد الجنود والانترَهاموِ بعدما عرفوا انه حمى اشخاصا من التوتسي.
«بعد مقتل ڠاهيزي، اخذنا الجنود الى النهر ليقتلونا. فكادت تذوب قلوبنا رعبا ونحن ننتظر نهايتنا. وفجأة، بدأت مشادة كلامية بين الجنود، فقال احدهم: ‹لا تقتلوا النساء، فسيجلب ذلك علينا النحس. الآن هو الوقت لتصفية الرجال فقط›. في هذا الوقت كان بعض الاخوة يتبعوننا، ومن بينهم اندريه تواهيرا الذي مضى اسبوع فقط على معموديته. فأخذنا الى منزله على الرغم من احتجاجات الجيران. وفي اليوم التالي، قررنا ان نعود الى كيڠالي على امل ايجاد مكان آمن لنا. فرافقنا وساعدنا على عبور عدة حواجز خطرة. وفي الطريق حملت إيماكولي طفلتي الصغيرة لئلا يصيبها اي مكروه اذا ما تمَّ توقيفنا. اما انا وسوزان فمزقنا بطاقتَينا لإخفاء هويتَينا.
«حين بلغنا آخر حاجز، صفع جندي من الانترَهاموِ إيماكولي وقال لها: ‹لماذا ترحلين برفقة هؤلاء التوتسي؟›. ثم اوقفوني انا وسوزان، اما إيماكولي وأندريه فتوجها الى منزل الاخ رْوَاكابوبو طلبا للمساعدة. وما لبث ان عاد اندريه برفقة اخوَين آخرَين هما سيمون وماتياس، وساعدونا على عبور الحاجز، معرضين انفسهم لخطر كبير. اخيرا وصلت الى منزل الأخ رْوَاكابوبو، فيما ذهبت سوزان الى بيت احد اقربائها.
«شكل بقائي عند الأخ رْوَاكابوبو خطرا كبيرا، لذا اوصلني الاخوة بعد جهد جهيد الى قاعة الملكوت. بحلول ذلك الوقت، كان عشرة إخوة وأخوات من التوتسي قد اختبأوا هناك اضافة الى آخرين ممن هربوا. وكم كانت إيماكولي وفية اذ رفضت ان تتركني وحدي! فقد قالت لي: ‹إذا ما قُضي عليكِ، اعدك بأني سأنقذ طفلتك وأعتني بها›».c
في تلك الاثناء، استطاع ڤِداست بيمِنيمانا، اخ يعيش في الجوار، ان ينقل عائلته الى مكان آمن خوفا على زوجته التي كانت من التوتسي. وسرعان ما عاد وساعد مَن بقي في قاعة الملكوت على ايجاد ملاذ لهم. والحمد للّٰه ان الجميع نجوا بحياتهم.
بعدما انقضت المذبحة، علِم جان وشانتال ان والديهما وابنتَيهما البالغتَين سنتين وخمس سنوات قتلوا مع حوالي ١٠٠ شخص من الاقارب. فأي اثر خلفته فيهم هذه الفاجعة المرة؟ تعترف شانتال: «في البداية كان الوضع لا يُحتمل. وكنا مخدَّرَي الاحساس، اذ فاق عدد الذين فقدناهم كل تصوراتنا. ولم يكن في وسعنا سوى ترك الامور بين يدي يهوه على امل رؤية ابنتَينا ثانية في القيامة».
اختبأ خمسة وسبعين يوما
اعتمد تارسيس سِمينيڠا في الكونغو عام ١٩٨٣. اما حين بدأت الابادة الجماعية، فكان يعيش في بوتاري، رواندا، على بعد نحو ١٢٠ كيلومترا من كيڠالي. يذكر: «وقتما تحطمت الطائرة الرئاسية في كيڠالي، سمعنا عن صدور مرسوم يقضي بقتل كل التوتسي. فحاول اثنان من الاخوة ان يهرِّباني والعائلة عبر بوروندي، إلا ان ذلك كان من رابع المستحيلات. فكل الطرقات تحرسها ميليشيا الانترَهاموِ.
«بقينا اسرى المنزل، ولم ندرِ الى اين نذهب. وقد رصد أربعة جنود منزلنا، ووضع احدهم رشاشا على بعد ١٨٠ مترا تقريبا. فصليت صلاة حارة وصرخت الى يهوه قائلا: ‹يا يهوه، ليس في يدنا حيلة لنخلص انفسنا. انت وحدك تستطيع انقاذنا!›. بحلول المساء، ركض احد الاخوة باتجاه منزلنا والخوف ملء ضلوعه، ظنا منه اننا لقينا حتفنا. ولكن بعد ان سمح له الجيش ان يدخل لدقائق معدودة، تلاشى خوفه اذ وجدنا على قيد الحياة. وقد تمكن بطريقة او بأخرى من أخذ اثنين من اولادي الى منزله. ثم اخبر جاستن رْواڠاتور وجوزيف نْدووِيسو اننا مختبئون وبحاجة الى المساعدة. فأتيا فورا، عند حلول المساء، ونقلونا الى منزل جاستن رغم الخطر والعوائق.
«لم تدم اقامتنا طويلا في منزل جاستن. فقد عرف الناس في اليوم التالي مكان وجودنا، وأتى رجل يدعى ڤنسان، كان قد درس الكتاب المقدس مع جاستن انما دون ان يأخذ موقفا الى جانب الحق، ليحذِّرنا من الانترَهاموِ الذين يستعدون لاقتحام المنزل والقضاء علينا. كما نصحنا بأن نتوارى عن الانظار في الاحراج الى جوار منزل جاستن. وعند حلول المساء، اتى بنا الى منزله وخبأنا في كوخ دائري الشكل استُخدم حظيرة للماعز، سقفه من القش وجدرانه وأرضه من الطين ولا نوافذ له.
«قضينا أياما وليالي طويلة في هذا الكوخ، الذي يقع على مقربة من تقاطع طرق يبعد عدة امتار فقط عن اكثر الاسواق ازدحاما في المنطقة. وكنا نسمع المارّة يتحدثون واحدهم مع الآخر عن الامور التي فعلوها خلال اليوم، بما فيها روايات جرائمهم المروِّعة وخططهم المستقبلية. فزاد هذا الجو من خوفنا. لذا واظبنا على الصلاة من اجل نجاتنا.
«بذل ڤنسان كل ما في وسعه للاهتمام بحاجاتنا. ولكن بحلول نهاية ايار (مايو)، اي بعد شهر، اصبح من الخطر البقاء عنده. فميليشيا الانترَهاموِ وصلت الى المنطقة بعد فرارها من كيڠالي. لذلك قرر الاخوة نقلنا الى ما يشبه القبو تحت منزل احدهم، لننضم الى ثلاثة آخرين يختبئون هناك. غير ان بلوغنا منزل هذا الاخ لم يكن بالأمر السهل، اذ اضطررنا ان نمشي ليلا مدة ثماني ساعات ونصف تحت المطر الغزير. وقد تبيَّن ان ذلك عمل لصالحنا، لأن القتلة عجزوا عن رؤيتنا.
«كان هذا المخبأ الجديد عبارة عن حفرة بعمق متر ونصف تقريبا تُغطى بلوح خشبي. ولكي نبلغ الحفرة، كان علينا ان ننزل سلّما ثم نجثو على ركبتينا، ونحبو عبر نفق حتى نصل الى غرفة مساحتها نحو مترين مربَّعين تفوح منها رائحة العفونة وينفذ اليها مجرد شعاع نور ضئيل من شق في الحائط. فتشاركنا انا وزوجتي بالاضافة الى أولادنا الخمسة هذه المساحة الصغيرة مع ثلاثة آخرين. وبقينا نحن العشرة في هذا المكان الضيق ستة اسابيع. ولم نجرؤ على اشعال شمعة خوفا من ان يُكتشَف امرنا، باستثناء بعض الاوقات خلال النهار التي كنا نشعل فيها شمعة واحدة لقراءة مقاطع من الكتاب المقدس، او مجلة برج المراقبة، او الآية اليومية. وقد خاطر الاخوة بحياتهم كي يجلبوا لنا الطعام والدواء ويمدونا بكلمات التشجيع. نعم، دعمنا يهوه خلال كل هذه المصاعب والآلام التي اصابتنا».
يتابع تارسيس: «لكل رواية نهاية. ونحن انتهت روايتنا في ٥ تموز (يوليو) ١٩٩٤، عندما اخبرنا ڤنسان ان قوات الجبهة احتلت بوتاري. فخرجنا من القبو شاحبي اللون بسبب عدم تعرضنا لأشعة الشمس، حتى ان بعض الناس لم يعرفوا اننا روانديون. هذا وقد بقينا فترة من الوقت لا نستطيع ان نتكلم بصوت مرتفع بل همسا، واحتجنا الى اسابيع كي نستعيد حالتنا الطبيعية.
«كل هذه الاحداث خلفت اثرا عميقا في زوجتي التي بدأت بدرس الكتاب المقدس مع شهود يهوه بعد رفض دام عشر سنوات. وحين يسألها الناس عن السبب تجيب: ‹لقد مسّت قلبي المحبة التي اظهرها الاخوة نحونا والتضحيات التي قاموا بها في سبيل انقاذنا. كما اني شعرت بيد يهوه القوية التي نجتنا من سواطير القتلة›. وفي اول محفل عُقد بعد الحرب اعتمدت رمزا الى انتذارها ليهوه اللّٰه.
«نشعر اننا مَدينون لجميع الاخوة والاخوات الذين ساهموا بأعمالهم وصلواتهم القلبية في بقائنا احياء. فقد اختبرنا محبتهم الصادقة والعميقة التي تجاوزت كافة الحواجز الإثْنِية».
تبادل المساعدة
في وقت لاحق، صار جاستن رْواڠاتور، احد الاخوة الذين ساعدوا عائلة الاخ سِمينيڠا، هو بدوره محتاجا الى المساعدة. ففي عام ١٩٨٦، سجن لأنه رفض التورط بسياسة الحزب الحاكم. وبعد مرور سنوات على حمايته عائلة سِمينيڠا، اعتُقل من جديد مع اخوة آخرين بسبب موقفهم الحيادي. فتشكل وفد للقاء السلطات المحلية بغية توضيح موقف شهود يهوه حيال التورط في السياسة. ومن الجدير بالذكر ان الاخ سِمينيڠا كان ضمن هذا الوفد. فشرح للسلطات كيف ان جاستن لعب دورا اساسيا في انقاذ اسرته. والنتيجة؟ أُطلق سراح كل الاخوة المسجونين.
دفع مثال اخوتنا خلال الابادة الجماعية آخرين الى قبول الحق. فقد رأت سوزان لِزيندِه، امرأة كاثوليكية في اواسط ستيناتها، كيف دعمت كنيستها الابادة. وفي المقابل، لاحظت كيف تصرف شهود يهوه في منطقتها والمحبة التي تسود بينهم، ما حدا بها الى احراز تقدم سريع في الحق. ومنذ معموديتها في كانون الثاني (يناير) ١٩٩٨، لم تفوت اجتماعا في الجماعة حتى وفاتها على الرغم من انها كانت تقطع مسافة خمسة كيلومترات عبر التلال مشيا على الاقدام. كما ساعدت عائلتها على تعلم الحق. واليوم، يخدم احد ابنائها شيخا في الجماعة في حين يخدم احد احفادها خادما مساعدا.
اغاثة مئات الآلاف الذين هربوا
عُيّن هانك ڤان بوسل مرسلا في رواندا عام ١٩٩٢. وبعدما غادرها الى كينيا في نيسان (ابريل) ١٩٩٤، قام برحلات الى ڠوما شرقي الكونغو للمساعدة في برنامج اغاثة اللاجئين الروانديين. وعلى الحدود جهة الكونغو راح الاخوة يتجولون وهم يحملون المطبوعات ويرنمون او يصفّرون ألحان الملكوت كي يتمكن الشهود الذين يعبرون الحدود الرواندية من التعرف اليهم.
كان الذعر يدب في قلوب الجميع. وفيما تواصل الصراع بين القوات الحكومية والجبهة الوطنية الرواندية، لجأ مئات الآلاف من الناس الى الكونغو وتنزانيا. اما الشهود الذين هربوا الى ڠوما، فكانت قاعة الملكوت نقطة تجمّعهم. وفي وقت لاحق، نصب الاخوة مخيّما للاجئين خارج المدينة يتسع لأكثر من ٠٠٠,٢ شخص يقتصرون على الشهود وأولادهم والناس المهتمين. كما انشأوا مخيمات مماثلة في مناطق مختلفة من شرقي الكونغو.
ان غالبية الناس الذين فرّوا كانوا من الهوتو الخائفين من الثأر. اما الاخوة الذين هربوا معا، فقد ضموا الهوتو والتوتسي على السواء مع العلم ان عبور الحدود الى ڠوما كان في غاية الخطورة نظرا الى استمرار عمليات قتل التوتسي. ففي احدى المراحل، كلف تهريب الاخوة التوتسي خارج البلاد ١٠٠ دولار اميركي للشخص الواحد.
وحين وصل الشهود الى الكونغو، ارادوا ان يبقوا معا. فهم لم يشاءوا ان تكون لهم اية صلة بالانترَهاموِ الذين تابعوا نشاطهم في المخيمات التابعة للامم المتحدة. كما انهم لم يروقوا للاجئين غير الشهود المتعاطفين مع الحكومة المعزولة، وللانترَهاموِ على وجه الخصوص لأنهم لم ينضموا اليهم. لذا فضل الاخوة ان يبقوا منفصلين بحيث يتمكنون من حماية اخوتهم التوتسي.
بات الشهود الذين غادروا رواندا بأمس الحاجة الى المساعدة، لأنهم تركوا كل ممتلكاتهم وراءهم. لذا قدَّم الاخوة من بلجيكا، سويسرا، فرنسا، الكونغو وكينيا المساعدة على اشكالها، مزودين اياهم بالمال والدواء والطعام واللباس، اضافة الى الاطباء والممرضين. فقد ارسل الفرع في فرنسا خيما صغيرة على متن اول طائرة إغاثة. ولاحقا، بعث الفرع في بلجيكا خيما كبيرة تتسع لعائلات بأكملها، هذا عدا عن الاسرَّة المحمولة والقابلة للنفخ. كما ارسل الفرع في كينيا ما يزيد على طنَّين من الالبسة وألفي بطانية.
تفشي الكوليرا
بعد الهروب من رواندا، مكث اكثر من ٠٠٠,١ شاهد ومهتم في قاعة الملكوت في ڠوما وفي قطعة الارض المحاذية لها. وللأسف نتج عن هذا التجمع الكبير من اللاجئين تفشي الكوليرا في ڠوما. فسارع الفرع في الكونغو الى ارسال الدواء اللازم لمحاربة هذا الوباء. كما سافر الاخ ڤان بوسل من نيروبي الى ڠوما حاملا ٦٠ صندوقا من الدواء. فاستُخدمت قاعة الملكوت بشكل مؤقت كمستشفى، وتمَّ بذل كافة الجهود بغية عزل المصابين. بالاضافة الى ذلك، اتى لويك دومَلان وأخ آخر، وهما طبيبان، الى جانب الاخ إمابْل هابيمانا، وهو مساعد طبيب من رواندا، وعملوا ليل نهار بكل تفان. وقد تطوع العديد من الاخوة والاخوات ذوي الخبرة في المجال الطبي، من بينهم الاخ أمِلْ الذي قدِم من فرنسا، وكانوا جميعا مصدر عون كبير.
على الرغم من كل الجهود المبذولة للحؤول دون انتشار هذا الوباء، اصيب اكثر من ١٥٠ اخا ومهتما ومات حوالي ٤٠ قبل التمكن من وضع حد له. بعدئذ، استؤجرت قطعة ارض كبيرة وأُنشئ عليها مخيَّم لشهود يهوه. فنُصبت مئات الخيم الصغيرة، بالاضافة الى خيمة كبيرة استُخدمت كمستشفى أُرسلت من كينيا. وقد دهش العاملون الاميركيون في مجال الصحة من نظافة وترتيب المخيم.
بحلول آب (اغسطس) ١٩٩٤، كانت لجنة الاغاثة في ڠوما تعتني بـ ٢٧٤,٢ لاجئا من الشهود وأولادهم والمهتمين. وفي الوقت نفسه، لجأ العديد من الاخوة الى مخيمات اخرى في بوكاڤو وأوڤيرا شرقي الكونغو، وفي بوروندي ايضا. هذا وقد ضم احد المخيمات في تنزانيا اكثر من ٢٣٠ شاهدا.
وعندما اضطر الاخوة من مكتب الترجمة في كيڠالي ان يهربوا الى ڠوما، استأجروا منزلا بهدف مواصلة عمل الترجمة. وكان ذلك ممكنا، لأنهم خلال الحرب احتفظوا بكمبيوتر وبمولِّد كهربائي، وأحضروهما معهم من كيڠالي.
اما في ڠوما، فكانت خدمات الاتصالات والبريد شبه معدومة. ولكن، بمساعدة الشهود الذين يعملون في المطار، استطاع الاخوة ارسال المواد المترجمة والرسائل الاخرى على متن رحلة اسبوعية بين ڠوما ونيروبي. وقد أعاد الاخوة في الفرع بكينيا البريد الى ڠوما بالطريقة عينها.
واظب ايمانويل نْڠيرِنْتي مع مترجمَين آخرَين، على عملهم بأفضل ما يكون رغم صعوبة الاوضاع. وأثناء الحرب في كيڠالي، لم يتمكنوا من ترجمة بعض المقالات من مجلة برج المراقبة، لكنهم عادوا وترجموها لاحقا لتصدر في كراسات خاصة درسها الاخوة في درس الكتاب الجَماعي.
الحياة في مخيَّم اللاجئين
فيما كان السكان يُخلون كيڠالي نُقلت فرانسين، التي هربت الى ڠوما بعدما قُتل زوجها آناني، الى احد المخيَّمات التي نصبها الشهود. وهي تصف الحياة في المخيَّم كما يلي: «كانت تُعيَّن مهمة اعداد الطعام كل يوم لعدد من الاخوة والاخوات. فنعدّ وجبة فطور بسيطة من دقيق الذرة الصفراء او الدُّخن المطبوخَين بالحليب، هذا بالاضافة الى وجبة الغداء. وبعد اتمام كافة مسؤولياتنا، ننطلق للاشتراك في خدمة الحقل. فنشهد بالأخص لأفراد عائلتنا غير الشهود في المخيَّم، وكذلك للذين يعيشون خارج المخيَّم. ولكن، لم يمضِ وقت طويل حتى تأزم الوضع، اذ ثار غضب اعضاء ميليشيا الانترَهاموِ في المخيمات الاخرى عند رؤيتهم الشهود في مخيمات منفصلة عن تلك التي للاجئين الآخرين».
بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٩٤، تبين ان عودة الاخوة الى رواندا باتت آمنة. وفي الواقع، كان من المستحسن فعل ذلك نظرا الى الخطر الذي أحاط بهم في مخيمات غير الشهود في الكونغو. إلا ان عودتهم لم تكن بالامر السهل، لأن الانترَهاموِ كانوا ينوون إعادة رصف صفوفهم والهجوم على رواندا، وكل مَن يغادر الكونغو ويعود الى رواندا يعتبَر خائنا في نظرهم.
اخبر الاخوة الحكومة الرواندية ان شهود يهوه، الذين حافظوا على موقف حيادي خلال الحرب ولم يشتركوا في الابادة الجماعية للتوتسي، يرغبون في العودة الى بلدهم. فنصحتهم الحكومة ان يتفقوا مع مفوَّضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين، لأنها تملك مركبات آلية يمكن استخدامها لنقلهم. ولكن كيف سيجتنبون رجال الميليشيا الذين كانوا سيعيقونهم؟ استخدم الشهود الخطة التالية:
اعلنوا عن يوم محفل خصوصي سيعقد في ڠوما وأعدوا لافتات تعلن عن البرنامج. ثم ابلغوا الشهود سرًّا بنِيَّة العودة الى رواندا. ولئلا يثيروا اية شكوك، طلبوا منهم ان يتركوا كل ممتلكاتهم في المخيمات وألا يأخذوا معهم سوى كتبهم المقدسة وكتب الترانيم، متظاهرين انهم ذاهبون الى محفل.
تتذكر فرانسين انهم مشوا لساعات قبل ان يبلغوا الشاحنات التي كانت بانتظارهم لتنقلهم الى الحدود. وبعدما عبروا الى رواندا، صنعت مفوَّضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين الترتيبات اللازمة لأخذهم الى كيڠالي ومن ثم الى منازلهم. وهكذا، عاد معظم الاخوة مع عائلاتهم والمهتمين الى رواندا في كانون الاول (ديسمبر) من عام ١٩٩٤. وفي هذا الخصوص، ورد في الصحيفة البلجيكية لو سوار عدد ٣ كانون الاول (ديسمبر) ١٩٩٤ التقرير التالي: «قرر ٥٠٠,١ لاجئ رواندي مغادرة زائير [الكونغو] لأنهم شعروا ان أمنهم في خطر. انهم شهود يهوه الذين نصبوا مخيَّمهم الخاص شمال مخيَّم كاتالِه. وقد عانوا هم خصوصا الاضطهاد على يد الحكومة السابقة بسبب رفضهم حمل السلاح والاشتراك في المهرجانات السياسية».
بعدما رجعت فرانسين الى رواندا تسنى لها حضور محفل كوري في نيروبي. كما استأنفت العمل في مكتب الترجمة الذي أُعيد انشاؤه في كيڠالي، وذلك بفضل التعزية والدعم اللذَين نالتهما من الاخوة والاخوات بعد وفاة زوجها. وفي وقت لاحق، تزوجت ايمانويل نْڠيرِنْتي، وما زالا حتى الآن يخدمان في مكتب الفرع.
وكيف تمكنت فرانسين من التحكُّم في مشاعرها خلال الحرب؟ تقول: «في ذلك الوقت، لم نفكر سوى في شيء واحد: يجب ان نحتمل حتى النهاية. لذا قررنا ألا نمعن التفكير في الفظائع التي ترتكَب. وأذكر اني وجدت العزاء في حبقوق ٣:١٧-١٩، التي تتحدث عن كيفية ايجاد الفرح رغم الظروف الصعبة. هذا وقد امدني الاخوة والاخوات بالكثير من التشجيع. فالبعض كتبوا لي رسائل ساعدتني ان احافظ على موقف ايجابي وأنظر الى الامور من منظار يهوه. كما تذكرتُ ان للشيطان حيلا متنوعة، لذا وجب ان نبقى يقظين على جميع الجبهات. فإذا سمحنا لمشكلة ما ان تستأثر بكل تركيزنا، فسنضعف ونعثر في مشكلة اخرى قد تواجهنا عاجلا او آجلا».
تجديد النشاط
كان للاخ ڤان بوسل دور فاعل في مساندة الشهود العائدين. يخبر: «وضعنا برنامجا لمساعدة الاخوة على البدء من جديد واستعادة حياتهم الطبيعية بعد الحرب، بمَن فيهم الذين بقوا في رواندا وخسروا كل ممتلكاتهم تقريبا. فزار الاخوة المعينون كل جماعة بهدف تقييم الحاجات. وزودوا الأسر والافراد حصتهم من المؤن، كلًّا وفق ظروفه. ومن ناحية اخرى، ادرك الاخوة انه بعد ثلاثة اشهر سيتوجب عليهم الاعتناء بأنفسهم».
وبالطبع مُنحت حاجات الاخوة الروحية الاولوية. فعاد فريق الترجمة الى مركزه الرئيسي في كيڠالي. وعلى حد قول الاخ ڤان بوسل كانت جدران المنزل مخردقة بكاملها، لكن أغلب الكتب بقيت على حالها في المخزن. وحتى بعد مرور اشهر وجدوا رصاصا في صناديق المطبوعات، كما عثر احد المترجمين على قنبلة يدوية في الحديقة. وفي السنة التالية، قرابة شهر تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٩٥، انتقل فريق الترجمة الى مبنى مستأجر أوسع وأنسب في الجانب الآخر من المدينة، يضم مكاتب وغرفا للسكن الى ان انتهى بناء مكتب الفرع الجديد عام ٢٠٠٦.
«كان الامر اشبه بالقيامة!»
بحلول كانون الاول (ديسمبر) ١٩٩٤، كان أغلب الاخوة قد عادوا من الكونغو. وتبيَّن ان مجيئهم هذا كان في وقته، وذلك كي يتسنى لهم حضور المحفل الكوري الذي حمل عنوانا مناسبا «الخوف التقوي». تقرَّر عقد هذا المحفل على الارض التابعة لاحدى قاعات الملكوت في كيڠالي. وقد اتى اخوة من أوغندا وفرنسا وكينيا لحضوره. وفي صباح يوم الجمعة، غصّ المكان بالشهود. تستذكر احدى الاخوات: «كم كان مؤثرا ان نرى اخوة وأخوات يعانقون واحدهم الآخر وعيونهم مغرورقة بالدموع! لقد كان هذا اول لقاء لهم بعد الحرب، وفيه وجدوا اصدقاء لهم ظنوا انهم ماتوا». وقالت اخت اخرى: «كان الامر اشبه بالقيامة!».
يذكر ڠونتر راشكي احد الذين اتوا من كينيا: «ما اجمل ان نلتقي من جديد بعد كل هذه المصائب التي حلت بنا، وبالاكثر ايضا ان نعرف مَن نجا! بيد ان مشكلة طرأت. فقد تخوفت السلطات من تجمع هذا العدد الكبير من الناس. لذا، وصل جنود مسلحون في وقت باكر من بعد الظهر، وأخبرونا انه تمَّ إلغاء المحفل بسبب خطورة الوضع الامني. فاضطررنا الى إخلاء المكان على الفور. وقد تسنى لنا لاحقا ان نصرف بعض الوقت لنشجع الاصدقاء، غير اننا عدنا اخيرا الى نيروبي خائبي الامل لعدم تمكن الاخوة من التمتع ببرنامج المحفل. رغم ذلك، شعرنا اننا بذلنا كل ما في وسعنا لنشجع اخوتنا على صعيد شخصي ان يثبتوا على الايمان. وحينما غادرنا كنا على ثقة تامة بأنهم مصممون على ذلك».
الآن وقد عمّ السلام نوعا ما في البلاد، قرر الكثير من الروانديي الاصل العائشين خارج البلد ان يعودوا. كما قدِم بعض الذين وُلدوا خارج رواندا بعد ان هاجر والدوهم خلال الانتفاضات السياسية والإثْنِية التي شهدتها اواخر خمسينات وستينات القرن العشرين. وقد ضم هؤلاء اشخاصا تعلموا الحق في البلدان التي اتوا منها. مثالا على ذلك، جيمس مونيابورانڠا وعائلته الذين اعتنقوا العبادة الحقة في جمهورية افريقيا الوسطى. في هذه الاثناء، حرصت الحكومة الرواندية الجديدة على إعطاء وظائف حكومية للمغتربين العائدين، فحصل الاخ مونيابورانڠا على عمل. لكنه واجه المقاومة والاستهزاء من اقاربه وزملائه في العمل لأنه اختار العيش بموجب المبادئ المسيحية، ما حدا به في النهاية الى التقاعد باكرا والانخراط في الفتح العادي. وهو يخدم الآن ممثلا قانونيا لشهود يهوه في رواندا.
وثمة اخ آخر يدعى نڠيراباكونْسي ماشاريكي كان قد تعلم الحق في شرقي الكونغو. يخبرنا ما حدث معه: «عانيت التمييز لسنوات طوال بسبب كوني من التوتسي. اما حين اجتمعت مع شهود يهوه فشعرت اني في عالم آخر. كان الامر أشبه بأعجوبة! فهم اشخاص جديون يعيشون بانسجام مع ما يعلِّمونه. وقد برزت محبتهم بشكل خصوصي خلال الابادة الجماعية للتوتسي عام ١٩٩٤، اذ خبأ الاخوة عائلتي وأمنوا لنا الحماية. وفي عام ١٩٩٨، دعيت الى بيت ايل حيث اخدم الآن مع زوجتي إمِرانس. وأنا انتظر بشوق العالم الجديد، حيث يزول التحامل والتمييز العنصري، وتمتلئ الارض بأشخاص يدعون باسم يهوه ويعيشون بوحدة».
العمل ينطلق من جديد
قبل اندلاع الحرب، في آذار (مارس) ١٩٩٤، كان عدد الناشرين في رواندا ٥٠٠,٢. اما بحلول ايار (مايو) ١٩٩٥، فبلغوا ذروة جديدة من ٨٠٧,٢، رغم موت الكثير من الشهود خلال الابادة الجماعية. فالناس المخلصون تقاطروا الى هيئة يهوه. على سبيل المثال، عقدت فاتحة خصوصية اكثر من ٢٢ درسا، هذا عدا عن كثيرين على قائمة الانتظار! كما ذكر ناظر دائرة: «ساعدت الحرب الناس ان يدركوا ان السعي وراء الامور المادية هو عديم الجدوى».
وفي كانون الثاني (يناير) ١٩٩٦، عقد الاخوة المحفل الكوري «المسبِّحون الفرحون». ويا للفرح الذي غمرهم لحضور اول محفل عقب الحرب بعدما خسروا المحفل الذي أُلغي قبل سنة! ذكر احد الحاضرين: «كانوا يعانقون واحدهم الآخر والدموع تنهمر من عيونهم. وأكثر ما أثر فيّ هو رؤية إخوة وأخوات من الهوتو والتوتسي يحضنون بعضهم البعض». بلغت ذروة الحضور في هذا المحفل ٤٢٤,٤، واعتمد ٢٨٥ منهم. يستعيد الاخ راشكي ذكريات ذاك اليوم: «تأثرت كثيرا عندما سمعت مرشحي المعمودية يجيبون بصوت عال ‹نعم!› على سؤالَي المعمودية. ثم اصطفوا في الملعب بانتظار تغطيسهم. وإذ بعاصفة رَعْدية مصحوبة بمطر غزير تهب وتبللهم جميعا. إلا انهم لم يكترثوا للأمر، بل قالوا: ‹سنتبلل في جميع الاحوال!›».
بعد مدة، عاد هانك ڤان بوسل الى رواندا. وڠونتر راشكي، الذي قدِم للمساعدة في استئناف العمل، عُيِّن على نحو دائم هناك. ولم يمضِ وقت طويل حتى عاد ڠادفري وجِني بينت الى رواندا.
كان ضائعا فوُجد!
في السنوات التي تلت الحرب، التأم شمل العائلات المتفرقة. مثلا، عندما اشتدَّ النزاع عام ١٩٩٤ بين الجيشَين في كيڠالي، فرّ كل السكان. ومن أثر الذعر، افترق أُرِست موريندا عن زوجته وهرب هو وابنه ذو العامَين والنصف الى ڠيتَراما. والأسوأ من ذلك، انه عندما ذهب أُرِست ليحضر طعاما تجددت المعارك. وفي خضم هذه المعمعة انفصل عن ابنه ايضا.
عقب انتهاء الحرب، انضم أُرِست الى زوجته غير ان ابنهما بقي مفقودا. فاستنتجا انه ربما قُتل. ولكن بعد مضي اكثر من سنتين، قدِم رجل من الريف، ليس شاهدا ليهوه، الى كيڠالي بحثا عن عمل. فصادف ان التقى ببعض الاخوة وأخبرهم في مجرى الحديث ان احدى العائلات التي تسكن في جواره في ڠيسِنْيي فقدت اولادها في الحرب. لكنها تعتني بصبي يتيم يتذكر اسم ابيه ويقول ان والدَيه من شهود يهوه. فعرف الاخوة مَن هو صاحب هذا الاسم، وسرعان ما اتصلوا بالوالدَين اللذين احضرا صورا لابنهما وأروها للرجل. فصرخ قائلا: «نعم، انه هو! هذا هو ابنكما»! وعلى الفور، ذهب أُرِست ليسترد ابنه. وأخيرا، تلملمت العائلة بعد فراق دام سنتين ونصف! وهذا الصبي اصبح الآن ناشرا معتمدا.
من الجدير بالذكر ان الاخوة اعتنوا بكل الاولاد الذين فقدوا والديهم الشهود، ولم يوضع اي منهم في ميتم. واللافت ايضا ان الاخوة اهتموا بأولاد اقربائهم وجيرانهم. فثمة زوجان توليا الاهتمام بعشرة ايتام اضافة الى اولادهما العشرة.
تقلقل الوضع الامني في شمال رواندا
بحلول نهاية سنة ١٩٩٦، صعَّبت الحرب الاهلية في الكونغو الحفاظ على الامن في مخيمات اللاجئين، حيث يعيش اكثر من مليون لاجئ رواندي. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، أُجبر اللاجئون إما على العودة الى رواندا او الهروب نحو الغابات المطيرة في الكونغو. فعاد أغلبهم الى رواندا، بمن فيهم الاخوة الذين لم يرجعوا في كانون الاول (ديسمبر) ١٩٩٤. تخيل منظر الناس، كبارا وصغارا، وهم يمشون حشودا في شوارع مدينة كيڠالي وثيابهم مغبرة وصررهم على رؤوسهم. مشهد لا يُنسى! لقد عاد كل هؤلاء الى اراضيهم الاصلية بغية التسجّل من جديد.
وللأسف، عاد مع اللاجئين الكثير من العناصر غير المرغوب فيها، مثل بعض رجال ميليشيا الانترَهاموِ الذين حاولوا متابعة نشاطهم في شمال البلاد. نتيجة لذلك، اتُّخذت تدابير امنية مشدَّدة، فأُرسل الجيش الى تلك المنطقة بغية اعادة ضبط الامن. وبالنسبة الى الشهود الكثيرين المقيمين هناك، شكل الحفاظ على الحياد المسيحي تحديا كبيرا لهم. وقد حصد الموت بين عامي ١٩٩٧ و ١٩٩٨ اكثر من ١٠٠ ناشر، معظمهم بسبب موقفهم الحيادي. كما انهم حُرموا في بعض الاحيان من زيارات نظار الدوائر المنتظمة بسبب خطورة الوضع هناك.
زوجان يعربان عن الشجاعة
كان ثيوبولد مونيامپوندو، مع زوجته بِرانسيل، من بين نظار الدوائر القلائل الذين تمكنوا من زيارة الجماعات في المناطق غير الآمنة. فقد اعتادا مجابهة المخاطر نظرا الى الظروف التي مرّا بها سابقا. مثلا، بعد مضي سنتين على معمودية ثيوبولد عام ١٩٨٤، رُمي هو وعدد كبير من الاخوة والاخوات في السجن وضُرب بوحشية مرات عديدة. كما خاطر هو وزوجته بحياتهما عندما خبأا آخرين خلال الابادة الجماعية للتوتسي. وبعد ان انقذا حياة مراهق فَقَد والدته في الابادة الجماعية، تمكنا من العبور الى تنزانيا. وهناك، زار ثيوبولد مخيَّمَين في بيناكو وكاراڠوِه لتشجيع الاخوة وتقويتهم، رغم ان التنقل بين هذين المخيَّمَين شكل خطرا كبيرا بسبب انتشار قطاع الطرق.
وعند عودتهما الى رواندا، جازف هو وزوجته بحياتهما مجددا من اجل زيارة الشهود في المناطق المضطربة شمالي البلاد. يخبر ثيوبولد: «ان بعض الجماعات التي زرناها كانت متباعدة. وبسبب الوضع الامني السيئ، لم نستطِع المبيت هناك. أذكر اننا في احدى الزيارات، وجب علينا ان نمشي ثماني ساعات كل يوم ذهابا وإيابا تحت المطر الموسمي الغزير، ثم نعود مساء الى مكان إقامتنا».
ويصف ثيوبولد احد الاخوة الذين التقاهم خلال زيارته لفريق منعزل في المنطقة، قائلا: «جان پيار هو اخ اعمى، لكنني فوجئت عندما رأيته يقف ويتجه نحو المنصة من اجل قراءة الكتاب المقدس في مدرسة الخدمة الثيوقراطية، ثم يتلو غيبا الجزء المعيَّن له من دون اخطاء وحتى مع الانتباه الى الترقيم! فكان قد طلب من اخ يجيد القراءة ان يقرأ له هذا الجزء مسبقا ليتمكن من استظهاره. حقا، لقد اعرب هذا الاخ عن عزيمة لافتة امدتني بالتشجيع».
فيما يسترجع ثيوبولد بعض ذكريات حياته التي كانت احيانا محفوفة بالمخاطر، يقول: «خلال كل هذه الاوقات العصيبة، وضعنا ثقتنا في يهوه وغالبا ما تأملنا في كلمات العبرانيين ١٣:٦: ‹يهوه معيني فلا أخاف. ماذا يفعل بي الانسان؟›». تمم ثيوبولد تعيينه بأمانة كناظر دائرة وكورة، وهو يخدم الآن مع زوجته فاتحَين خصوصيَّين رغم المشاكل الصحية التي يعانيانها.
مشروع قاعة المحافل
مع ازدياد عدد الشهود، اصبح من الصعب ايجاد موقع مناسب لعقد المحافل في كيڠالي. على سبيل المثال، اثناء المحفل الكوري «رسل السلام الالهي» الذي عقد في احد المدرَّجات في كانون الاول (ديسمبر) ١٩٩٦، تدفقت المجارير من قناة تصريف في سجن مجاور وفاحت الرائحة. فأفسدت المحفل على الاخوة الذين انزعجوا من الرائحة الكريهة وخافوا على صحة اولادهم. ونظرا الى هذه الظروف الرديئة، قررت لجنة البلد بالإجماع: «انه آخر محفل يعقد في هذا المدرَّج!». ولكن اين ستعقد المحافل؟
كانت وزارة الاراضي قد اعطت قطعة ارض لإحدى الجماعات في كيڠالي كي يبنوا قاعة ملكوت. غير ان مساحة هذه الارض فاقت المساحة التي احتجناها لبناء القاعة. وفي حال قدَّم الاخوة للوزارة مخططا للقاعة فقط، كان من المرجح ان تقتطع جزءا من الارض وتعطيه لغيرنا. لذا اتكلنا على يهوه، وقدَّمنا مخطَّطا لقاعة ملكوت وقاعة محافل بسيطة، مع احتمال بناء قاعة ملكوت ثانية في وقت لاحق. ونشكر اللّٰه ان السلطات وافقت على هذا المخطَّط.
ما لبث ان قام الاخوة بتمهيد الارض وتسييجها. كما ازال مئات المتطوعين الاحراج وحفروا مراحيض. وأخيرا، بات عندهم قطعة ارض جميلة قليلة الانحدار شكلت موقعا مثاليا لعقد المحافل.
خلال الاشهر التالية، عقد الاخوة هناك محفلَين واجتماعا خصوصيا، إلا ان رياحا وأمطارا شديدة اجبرت الحضور على التجمّع تحت الاغطية المشمَّعة والمظلات. نتيجة ذلك، قُدِّمت توصية الى الهيئة الحاكمة من اجل بناء قاعة محافل دون جدران.
وفي آذار (مارس) ١٩٩٨، اعطت الهيئة الحاكمة موافقتها من اجل تشييد قاعة للمحافل. وسرعان ما بدأ التمهيد لهذا المشروع. وخلال فترة البناء، ساهمت عائلات بأكملها في حفر الاساس للركائز. فعمل الكل جنبا الى جنب بوحدة. وأخيرا، في ٦ آذار (مارس) ١٩٩٩، ألقى جان–جول ڠِيّو من الفرع في سويسرا خطاب التدشين لهذا البناء الجديد والجميل.
بحلول عام ١٩٩٩، حل الامن في كل ارجاء البلاد. وفي شباط (فبراير) من تلك السنة، عيِّن مرسلان جديدان، هما رالف وجنيفر جونز، في مكتب البلد في رواندا. وهكذا، ارتفع عدد افراد عائلة بيت ايل الى ٢١ شخصا.
من جهة اخرى، كان أخوان روانديّان قد تخرجا من مدرسة تدريب الخدام (الآن مدرسة الكتاب المقدس للاخوة العزاب) في كينشاسا، الكونغو، على بعد نحو ٦٠٠,١ كيلومتر. ولكن، بما ان الحرب اندلعت في الكونغو، بات صعبا على الاخوة في رواندا السفر الى كينشاسا. فوافقت الهيئة الحاكمة على عقد مدرسة تدريب الخدام في كيڠالي. وفي كانون الاول (ديسمبر) من العام ٢٠٠٠، تخرج الصف الاول المؤلف من ٢٨ تلميذا من بوروندي ورواندا والكونغو.
اضف الى ذلك انه في ايار (مايو) ٢٠٠٠، تأسس فرع في رواندا. ولم يمضِ وقت طويل حتى وجد الاخوة عقارا مناسبا لتشييد مبنى للفرع يهتم بالعمل الذي يتوسع بسرعة. فاشتروا في نيسان (ابريل) ٢٠٠١، قطعة ارض بمساحة هكتارين. ويتذكر الاخوة في كيڠالي كم من جهد بذلوا لإزالة الاحراج من تلك الارض المتروكة لسنوات.
بركان يثور شرقي الكونغو
في ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٢، بدأ ثوران بركان جبل نيراڠونڠو، الذي يقع على بعد نحو ١٦ كيلومترا من ڠوما شرقي الكونغو. فاضطر اغلب السكان الى الهروب من منازلهم. وفرّ عدد كبير من الناشرين الـ ٦٠٠,١ مع اولادهم والمهتمين عبر الحدود الى ڠيسِنْيي في رواندا، حيث توجهوا على الفور الى قاعات الملكوت المجاورة.
وفي اليوم التالي، ارسل مكتب الفرع في رواندا شاحنة محملة بثلاثة اطنان من المؤن التي شملت الطعام والبطانيات والادوية. فتمَّ توزيعها فورا على قاعات الملكوت الست في المنطقة قرب الحدود مع الكونغو.
خافت الحكومة الرواندية، لأسباب امنية، من بقاء هذا العدد من المواطنين الكونغوليين في قاعات الملكوت. لذا أصرت على ان يُنقلوا الى مخيَّمات اللاجئين. فرتب الاخوة للقاء في ڠوما يضم وفدا من لجنة الفرع في رواندا واثنين من اعضاء لجنة الفرع في الكونغو وبعض الشيوخ من الجماعات في ڠوما كي يتخذوا قرارا في هذه المسألة. وأسفرت النتيجة ان الاخوة الكونغوليين رفضوا رفضا قاطعا فكرة ذهاب الشهود الى مخيمات اللاجئين في رواندا. قالوا: «عام ١٩٩٤، اعتنينا بأكثر من ٠٠٠,٢ من الشهود الروانديين وعائلاتهم والمهتمين. لذا لن نسمح بأن يسكن اخوتنا الكونغوليون في المخيمات، بل ليرجعوا الى ڠوما وسنعتني بهم كما اعتنينا بالاخوة الروانديين».
ان ما فعله الاخوة الكونغوليون كان في غاية اللطف لِما اعربوا عنه من محبة وضيافة، اذ استقبلوا مواطني بلدهم في بيوتهم بدل ان يدعوهم يقيمون في مخيمات يديرها اشخاص من العالم. وهكذا، عاد الاخوة وعائلاتهم الى ڠوما حيث جرى ايواؤهم. وأُرسل لهم من بلجيكا وسويسرا وفرنسا المزيد من مؤن الاغاثة، بما فيها الاغطية المشمّعة البلاستيكية. وقد اقام هؤلاء الشهود في ڠوما الى ان بُنيت لهم منازل جديدة.
محطات ثيوقراطية بارزة
قام مكتب الهندسة الاقليمي في جنوب افريقيا برسم المخططات للفرع الجديد، ثم تعاقدوا مع مقاول محلي للبدء بالبناء. وقد اتى متطوعون من كافة انحاء العالم للمساعدة في هذا المشروع. كما تطوع عدد من الشهود المحليين للعمل في تنسيق الحدائق وإضفاء بعض اللمسات الاخيرة. وعلى الرغم من بعض العقبات والتحديات التي واجهوها، تمكنت عائلة بيت ايل من الانتقال الى الفرع الجديد والجميل في آذار (مارس) ٢٠٠٦. وفي ٢ كانون الاول (ديسمبر) من تلك السنة، أُقيم حفل تدشين حضره ڠاي پيرس من الهيئة الحاكمة وزوجته وحوالي ٥٥٣ شاهدا، بمن فيهم ١١٢ مندوبا من ١٥ بلدا مختلفا.
كان بين العاملين في مشروع البناء، جيم ورايتشِل هومز من كندا. وقد اتقنا لغة الاشارات الاميركية، لذا عرضا ان يعلِّما هذه اللغة لمَن يرغب من اعضاء عائلة بيت ايل يوم الاثنين بعد درس برج المراقبة. فقبِل العرض ستة اشخاص وتعلَّموها الى درجة الاتقان، وما لبث ان تأسس فريق بلغة الاشارات.
ولاحقا، في حزيران (يونيو) ٢٠٠٧، أُرسل كيڤن رَپْ، بعد ان تخرج من مدرسة تدريب الخدام في سويسرا، الى رواندا للمساعدة في حقل لغة الاشارات. وبعد فترة قصيرة، وصل زوجان مرسلان من كندا متمرسان بهذه اللغة. فتأسست في تموز (يوليو) ٢٠٠٨ جماعة بلغة الاشارات، وسرعان ما تبعها المزيد من الفرق.
من ناحية اخرى، فرح الاخوة كثيرا عندما أُعلن عن صدور الاسفار اليونانية المسيحية — ترجمة العالم الجديد بالكينيارواندية في المحفل الكوري لسنة ٢٠٠٧. وجدير بالملاحظة ان جمعيات الكتاب المقدس المتحدة كانت قد اصدرت الكتاب المقدس بكامله بالكينيارواندية عام ١٩٥٦. وقد بذل المترجمون جهودا صادقة لنقل الكتاب المقدس الى اللغة المحلية، حتى انهم استخدموا الاسم «يهوه» سبع مرات في الاسفار العبرانية. إلا ان ترجمة العالم الجديد متوفرة بسهولة للجميع خاصة الفقراء. وهي دقيقة وسهلة الفهم، وذلك بفضل العمل الدؤوب الذي قام به المترجمون المحليون بالتعاون مع قسم خدمات الترجمة في نيويورك. وكم كان مبهجا رؤية أغلب الاولاد يحملون نسخهم الخاصة من الاسفار اليونانية ويرفعون ايديهم بحماسة لقراءة آية خلال الاجتماعات!
مواجهة مسألة الحياد من جديد
رغم ان الاخوة نعموا بالحرية الدينية منذ حصولهم على الاعتراف الشرعي عام ١٩٩٢، بيد ان التحديات الناجمة عن حيادهم المسيحي لم تنته. فطوال السنوات الـ ١٥ الماضية، اعتُقل مئات الاخوة لأنهم رفضوا الاشتراك في الدوريات الليلية العسكرية. ولكن بعدما التقى وفد من الاخوة وزراء حكوميين، وافقت السلطات ان يقوموا بخدمات بديلة.
بالاضافة الى ذلك، خسر في السنوات الاخيرة ٢١٥ مدرِّسا وظيفتهم بسبب رفضهم حضور حلقة دراسية ذات طابع سياسي. ولاحقا، طُرد ١١٨ تلميذا من مدارسهم لأنهم ابوا ان ينشدوا النشيد الوطني. فذهب ممثِّلو الفرع الى السلطات بغية شرح موقفنا الحيادي. وإذ اشاروا الى تاريخ عمل شهود يهوه في رواندا، قالوا لهم ان الشهود وضعوا في السجون عام ١٩٨٦ بسبب حيادهم. وحيادهم هذا هو السبب الرئيسي الذي كان وراء عدم اشتراكهم في الابادة الجماعية عام ١٩٩٤. فكانت النتيجة انه سُمح لمعظم التلاميذ بالعودة الى مدارسهم بعد عدة اشهر. — يو ١٧:١٦.
يطيع شهود يهوه قوانين الدولة، وهم يحافظون على حيادهم السياسي بصرف النظر عن نوع الحكومة القائمة في البلد. على سبيل المثال، عام ١٩٨٦ سُجن فرانسوا ڠْزاڤيِه هاكيزيمانا مدة ١٨ شهرا بسبب موقفه الحيادي. وبعدما تبدل النظام إثر الابادة الجماعية، سُجن من جديد عام ١٩٩٧ و ١٩٩٨ للسبب عينه. تُظهر هذه الامثلة ان هذا الموقف الذي يتّخذه شهود يهوه ثابت لا يتغير، ولا يتخذونه لمعارضة حكومة دون اخرى. فالحياد المسيحي يرتكز بصدق على المبادئ المرسومة في الاسفار المقدسة.
بعيدا عن هذه التحديات المستمرة، يتمتع الاخوة بحرية عقد الاجتماعات الاسبوعية والمحافل، كما يُسمح لهم بالكرازة وعقد الاجتماعات في سجون عديدة حيث يقبل عدد لا بأس به من المساجين الحق. زِد على ذلك، انه خلال سنة الخدمة ٢٠٠٩، تمّ الفصل في ست قضايا لصالح شعب يهوه في رواندا.
مستقبل مشرق
لن يكتمل التقرير عن رواندا من دون ان نأتي على ذكر برنامج بناء قاعات الملكوت ونجاحه الرائع. فمنذ بدأ العمل بالترتيب الجديد لبناء قاعات الملكوت في البلدان ذات الموارد المحدودة عام ١٩٩٩، بنى المتطوعون حوالي ٢٩٠ قاعة ملكوت متواضعة انما جذابة.
وبفضل دعم وغيرة الناشرين المحليين تمكن الاخوة من إكمال بناء معظم هذه القاعات في ثلاثة اشهر. وقد اثار هذا البناء السريع للقاعات في كل ارجاء البلاد فضول الناس، ما فتح فرصا امام شعب يهوه لإعطاء شهادة رائعة. وإلى جانب قاعة المحافل التي بُنيت في كيڠالي، شيد الاخوة عشر قاعات محافل على هذا النسق انما أصغر وأبسط. وهكذا يتسنى للناشرين حضور المحافل دون الاضطرار الى المشي مسافات طويلة في المناطق الجبلية. كما انهى الاخوة بناء اربع قاعات ملكوت قابلة للتوسيع بحيث يصبح بالامكان عقد محافل فيها.
من ناحية اخرى، تشترك كل الجماعات بغيرة، خلال الاشهر الاولى من كل سنة، في الكرازة في مقاطعات غير معينة او نادرا ما تُخدم. ويقطع الناشرون مسافات طويلة على نفقتهم الخاصة لتغطية هذه المقاطعات. اما في المناطق النائية، فيُرسَل فاتحون خصوصيون وقتيون مدة ثلاثة اشهر. ونتيجة ذلك، تتشكل فرق جديدة هي بمثابة نواة لتأسيس جماعات في المستقبل. على سبيل المثال، في الحملة التي امتدت من كانون الثاني (يناير) الى آذار (مارس) ٢٠١٠، عُقدت مئات الدروس وتأسست تسعة فرق جديدة. وفي الفترة عينها، شكل ٣٠ فاتحا خصوصيا وقتيا ١٥ فريقا جديدا.
احداث بارزة اخرى في رواندا
كم ابتهج الاخوة في رواندا الذين حضروا المحفل الكوري لعام ٢٠٠٩ «داوموا على السهر!»، عندما أُعلن عن صدور كتاب الترانيم الجديد واستمعوا الى مجموعة مختارة من الترانيم الجديدة بالكينيارواندية. والمفرح اكثر ان الجماعات تسلمت نسخا منه وبدأت باستخدامه بالتزامن مع جماعات عديدة حول العالم في كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠.
بعد صدور الاسفار اليونانية المسيحية — ترجمة العالم الجديد بالكينيارواندية عام ٢٠٠٧، تساءل الجميع ما اذا كان سيُترجم كامل الكتاب المقدس الى الكينيارواندية. ومع اقتراب موعد المحافل الكورية لسنة ٢٠١٠، أُعلن عن زيارة ڠاي پيرس، احد اعضاء الهيئة الحاكمة، لرواندا بحلول وقت المحفل في كيڠالي في آب (اغسطس). كان المحفل سيُعقد في مدرَّج رياضي مقابل مبنى الفرع. واتّقد الجميع حماسة عندما اعلن الاخ پيرس عن اصدار الكتاب المقدس — ترجمة العالم الجديد بكامله بالكينيارواندية! وقد حصل كل شخص من الـ ١٤٩,٧ الذين كانوا حاضرين يوم الجمعة صباحا على نسخته الخاصة. ويوم الاحد، اتى شهود من مختلف المناطق الاخرى في رواندا فبلغ عدد الحضور ٣٥٥,١١ شخصا. وخلال المحفل، طلب الجنود الذين كانوا يتدربون خارج المدرَّج نسخا من الكتاب المقدس، فوزِّعت ١٨٠ نسخة عليهم. كما قَبِل بامتنان ايضا رئيس بلدية كيڠالي ورئيس الشرطة ومسؤولون في وزارة الرياضة نسخا من الكتاب.
بدأ عمل الكرازة في رواندا عام ١٩٧٠ مع ثلاثة ناشرين. اما الآن فيبلغ عدد الناشرين في البلاد نحو ٠٠٠,٢٠. وهم يديرون نحو ٠٠٠,٥٠ درس في الكتاب المقدس كل شهر. كما حضر ٠١٠,٨٧ اشخاص الذِّكرى في نيسان (ابريل) ٢٠١١. ان تاريخ شهود يهوه في رواندا حافل بالنشاط والغيرة في الخدمة، اذ ينخرط حوالي ٢٥ في المئة من الناشرين بشكل او بآخر في الخدمة كامل الوقت في حين يصرف الآخرون ما معدله ٢٠ ساعة شهريا في الكرازة. انهم بالفعل منشغلون بالعمل جنبا الى جنب مع «سيد الحصاد» في هذا الحقل الخصب، دون اية نية في التباطؤ. وفيما يستمر يهوه في مباركة هذا العمل، ننتظر بشوق الوقت لنرى عدد الذين سيتدفقون بعد الى جبل عبادة يهوه الحقة في ارض الالف هضبة. — مت ٩:٣٨؛ مي ٤:١، ٢.
[الحواشي]
a تُدعى عموما الكونغو او الكونغو (كينشاسا) لتمييزها عن الكونغو (برازاڤيل) المجاورة. اما في هذا التقرير فسنستخدم اسم الكونغو.
b بالفعل، اصبحت ديبورا ناشرة، واعتمدت بعمر عشر سنوات. وهي تخدم الآن فاتحة عادية الى جانب والدتها.
c ان هذه الطفلة هي الآن اخت معتمدة.
[النبذة في الصفحة ١٧٨]
قال لسامعيه ان يحترسوا من شهود يهوه
[النبذة في الصفحة ١٨١]
كانوا يحيّون واحدهم الآخر بكلمة: «كوميرا!» التي تعني «تشجعوا!»
[النبذة في الصفحة ٢١٨]
«يا يهوه، ليس في يدنا حيلة لنخلص انفسنا. انت وحدك تستطيع انقاذنا!»
[الاطار/الصورة في الصفحة ١٦٦]
لمحة عن رواندا
اليابسة:
يبلغ طول رواندا ١٧٧ كيلومترا من الشمال الى الجنوب وعرضها ٢٣٣ كيلومترا. وتعدّ رواندا اكثر بلدان افريقيا كثافة في السكان اذ يفوق عدد سكانها الـ ٠٠٠,٠٠٠,١١ نسمة. وعاصمتها كيڠالي.
الشعب:
يتألف شعب رواندا من الهوتو والتوتسي والتوا بالاضافة الى بعض الآسيويين والأوروبيين. وينتمي اكثر من نصف السكان الى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، في حين يتبع اكثر من ربعهم، بمَن فيهم المجيئيون، الكنيسة البروتستانتية. اما البقية فيتوزعون على الاسلام والديانات المحلية الاخرى.
اللغة:
ان اللغات الرسمية هي الكينيارواندية، الانكليزية، والفرنسية. اما السواحلية، فهي لغة التجارة مع الدول المجاورة.
سبل العيش:
يُعنى معظم السكان بالزراعة. وبما ان معظم اراضيها غير خصبة التربة، لا يكفي المحصول الذي يزرعونه سوى حاجة عائلاتهم. وتشمل محاصيلهم الشاي وحشيشة الحُمَّى (البيرثرم، نبتة تستخدم في صناعة مبيدات الحشرات) والبن الذي يُعتبَر السلعة الاساسية بالنسبة الى الصادرات.
الطعام:
تشكل البطاطا، الموز والفاصولياء الطعام الرئيسي لسكان رواندا.
المناخ:
مع ان رواندا لا تبعد كثيرا عن خط الاستواء إلّا انها تتمتع بمناخ معتدل اجمالا. وكلما اتّجهنا نحو الاراضي الجبلية الداخلية، تقارب درجات الحرارة الـ ٢١ درجة مئوية، ويصل معدل الامطار المتساقطة سنويا الى ١١٤ سنتيمترا تقريبا.
[الاطار/الصورة في الصفحة ١٨٥]
«سيطاردنا يهوه!»
ايمانويل نْڠيرِنْتي
تاريخ الولادة: ١٩٥٥
تاريخ المعمودية: ١٩٨٢
لمحة عن حياته: عضو في لجنة الفرع في رواندا وناظر قسم الترجمة.
◼ عام ١٩٨٩، كنت اخدم كفاتح في شرقي رواندا. وفي نهاية تلك السنة، تمَّ تعييني في مكتب الترجمة. وكم تفاجأت وشعرت بأنني غير مؤهل لهذا العمل، فأنا لم أملك اي خبرة في هذا المجال! رغم ذلك، لم استسلم. فوجدنا منزلا للإيجار وأحضرنا بعض القواميس، وبدأت بالعمل على ثلاث مطبوعات. وفي بعض الاحيان، عندما اضطررت ان اعمل حتى وقت متأخر من الليل، كنت احتسي القهوة كي ابقى صاحيا.
عندما هجمت قوات الجبهة في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٩٠، ظن البعض ان شهود يهوه متورطون معهم. نتيجة ذلك، بدأ رجال الامن بالتحقيق. وبما اني كنت اعمل في المنزل بدا لهم اني عاطل عن العمل، لذا ارادوا ان يعرفوا ماذا أفعل. وذات مرة، فيما كنت احاول النوم عند الخامسة صباحا بعد ليلة قضيتها في الترجمة، بلغني خبر فجأة ان اغادر منزلي للمشاركة في خدمات اجتماعية. وأثناء غيابي، قامت السلطات المحلية بمداهمة المنزل وتفتيشه.
عند عودتي، أخبرني جيراني ان شرطيا ومسؤولا محليا قضيا ساعة في قراءة مخطوطات ترجماتي، التي ورد فيها اسم يهوه مرارا وتكرارا. في النهاية، قالا: «لنغادر هذا المنزل وإلا فسيطاردنا يهوه!».
[الاطار/الصورة في الصفحة ١٩٤]
في غضون مئة يوم مات مليون شخص
«من الواضح ان الابادة الجماعية في رواندا عام ١٩٩٤ هي من ابرز ما حصل في التاريخ العصري. فمن بداية نيسان (ابريل) حتى منتصف تموز (يوليو) ١٩٩٤، ارتكب الهوتو، الفريق الإثْنِي الذي يشكِّل غالبية سكان هذا البلد الصغير في افريقيا الوسطى، مذبحة منظمة قضى فيها على عدد كبير من التوتسي، الفريق الذي يشكِّل الاقلية. فنظام الهوتو المتطرِّف كان متخوفا من خسارة نفوذه في وجه الحركة الديموقراطية والحرب الاهلية، لذا خطط لإبادة كل مَن يشكِّل خطرا على سلطته — اي الهوتو المعتدلين وكذلك التوتسي. وقد بلغت هذه الإبادة نهايتها، عندما قام جيش الثوار، المؤلف بأغلبه من التوتسي، بالسيطرة على البلاد والقضاء على هذا النظام المسؤول عن الإبادة الجماعية. وهكذا، في خلال مئة يوم، مات مليون شخص في الابادة والحرب، ما يؤكد ان المذبحة التي حدثت في رواندا هي احدى افظع موجات القتل في التاريخ». — دائرة معارف الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية (بالانكليزية).
لقي نحو ٤٠٠ شاهد ليهوه حتفهم في هذه الابادة الجماعية، من بينهم شهود من الهوتو لأنهم حمَوا اخوتهم وأخواتهم من التوتسي. واللافت ان ايا من هؤلاء الشهود لم يُقتل على يد احد رفقائه المؤمنين.
[الصورة]
اللاجئون يهربون من رواندا
[الاطار/الصورة في الصفحة ١٩٧]
«غرف اعدام»
«استغلّ منظمو الابادة الجماعية الفكرة التي سادت في الحروب التاريخية، ألا وهي اتخاذ الاماكن المقدسة ملاذا. لذا جذبوا عشرات الآلاف من التوتسي الى مباني الكنائس واعدين اياهم كذبا بالحماية. ثمّ قام رجال ميليشيا الهوتو والجنود بقتل المساكين الذين لجأوا الى الكنائس ومباني المدارس من اجل الحماية، مطلقين عليهم النار وملقين القنابل اليدوية. ومَن نجا منهم اجهزوا عليه بالسواطير، والمناجل، والسكاكين. . . . ومع ذلك، تخطى تورط الكنائس في هذه المذبحة استخدام ابنيتها كغرف اعدام. ففي بعض المناطق، استغلَّ رجال الدين وملقِّنو التعليم المسيحي وغيرهم من موظفي الكنائس معرفتهم بالسكان المحليين لتمييز التوتسي وقتلهم. وفي حالات اخرى، شارك المُستَخدَمون في الكنيسة فعليا في عمليات القتل». — المسيحية والابادة الجماعية في رواندا (بالانكليزية).
«ان مأخذنا الرئيسي على الكنيسة [الكاثوليكية] هو انها نقضت ولاءها لنخبة التوتسي وحولته الى الثورة التي يقودها الهوتو، وبالتالي ساعدت على تولي هابياريمانا زمام السلطة اكثر من مرة في دولة يشكّل فيها الهوتو الاكثرية. وفي ما يخصّ هذه الابادة الجماعية، حمَّل النقّاد الكنيسة المسؤولية المباشرة عن التحريض على البغض، وإيواء المجرمين، والفشل في انقاذ الذين نشدوا الحماية داخل جدرانها. وهنالك مَن يعتقد ان الكنيسة، بصفتها القائد الروحي لأغلبية سكان رواندا، هي المسؤولة ادبيا عن الاخفاق في اتخاذ كافة التدابير اللازمة من اجل انهاء عمليات القتل». — دائرة معارف الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية (بالانكليزية).
[الاطار/الصورتان في الصفحات ٢٠١-٢٠٣]
«كيف نقتل شخصا يلتمس الجميع إبقاءه حيا؟»
جان ماري موتِزينتار
تاريخ الولادة: ١٩٥٩
تاريخ المعمودية: ١٩٨٥
لمحة عن حياته: أخ أمين تعلو وجهه دائما ابتسامة عريضة، ويعمل في البناء. بُعيد معموديته، سُجن ثمانية اشهر. وعام ١٩٩٣، تزوج جين. اما الآن، فيخدم عريفا للجنة قاعة محافل كيڠالي.
◼ في ٧ نيسان (ابريل)، استيقظنا انا وزوجتي جين مع طفلتنا جامايما، التي يبلغ عمرها شهرا واحدا، مذعورين على صوت إطلاق نار. في البداية، ظننا انه مجرد خلاف سياسي، لكن سرعان ما علِمنا ان ميليشيا الانترَهاموِ بدأت بقتل كل التوتسي. ولأننا من التوتسي لم نجرؤ على الخروج من المنزل. ورحنا نصلي بحرارة الى يهوه كي يرشدنا في خطوتنا التالية. في ذلك الوقت، خاطر ثلاثة اخوة شجعان من الهوتو — هم أتَناز، شارل، وإيمانويل — بحياتهم ليحضروا لنا الطعام.
طوال شهر تقريبا، اضطررنا انا وزوجتي ان نتنقل بين بيوت اخوتنا لنختبئ عندهم. وحين بلغ البحث عن التوتسي ذروته، أتى اعضاء الميليشيا حاملين السكاكين والرماح والسواطير الى حيث كنتُ مختبئا. عندما رأيتهم قادمين نحوي انطلقت بأقصى سرعتي الى الادغال، إلا انهم وجدوني. وإذ احاطت بي مجموعة من الرجال المسلحين، قلت لهم اني واحد من شهود يهوه والتمست منهم ان يتركوني. فأجابوني: «أنت من الثوار!»، ثم رموني ارضا وركلوني وضربوني بالهراوى وبطرف بنادقهم. في ذلك الوقت اجتمع جمهور من الناس حولنا، كان بينهم احد الاشخاص الذين كرزت لهم. فصرخ بشجاعة: «اِرحموه!». ثم أتى اخ من الهوتو، يدعى شارل، مع زوجته وأولاده. وما ان رأوني على الأرض مضرَّجا بالدماء حتى بدأوا بالبكاء، فتثبطت همّة القتلة وأطلقوا سراحي قائلين: «كيف نقتل شخصا يلتمس الجميع إبقاءه حيا؟». فأخذني شارل الى منزله وضمد جراحي. اما الميليشيا فحذروني من الهرب وإلا فسيقتلون شارل بدلا مني.
في تلك الاثناء، كنت قد افترقتُ عن زوجتي وطفلتنا. وخلال هجوم عنيف، نالت هي ايضا حصتها من الضرب، إلا انها نجت من القتل بشق النفس. هذا وقد اخبرها بعض الاشخاص بأني قُتلت، حتى انهم طلبوا منها احضار بعض الاغطية لتلفّ جثتي بها.
ولاحقا، عندما اجتمع شملنا في منزل أتَناز، ذرفنا انا وزوجتي دموع الارتياح. رغم ذلك، لم يزل الخطر في ذلك الوقت، وكنا نتوقع ان نموت في اليوم التالي. فكان كل يوم بمثابة كابوس، مسلسل من الرعب، نضطر فيه الى الاختباء في منزل بعد آخر. اذكر اني استغثت بيهوه قائلا: «لقد ساعدتنا بالأمس. أرجوك ان تساعدنا مرة اخرى. فنحن نريد ان نربي ابنتنا ونستمر في خدمتك!». بحلول المساء، جازف ثلاثة اخوة من الهوتو بمساعدتنا على عبور حواجز خطيرة الى برّ الأمان مع حوالي ٣٠ شخصا من التوتسي قَبِل ستة منهم الحق.
وبعد مدة، علمنا ان ميليشيا الانترَهاموِ غضبت كثيرا عندما عرفت ان شارل ورفاقه ساعدوا عشرات من التوتسي على الهرب. فأمسكوا بشارل وبناشر من الهوتو يدعى ليونار. وسمعَتهم زوجة شارل يقولون: «يجب ان تموتا لأنكما ساعدتما التوتسي على الهرب». ثم قتلوهما. يُعيد هذا الامر الى ذاكرتنا كلمات يسوع: «ليس لأحد محبة اعظم من هذه: ان يبذل احد نفسه عن اصدقائه». — يو ١٥:١٣.
قبل اندلاع الحرب، عندما كنا انا وجين نخطط للزواج، قررنا ان ينخرط احدنا في عمل الفتح. اما بعد الحرب، فقد فصرنا نعتني بستة يتامى الى جانب ابنتَينا، بسبب وفاة الكثير من اقربائنا. ومع ذلك، تمكّنت جين من تحقيق هذا الهدف، وهي تخدم الآن فاتحة عادية منذ ١٢ سنة. حتى ان الاولاد الستة الذين اهتممنا بهم اصبحوا الآن شهودا معتمدين على الرغم من ان والديهم لم يكونوا من الشهود. ويخدم الشبان الثلاثة خداما مساعدين، في حين ان احدى الفتيات تخدم مع زوجها في بيت ايل. كما انجبنا صبيين آخرين الى جانب الفتاتين اللتين اعتمدتا.
[الصورة]
الأخ والأخت موتِزينتار مع اثنين من اولادهما وخمسة أيتام
[الاطار/الصورة في الصفحتين ٢٠٤ و ٢٠٥]
«وحده الحق ساعدنا ان نحافظ على اتزاننا»
ان ڤاليري موسابيمانا وأنجِلين موسابوِ هما أختان في الجسد، أتتا من خلفية كاثوليكية متعصبة. وكان والدهما رئيسا لاحدى لجان الأبرشية. أرادت ڤاليري ان تصبح راهبة، لذلك صرفت أربع سنوات من حياتها وهي تدرس لتبلغ هذا الهدف. لكنّ تصرف احد الكهنة خيّب املها، فتخلت عن دراستها عام ١٩٧٤. ولاحقا، درست الكتاب المقدس مع شهود يهوه، واعتمدت ثم انخرطت في عمل الفتح سنة ١٩٧٩. اما أنجِلين فقد درست الحق واعتمدت، ثم انضمت الى اختها في عمل الفتح الخصوصي. وقد ساعدت هاتان الأختان العديد من الاشخاص على تعلّم كلمة اللّٰه.
خلال الابادة الجماعية، كانت أنجِلين وڤاليري تعيشان في كيڠالي. فخبأتا تسعة اشخاص في منزلهما، من بينهم امرأتان حاملتان قُتل زوج احداهما. بعد فترة من الوقت، انجبت المرأة الارملة طفلا. وقد ساعدت الاخوات في توليدها لأن مغادرة المنزل كانت تشكل خطرا كبيرا آنذاك. وما إن سمع الجيران بذلك حتى سارعوا الى احضار الطعام والماء.
عندما عرف الانترَهاموِ ان أنجِلين وڤاليري خبأتا اشخاصا من التوتسي، اتوا وقالوا لهما: «لقد قدِمنا لنقتل شهود يهوه التوتسي». لكنهم لم يجرؤوا على دخول المنزل لأنه ملك لمسؤول في الجيش كانت الاختان قد استأجرتاه منه.d وهكذا، نجا كل مَن كان في المنزل.
لم تتمكن أنجِلين وڤاليري من البقاء في المنطقة بعدما ازدادت حدّة الحرب وأصبح الرصاص يتساقط كزخات المطر. فانتقلتا برفقة شهود آخرين الى ڠوما، حيث لقوا ترحيبا حارًّا من الاخوة الكونغوليين. وهناك داومتا على عمل الكرازة وعقد الدروس البيتية في الكتاب المقدس.
فكيف تمكنت هاتان الاختان من تخطي المعاناة عقب هذه الابادة الجماعية؟ تقول ڤاليري وأمارات الحزن بادية على وجهها: «لقد خسرت الكثير من ابنائي الروحيين، من بينهم اوجين نتابانا وعائلته. ووحده الحق ساعدنا ان نحافظ على اتزاننا. فنحن ندرك ان يهوه سيعاقب فاعلي الشر».
[الحاشية]
d بعد انتهاء الحرب، درس صاحب المنزل الكتاب المقدس. ومع انه مات قبل ان يعتمد، إلا ان زوجته وابنه وابنته اصبحوا من الشهود.
[الاطار/الصورة في الصفحتين ٢٠٦ و ٢٠٧]
كانوا مستعدين ان يموتوا من اجلنا
ألْفرد سِمالي
تاريخ الولادة: ١٩٦٤
تاريخ المعمودية: ١٩٨١
لمحة عن حياته: يعيش ألْفرد، الوالد والزوج المحبّ، مع زوجته جورجيت في ضواحي كيڠالي. وهو الآن عضو في لجنة الاتصال بالمستشفيات في كيڠالي.
◼ فور بدء الابادة الجماعية، أرسل أتَناز، اخ من الهوتو يعيش في جوارنا، تحذيرا لنا يقول: «انهم يقتلون التوتسي وسيقتلونكم ايضا»، وأصرّ ان نأتي الى منزله. حين وصلنا، عرض علينا ان نختبئ في غرفة بعمق ثلاثة امتار ونصف تقريبا كان قد حفرها قبل اندلاع الحرب. وكنت انا اول مَن نزل السُّلّم الى هذه الغرفة. وقد حرص أتَناز على تأمين الطعام والفُرُش لنا. في تلك الأثناء، استمرَّ القتل من حولنا.
على الرغم من ان الجيران شكّوا في وجودنا عند أتَناز وهددوه بإحراق المنزل، إلا انه وعائلته لم يخافوا وأبقونا عندهم. من الواضح انهم كانوا مستعدين ان يموتوا من اجلنا.
مرت ثلاثة ايام والمعارك الطاحنة تدور رحاها في المنطقة. فاضطر أتَناز وعائلته الى الانضمام الينا في الحفرة، فبلغ عددنا ١٦ شخصا. كانت الظلمة حالكة ولم نجرؤ على اشعال اي ضوء. اما طعامنا فقد اقتصر على ملعقة واحدة لكل فرد من الارزّ غير المطهو المنقوع في الماء والسكر. ولكن بعد عشرة أيام نفد الطعام منا. وبحلول اليوم الثالث عشر كنا نتضور جوعا. فما العمل؟ من اعلى السُّلّم تمكنا بصعوبة من معرفة ما يحصل في الخارج، فلاحظنا ان الوضع تغير لأن الجنود كانوا يرتدون زيًّا مختلفا. وبما ان عائلة أتَناز حمتني، شعرت انه حان دوري لأردّ الجميل. لذا قررت ان اخرج برفقة احد ابناء أتَناز المراهقين للبحث عن الطعام بعد ان صلينا جميعا معا.
بعد ٣٠ دقيقة تقريبا، عدنا الى المنزل وأخبرناهم ان الجبهة الوطنية الرواندية سيطرت على المنطقة. وكان برفقتنا بعض الجنود، فأريناهم المكان الذي كنا نختبئ فيه. فلم يصدقوا حتى رأوا الاخوة والأخوات يخرجون من الحفرة الواحد تلو الآخر. ولا تنسى زوجتي جورجيت تلك اللحظة ابدا، تقول: «خرجنا متّسخين؛ فقد امضينا حوالي ثلاثة اسابيع تحت الارض من دون ان نغتسل او حتى ان نغسل ملابسنا».
ذهل الجنود عندما رأوا اشخاصا من الفريقين الإثْنِيين معا في تلك الحفرة. فشرحت لهم: «نحن من شهود يهوه ولا نكنّ اي تمييز عنصري واحدنا للآخر». فدُهشوا من هذا الكلام وقالوا: «أعطوا طعاما وسكرا لهؤلاء الاشخاص الخارجين من الحفرة!». ثم أخذونا الى منزل يؤوي ما يقارب الـ ١٠٠ شخص لفترة مؤقتة. بعد ذلك، أصرّت احدى الأخوات ان نقيم نحن الـ ١٦ مع عائلتها.
كم نحن شاكرون ليهوه على إبقائنا احياء! ولكن للأسف الشديد، قُتل اخي وأختي وعائلتاهما، وهم كلهم من الشهود، هذا الى جانب عدد كبير من معارفنا. رغم شدة الصدمة، نحن نعرف ‹ان الوقت والحوادث غير المتوقعة تصيبنا كافة›. ولسان حالنا هو كلسان حال جورجيت التي قالت: «لقد خسرنا الكثير من إخوتنا وأخواتنا، كما ان عديدين مرّوا بتجارب مروّعة، منها الهرب والاختباء. رغم كل شيء، تمكنا من تقوية علاقتنا بيهوه من خلال الصلاة، ورأينا ان يد يهوه قوية. فقد كان عونا لنا اذ ساعدنا في الوقت المناسب بواسطة هيئته، ونحن شاكرون له على ذلك. نعم، باركنا يهوه بسخاء!». — جا ٩:١١.
[الاطار/الصورتان في الصفحتين ٢٠٨ و ٢٠٩]
لم يتركنا يهوه خلال تلك الاوقات العصيبة
ألبير باهاتي
تاريخ الولادة: ١٩٥٨
تاريخ المعمودية: ١٩٨٠
لمحة عن حياته: شيخ متأهِّل وله ثلاثة اولاد. تخدم زوجته وابنته الكبرى فاتحتَين عاديتَين، اما ابنه فهو خادم مساعد. عندما بدأ هذا الاخ الوديع من الهوتو بحضور الاجتماعات سنة ١٩٧٧، كان عدد الناشرين في رواندا حوالي الـ ٧٠. عام ١٩٨٨، دخل الى السجن ونال نصيبه من الضرب. وعندما رفض وضع شارة الحزب السياسي قام احد جيرانه، الذي كان جنديا سابقا، بغرز دبوس الشارة في جلده ثم قال باستهزاء: «ها انت تضعها الآن!».
◼ بعد وفاة رئيسَي رواندا وبوروندي، انتقل بعض الاخوة والأقارب والجيران الى منزلي. إلا اني كنت قلقا على أُختَين من التوتسي هما ڠورِتي وسوزان لأنهما لم تكونا معنا. ومع ان الوضع كان شديد الخطورة، ذهبتُ لأبحث عنهما. وإذ بي ألمح، بين جمهور النازحين، الاخت ڠورِتي مع ولدَيها. فأخذتهم الى منزلي لأني علمت انهم سيُقتلون لا محالة على الحاجز الذي سيمرون به وهم في طريقهم.
لم يمضِ وقت طويل حتى انضمت سوزان الينا مع خمس اخوات اخريات. فوصل عددنا الى اكثر من عشرين شخصا في المنزل. وكان الخطر يحدق بنا جميعا.
ففي ثلاث مناسبات على الأقل، أتى الانترَهاموِ الى منزلي. وذات مرة، رأوا زوجتي ڤِستين، وهي من التوتسي، عبر الشباك فطلبوا منها الخروج. فوقفتُ بينها وبين القتلة وقلت لهم: «لن تقتلوها إلا فوق جثتي!». وبعدما تشاوروا طلبوا منها ان تدخل الى المنزل. فقال احدهم: «لا أريد ان اقتل امرأة، بل رجلا». ثم لفت انتباههم أخو زوجتي. وفيما اقتادوه الى الخارج، رميت بنفسي بينهم وبين الشاب ورجَوتهم: «حبًّا باللّٰه اتركوه!».
فأجاب واحد منهم وهو يلطمني بمِرفقه: «أنا لا أعمل لدى اللّٰه». وما لبث ان لان ثم قال لي: «خذه واغرب عن وجهنا!» وهكذا نجا أخو زوجتي من الموت.
بعد شهر تقريبا، أتى أخَوان يبحثان عن طعام. وبما انني كنت املك مخزونا كافيا من الفاصولياء، أعطيتهم حصة منه. وفيما كنت ارافقهما لأدّلهما على طريق آمن، سمعت صوت إطلاق نار وفقدت الوعي جراء شظية أصابتني في عيني. فهبّ احد الجيران الى مساعدتي وأوصلني الى المستشفى. والنتيجة اني فقدت البصر في عيني المصابة. والأسوأ من هذا كله هو انني لم استطع العودة الى البيت. في غضون ذلك، اشتدّ الصراع، وأصبح من الخطر على كل مَن كان في منزلي البقاء فترة اطول. فانتقل الجميع الى منازل إخوة آخرين عرّضوا حياتهم للخطر من اجل حمايتهم، وبقوا هناك حتى حزيران (يونيو) ١٩٩٤. ولم أتمكن من الانضمام الى زوجتي وعائلتي حتى تشرين الاول (اكتوبر). وكم انا شاكر ليهوه لأنه لم يتركنا انا وعائلتي خلال كل هذه الاوقات العصيبة.
[الصورة]
ألبير باهاتي مع عائلته وآخرين كان قد خبأهم
[الاطار/الصورة في الصفحات ٢١٠-٢١٢]
«هذه هي الطريق»
ڠاسپار نيونْڠيرا
تاريخ الولادة: ١٩٥٤
تاريخ المعمودية: ١٩٧٨
لمحة عن حياته: دافع عن الحق بشجاعة، ابتسامته لا تفارق وجهه وموقفه دائما ايجابي. وهو الآن متزوج وله ثلاث بنات، ويخدم عضوا في لجنة الفرع في رواندا.
◼ بعد إطلاق النار الذي بدأ في الصباح الباكر من ٧ نيسان (ابريل)، رأيت ألسنة النار تتصاعد من حوالي ١٥ منزلا لأشخاص من التوتسي، من بينها منزلان لاثنين من اخوتنا. فتساءلت هل سيكون منزلي هو التالي؟ كدت افقد عقلي خوفا مما سيحدث لزوجتي، التي كانت من التوتسي، ولابنتَيَّ.
لم ادرِ ما العمل. فقد ساد التشويش والذعر وانتشرت الاشاعات والتقارير الخاطئة. ففكرت ان انقل زوجتي وابنتَيَّ الى منزل احد الاخوة الاكثر امانا في الجوار، ثم انضم إليهن لاحقا. وعندما تمكنت من اللحاق بهن، اكتشفت انها أُجبرت على الهروب الى مجمَّع مدرسي ضخم. ثم اتى بعد ظهر ذلك اليوم احد الجيران وقال لي: «سيُذبح كل التوتسي الذين لاذوا بالمدرسة لإنقاذ حياتهم!». فركضت فورا الى المدرسة وعثرت على زوجتي وابنتَيَّ، ثم جمعت نحو ٢٠ شخصا، من بينهم إخوة وأخوات، وقلت لهم ان يعودوا الى منازلهم. اثناء مغادرتنا المكان، رأيت الميليشيا تقود اشخاصا الى موقع خارج المدينة. ولاحقا علمت انهم قتلوا هناك اكثر من ٠٠٠,٢ شخص من التوتسي.
في ذلك الوقت، وضعت زوجة احد الجيران طفلا في المجمَّع المدرسي. وعندما رمى الانترَهاموِ قنبلة يدوية في المدرسة، هرب الوالد مع الطفل المولود حديثا، في حين هربت الوالدة المذعورة في الاتجاه المعاكس. ومع ان الوالد هو من التوتسي، تمكن من عبور كل الحواجز لأنه كان يحمل الطفل، حتى وصل الى منزلي. فطلب مني احضار الحليب للطفل. وفيما جازفت بالخروج، وصلت من دون ان اعي الى حاجز للميليشيا. فاعتبروني متعاطفا مع التوتسي لأنني ذهبت لأحضر حليبا لطفل منهم، لذا قالوا: «هيا نقتله!». ثم ضربني احد الجنود بطرف بندقيته، ففقدت الوعي وسقطت ارضا وأنا انزف من انفي ووجهي. وإذ ظنوا اني متّ جرّوني الى خلف منزل مجاور وتركوني هناك.
فتعرّف إليّ احد الجيران وقال لي: «يجب ان تغادر الآن، وإلا فسيعودون ويقضون عليك». وقد ساعدني هو بنفسه كي اعود الى منزلي.
صحيح ان هذه الحادثة كانت مؤلمة، ولكن تبيَّن في ما بعد انها لخيري. فبما انني كنت معروفا بعملي كسائق، قصدني في اليوم التالي خمسة رجال ليفرضوا عليَّ العمل سائقا لقائد عسكري. لكنهم عندما رأوا جراحي، لم يصرّوا ولا حتى حاولوا إجباري على القيام بدوريات لصالح الانترَهاموِ.
لم تنتهِ المأساة عند هذا الحد! فبالاضافة الى الذعر والخوف من المجهول، نلنا قسطنا من الجوع. وفي تلك الاثناء، قصدتْ منزلي امرأة من التوتسي مع ولدَيها الصغيرين. فخبأناها في خزانة في المطبخ ووضعنا الولدَين مع اولادي في غرفة اخرى. ومع تقدّم قوات الجبهة الوطنية الرواندية، شاعت اخبار ان الانترَهاموِ باشروا عمليات تطهير بقتل الرجال الهوتو المتزوجين بنساء من التوتسي، لذا استعدَّت كامل العائلة للهرب من جديد. لكن الجبهة الوطنية كانت قد فرضت سيطرتها على المنطقة. فزال الخطر عن التوتسي، وصرت انا في خطر. لذا، هربت مع مجموعة من الجيران.
وفيما كنا نمر بحاجز تابع للجبهة الوطنية الرواندية، ظنّوا اني من افراد الميليشيا، فأنا من الهوتو وأضع ضمادة على رأسي. فصاحوا بي وبجيراني قائلين: «كيف تجرؤون على طلب المساعدة وأنتم تحمون قتلة وناهبين! مَن منكم حمى او خبأ اشخاصا من التوتسي؟». فأشرت الى المرأة وولدَيها الذين خبأتهم. ثم أخذوا الولدَين على جنب وسألوهما: «مَن هو هذا الرجل الذي يضع ضمادة على رأسه؟». فأجابا: «انه ليس من الانترَهاموِ، بل من شهود يهوه. وهو شخص جيد». لقد خلّصتُ هذه المرأة هي وولدَيها من الموت، وها هم الآن يخلصونني!
بعدما اكتفى الجنود بهذه الاجوبة، اخذونا الى مخيَّم يبعد نحو ٢٠ كليومترا عن كيڠالي، حيث اجتمع ما يقارب الـ ٠٠٠,١٦ ناج. فالتقينا هناك حوالي ٦٠ اخا وأختا من ١٤ جماعة مختلفة. وفي المخيَّم، عقدنا الاجتماعات، وقد حضر اول اجتماع ٩٦ شخصا! ولكننا مررنا ايضا بأوقات عصيبة عندما وصلتنا تقارير عن الاصدقاء الذين قُتلوا والأخوات اللواتي اغتُصبن. كنت الشيخ الوحيد بين عدد كبير من الاخوة والأخوات الذين احتاجوا الى التعزية والمساعدة من الاسفار المقدسة. فاستمعت الى قصصهم المفجعة وأكدت لهم ان يهوه يحبهم ويتفهم ألمهم.
وأخيرا، في ١٠ تموز (يوليو)، بعد اسابيع طويلة من الرعب، تمكنا من العودة الى منازلنا. وما زلت اذكر انه خلال الفترات التي شعرت فيها بالخوف والخطر، غالبا ما خطرت ببالي كلمات الترنيمة بعنوان «هذه هي الطريق». فقد مدّتني كلماتها بالشجاعة: «لا نشرد يمينا او نحو اليسار، ولنسلك سبيل الأبرار المُنار».
[الاطار/الصورتان في الصفحتين ٢٢٣ و ٢٢٤]
سمعت صوتا يناديني
هانك ڤان بوسل
تاريخ الولادة: ١٩٥٧
تاريخ المعمودية: ١٩٧٦
لمحة عن حياته: خدم في بيت ايل بهولندا قبل حضوره مدرسة جلعاد سنة ١٩٨٤. وقد تعيَّن بعدها في جمهورية افريقيا الوسطى ثم تشاد، وأخيرا رواندا في ايلول (سبتمبر) ١٩٩٢. وهو يخدم الآن مع زوجته بِرت في مكتب الفرع هناك.
◼ كانت جماعة كيڠالي سود اول جماعة عيِّنتُ فيها، وقد ضمت اخوة وأخوات وديين ومضيافين اضافة الى عدد كبير من الاولاد. وحين وصلت سنة ١٩٩٢ الى رواندا، لم يكن قد تأسس الكثير من الجماعات هناك، ولم يكد يتجاوز عدد الناشرين الـ ٥٠٠,١ شخص. ولأن السلطات كانت لا تزال تشك في امرنا، عَمَدت الشرطة ان تقاطع عملنا الكرازي من وقت الى آخر لتتحقق من بطاقات هويتنا.
عندما بدأت الابادة الجماعية، اضطررتُ الى مغادرة البلاد. ولكن سرعان ما طُلب مني مساعدة اللاجئين شرقي الكونغو. فذهبت من نيروبي الى ڠوما، مدينة على الحدود مع رواندا. كانت تلك المرة الاولى التي اذهب فيها الى هذه المنطقة. وكنت اجهلها تماما ولم املك اية معلومة سوى اسم احد الشيوخ، فتساءلت كيف سأجده. ولكن فور وصولي، استعلمت عنه من سائق سيارة الاجرة الذي تشاور بدوره مع بعض السائقين الآخرين. وفي غضون ثلاثين دقيقة أنزلني امام منزل هذا الشيخ. في تلك الاثناء، تمكن اثنان من الاخوة في لجنة البلد برواندا من عبور الحدود الى ڠوما، فأعطيتهم المال الذي تسلمته من مكتب الفرع في كينيا لمساعدة الشهود في رواندا.
بعد مدة، سافرت مرة اخرى من نيروبي الى ڠوما. وأذكر اني ذهبت من ڠوما سيرا على الاقدام لبلوغ الحدود الرواندية. وعلى الرغم من ان المسافة قصيرة، إلا انه لزمني وقت طويل كي اصل بسبب حشود اللاجئين المتدفقين من رواندا.
وفي الطريق، سمعتُ فجأة صوتا يناديني: «أخ هانك! أخ هانك!». فالتفتُّ وإذا بألفونسين امام عيني. وهي فتاة بعمر ١٤ سنة تقريبا، تنتمي الى الجماعة نفسها التي خدمت معها في كيڠالي. وكانت قد انفصلت عن والدتها في معمعة الحرب. فأخذت بيدها ومشينا مع هذا الحشد الهائل حتى وصلنا الى قاعة الملكوت التي كانت نقطة تجمُّع الاخوة والأخوات اللاجئين. فأُحيطت برعاية عائلة كونغولية، ثم اخذتها أخت لاجئة من جماعتها الام للاعتناء بها. ولاحقا اجتمعت ألفونسين بوالدتها في كيڠالي.
[الصورة]
هانك مع زوجته بِرت
[الاطار/الصورة في الصفحتين ٢٣٥ و٢٣٦]
لقد صنع يهوه عظائم لا تُحصى!
ڠونتر راشكي
تاريخ الولادة: ١٩٣٧
تاريخ المعمودية: ١٩٥٣
لمحة عن حياته: بدأ بعمل الفتح سنة ١٩٥٨ وحضر الصف الـ ٤٣ لجلعاد. ومنذ عام ١٩٦٧، خدم في الغابون وجمهورية افريقيا الوسطى وكينيا، كما زار عدة بلدان اخرى كناظر جائل. وهو الآن عضو في لجنة الفرع في رواندا.
◼ زرت رواندا للمرة الاولى سنة ١٩٨٠، عندما قدِمتُ كناظر كورة من كينيا. في ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى ١٢٧ ناشرا موزعين على سبع جماعات. كما اني كنت ايضا احد الاستاذَين في اول صف لمدرسة خدمة الفتح يُعقد في رواندا. حضر هذه المدرسة ٢٢ فاتحا، لا يزال اغلبهم حتى الآن في الخدمة كامل الوقت. وبعدما اتممت تعييني، عدت الى كينيا حاملا الذكريات الجميلة عن غيرة الاخوة في الخدمة وتقديرهم للحق.
عام ١٩٩٦، وصلتني رسالة من الفرع في كينيا تدعوني الى الانتقال الى رواندا، بعدما قضيت ١٨ سنة في كينيا واعتدت المكان وأحببته. حين وصلت الى رواندا لم يكن الوضع مستقرا، اذ كنت اسمع ليلا اصوات اطلاق النيران. ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى بدأت اتمتع بتعييني، خصوصا عندما لمست لمس اليد بركات يهوه على العمل هناك.
مثلا، كانت مواقع المحافل بدائية. فقد جلس الاخوة على الارض او الاحجار ومع ذلك لم يتذمروا. كما اقتصرت بركة المعمودية على حفرة كبيرة في الارض مكسوة بقماش الخيم. وبمرور الوقت، تمّ بناء قاعات دون جدران بالاضافة الى قاعات ملكوت قابلة للتوسيع. لكن الكثير من مواقع المحافل في المناطق الداخلية للبلد لا يزال على حالته البدائية.
اما في ما يتعلق بخدمة الحقل، فقد كان الاخوة غيورين في إعلان البشارة. ففي كيڠالي اعتادت الجماعات ان تعقد اجتماعاتها في نهايات الاسابيع في وقت باكر جدا. ثم ينطلق الناشرون الى الكرازة ويواصلون نشاطهم حتى المساء.
كان للاحداث ايضا حصتهم من الاهتمام. فقد خصصتُ الوقت لهم لأدعمهم، لأنهم سيصبحون ناشرين في المستقبل وقادرين على تحمّل المزيد من المسؤوليات. وكم هو جميل ان نرى كيف ان كثيرين منهم اتخذوا مواقف شجاعة الى جانب الحق، وبرهنوا على امتلاكهم علاقة شخصية بيهوه رغم صغر سنهم!
على سبيل المثال، طُلب من لوك، الساكن في جنوب البلاد والبالغ من العمر ١١ سنة، ان ينشد النشيد الوطني في المدرسة. فطلب بكل احترام ان يرنم بدلا منه احدى ترانيم الملكوت، فوافق الاستاذ. وبعد ان انهى الترنيمة صفق له الجميع. لقد دل حفظه لكلمات الترنيمة ولحنها ايضا انه يجد متعة في تسبيح خالقه. وكم امدني اختباره هذا، اضافة الى اختبارات اخرى، بالكثير من التشجيع! ايضا، التقيت اختا سُجنت منذ بضع سنين بسبب الكرازة بالبشارة. وفي السجن، وضعت طفلا ذكرا سمّته «شيكاما هوداري» (الذي يعني بالسواحلية «البقاء ثابتا»). فعلا، كان اسما على مسمّى. فمؤخرا، حضر شيكاما مدرسة الكتاب المقدس للاخوة العزاب، وهو الآن خادم مساعد وفاتح خصوصي.
طوال سنوات، قاسى اخوتنا في رواندا آلاما شديدة، منها الحظر والحرب الاهلية والابادة الجماعية. رغم ذلك لم تخمد حماستهم للخدمة ولم تنثلم امانتهم. ولطالما مس ذلك قلبي وأشعرني بامتياز الخدمة الى جانبهم. هذا وقد لمست على الدوام بركات يهوه وحمايته ودعمه، ما جعلني اقرب اليه من ذي قبل. نعم، لقد صنع يهوه عظائم لا تُحصى! — مز ١٣٦:٤.
[الجدول/الصور في الصفحتين ٢٥٤ و ٢٥٥]
نبذة تاريخية عن رواندا
١٩٧٠
١٩٧٠ تقارير الناشرين الاوائل.
١٩٧٥ عودة اول عائلة رواندية من الكونغو.
١٩٧٦ اصدار كراس «بشارة الملكوت هذه» بالكينيارواندية.
١٩٧٨ الطبعة الشهرية من برج المراقبة بالكينيارواندية.
١٩٨٠
١٩٨٢ حظر العمل، وسجن الاخوة المسؤولين.
١٩٨٦ اعتقال ثلث الناشرين.
١٩٩٠
١٩٩٠ اندلاع الحرب شمال البلاد.
١٩٩٢ اول محفل كوري يعقد للبلد بكامله.
تسجيل العمل شرعيا.
وصول المرسلين.
١٩٩٤ الابادة الجماعية للتوتسي.
١٩٩٦ عودة المرسلين.
انشاء دائرة الخدمة.
١٩٩٨ اصدار طبعة برج المراقبة بالكينيارواندية بالتزامن مع الطبعة الانكليزية.
١٩٩٩ تدشين قاعة محافل من دون جدران في كيڠالي.
٢٠٠٠
٢٠٠٠ تأسيس مكتب الفرع.
«مكتب بناء قاعات الملكوت» يبدأ بالعمل.
٢٠٠١ الحصول على قطعة ارض لمكتب الفرع الجديد.
٢٠٠٦ تدشين منشآت الفرع الجديدة.
٢٠٠٧ اصدار الاسفار اليونانية المسيحية — ترجمة العالم الجديد بالكينيارواندية.
٢٠١٠
٢٠١٠ اصدار كامل الكتاب المقدس — ترجمة العالم الجديد بالكينيارواندية.
[الرسم البياني/الصورة في الصفحة ٢٣٤]
(اطلب النص في شكله المنسَّق في المطبوعة)
مجموع الناشرين
مجموع الفاتحين
٠٠٠,٢٠
٠٠٠,١٥
٠٠٠,١٠
٠٠٠,٥
١٩٨٥ ١٩٩٠ ١٩٩٥ ٢٠٠٠ ٢٠٠٥ ٢٠١٠
[الخرائط في الصفحة ١٦٧]
(اطلب النص في شكله المنسَّق في المطبوعة)
أوغندا
جمهورية الكونغو الديموقراطية
بركان نيراڠونڠو
ڠوما
بوروندي
تنزانيا
رواندا
كيڠالي
جبال ڤيرونڠا
بركان كاريسيمبي
روهنڠاري (الآن موسانزي)
ڠيسِنْيي (الآن روباڤو)
بحيرة كيڤو
بوكاڤو
كانومبي
ماساكا
ڠيتَراما (الآن موهانڠا)
بوڠَسيرا
نيابيسِندو (الآن نيانزا)
سايڤ
بوتاري (الآن هُووي)
خط الاستواء
[الصورة في الصفحتين ١٦٤ و ١٦٥]
الصيد في بحيرة كيڤو
[الصورتان في الصفحة ١٦٩]
أودِن وأيْنِيا مَوايْسوبا
[الصورة في الصفحة ١٧٠]
ڠاسپار رْوَاكابوبو مع ابنته ديبورا وزوجته ميلاني
[الصورة في الصفحة ١٧١]
«بشارة الملكوت هذه» بالكينيارواندية
[الصورة في الصفحة ١٧٢]
جاستن رْواڠاتور
[الصورة في الصفحة ١٧٢]
فرديناند موڠارورا
[الصورة في الصفحة ١٧٣]
الاشخاص الثلاثة الذين اعتمدوا سنة ١٩٧٦: ايمانويل بازاتْسيندا، پيار تْواڠِرايزو، وليوپولد هارِريمانا
[الصورة في الصفحة ١٧٤]
المطبوعات باللغة الكينيارواندية
[الصورة في الصفحة ١٧٩]
فوكاس هاكيزوموامي
[الصورة في الصفحة ١٨٠]
پالاتين نْسانْزورْويمو مع زوجته (الى اليمين) وأولاده
[الصورة في الصفحة ١٨١]
أوديت موكاندِكِزي
[الصورة في الصفحة ١٨٢]
هنري سِنْيونڠا على دراجته النارية
[الصورة في الصفحة ١٨٨]
وثيقة تسجيلنا شرعيا بتاريخ ١٣ نيسان (ابريل) ١٩٩٢
[الصورة في الصفحة ١٩٠]
الاخوة يزيلون المنصة من اجل مباراة كرة القدم
[الصورة في الصفحة ١٩٢]
لِنارد ونانسي إليس (في الوسط) مع عائلتَي رْوَاكابوبو وسومبِه
[الصورة في الصفحة ١٩٣]
حطام الطائرة قرب كيڠالي
[الصورتان في الصفحة ١٩٩]
«فقدنا اخوّتنا»، لافتة على حائط كنيسة كاثوليكية في كيبُوِي (الآن كارونڠي)
[الصورة في الصفحة ٢١٤]
من اليسار الى اليمين: اندريه تواهيرا، جان دو ديو، إيماكولي، شانتال (مع الطفلة)، سوزان؛ (في الامام) ولدا موڠابو: جان–لوك وأڠاپِه
[الصورة في الصفحة ٢١٦]
ڤِداست بيمِنيمانا يدير درسا في الكتاب المقدس
[الصورة في الصفحة ٢١٧]
تارسيس سِمينيڠا وزوجته شانتال
[الصورة في الصفحة ٢١٨]
جاستن وتارسيس الى جانب الكوخ الذي اختبأ فيه تارسيس وعائلته مدة شهر
[الصورتان في الصفحة ٢٢٦]
في الاعلى: مخيمات اللاجئين للشهود الروانديين؛ في الاسفل: مخيمات تضم شهودا وغيرهم من اللاجئين
ڠوما، الكونغو
بيناكو، تنزانيا
[الصورتان في الصفحة ٢٢٩]
استُخدمت قاعة الملكوت مستشفى
[الصورة في الصفحة ٢٣٨]
أُرِست وعائلته سنة ١٩٩٦
[الصورة في الصفحة ٢٤٠]
ثيوبولد وبِرانسيل مونيامپوندو
[الصورتان في الصفحة ٢٤١]
اخوة وأخوات من التوتسي والهوتو يعدّون الارض من اجل قاعة المحافل الجديدة
[الصورة في الصفحة ٢٤٢]
قاعة محافل دون جدران في كيڠالي سنة ٢٠٠٦
[الصورة في الصفحة ٢٤٣]
مدرسة تدريب الخدام في كيڠالي سنة ٢٠٠٨
[الصورة في الصفحة ٢٤٦]
قسم لغة الاشارات في يوم المحفل الخصوصي في ڠيسِنْيي عام ٢٠١١
[الصورة في الصفحة ٢٤٨]
فرانسوا ڠْزاڤيِه هاكيزيمانا
[الصور في الصفحتين ٢٥٢ و ٢٥٣]
اخوة وأخوات يعملون جنبا الى جنب مع «سيد الحصاد» في هذا الحقل الخصب، من دون اية نية في التباطؤ